القرم بين طموحات العثمانيين وأوهام العلاقات الطيبة مع تركيا

القرم بين طموحات العثمانيين وأوهام العلاقات الطيبة مع تركيا

استبق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارته ومباحثاته مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي على ضفاف البحر الأسود، بسلسلة تصريحات أعاد فيها ما سبق وقاله حول عدم اعترافه بضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم.

كما حرص أردوغان على لقاء نظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي على هامش مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتأكيد دعمه العسكري وإمداده لكييف بالطائرات المسيّرة التي جرى استخدامها في العمليات القتالية ضد خصومه في جنوب شرقي أوكرانيا.

وكان دميتري بيسكوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين، علّق على ذلك بقوله إن تصريحات أردوغان وعلى الرغم من أنها ليست جديدة وسبق واطلع الكرملين على جوهرها وتفاصيلها، فإنها “تترك أثراً غير طيب”.

أوهام العلاقة الطيبة

ومن اللافت في هذا الصدد أن الصحافة وأجهزة الإعلام الروسية لم تتخلّف عن التوجه ذاته في ذات الاتجاه، إذ تولّت الرد والتعليق على تصريحات الرئيس التركي، ومنها ما نشرته صحيفة “أرغومينتي إي فاكتي” (وقائع وبراهين) تعليقاً على تصريحات أردوغان التي عاد إلى تكرارها في خطابه الذي ألقاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة حول “رفضه الاعتراف بكون شبه جزيرة القرم جزءاً من روسيا”.

ولم يكتفِ الرئيس التركي بذلك، إذ سبق وأعلنت أنقرة رفضها الاعتراف بانتخابات نواب مجلس الدوما، التي أُجريت في شبه جزيرة القرم، وهو ما وصفه الكرملين بغير المقبول.

ونقلت الصحيفة عن سيميون باغداساروف، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، تصريحاته التي وصف فيها ما يُقال حول إن العلاقات بين البلدين طيبة بأنها “مجرد أوهام”. وأضاف أن “لا أساس للقول إن العلاقات بين روسيا وتركيا جيدة اليوم. فهل لدينا علاقة جيدة معها في سوريا؟ بحسب أردوغان نفسه، هم ضموا عملياً 4 آلاف كيلومتر مربع من الأراضي السورية”.

وتابع، “ربما لدينا علاقات جيدة مع تركيا في جنوب القوقاز؟ لكن أذربيجان باتت، عملياً، وفي الواقع، الشريك الأصغر لأنقرة، وهناك نفوذ تركي كامل، وجورجيا أيضاً تحت سيطرة الأتراك، وأرمينيا تتحرّك في هذا الاتجاه، ثم، لماذا تزوّد تركيا أوكرانيا بالسلاح؟”.

وسخر الإعلامي مما يُذكر حول العلاقات الطيبة بين البلدين بقوله “إن لدينا علاقات جيدة فقط مع الأتراك الذين يكسبون المال من روسيا. في محطة أكويو للطاقة النووية، وفي (السيل التركي). لكن لا علاقة لذلك بمصالح الدولة”، ليخلص إلى القول “إن أردوغان يوسّع نفوذ تركيا، ويقيم ما يشبه الإمبراطورية العثمانية. وإذا ما احتاج من أجل تحقيق هدفه إضعاف نفوذ روسيا، وإخراجنا من مناطق معينة، فسيفعل ذلك”.

ولم يكتفِ باغداساروف بذلك، ليضيف أن أحداً لا يراوده الشك حول أن تركيا تضمر مخططاً لإقامة ما يُسمّى باتحاد البلدان الطورانية من الممكن أن يضم خمساً من الجمهوريات السوفياتية السابقة، هي أذربيجان وأوزبكستان وقرغيزستان وكازخستان، إضافة إلى تركمانستان، في إطار ما وصفه بمحاولات “طرد الذئب التركي الدب الروسي من معقله الجنوبي”.

أما صحيفة “كوميرسانت”، إحدى أهم الصحف الروسية الأوسع انتشاراً، فكتبت أن “تركيا تجاوزت حدودها عبر القرم”. وأشارت الصحيفة في مقال لها بقلم كيريل كريفوشييف إلى ما صدر عن السلطات التركية من تصريحات متكررة، وصفتها بـ “المستفزة”، قالت فيها إن “أنقرة لا تعترف بتبعية شبه الجزيرة لروسيا”.

كما نقلت ما صدر عن وزارة الخارجية التركية من بيان أكدت فيه أن “نتائج انتخابات مجلس الدوما في شبه جزيرة القرم، ليست لها قوة قانونية بالنسبة إلى أنقرة”، فضلاً عما قاله أردوغان في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي سبق وأشرنا إليها. غير أن “كوميرسانت” كانت وإلى جانب ما ورد من المصادر التركية من تصريحات “معادية استفزازية”، على حد وصف مراقبين في روسيا، استعرضت أيضاً بعضاً من محاولات عدد من الخبراء الأتراك ممَن راحوا يحاولون التخفيف من وطأة مثل هذه التصريحات، ومنها ما قاله طغرول إسماعيل، الأستاذ في جامعة سيوتشو إمام في مدينة كهرمان مرعش حول أن “يمكن لموسكو وأنقرة دائماً إيجاد لغة مشتركة، وهذا هو السبب في أن تركيا، خلاف الدول الأخرى، لم تفرض بعد أي عقوبات ضد روسيا بسبب شبه جزيرة القرم”. وإضافة إلى هذا التصريح، ما قاله مسعود حقي جاشين، رئيس قسم القانون الدولي في جامعة يدي تبه بإسطنبول، حول أن “تركيا على الرغم من موقفها من شبه جزيرة القرم، تلتقي إلى حد كبير مع موسكو في منتصف الطريق”.

وأضاف، “تركيا، على عكس اليونان وبلغاريا، لم تقدم مجالها الجوي لطائرات الاستطلاع الأميركية والطائرات المسيّرة التي حلّقت فوق البحر الأسود والقرم ومنطقة الصراع في دونباس”.

عثمانية جديدة

ولم يتخلّف عن ركب “الحملة الإعلامية الروسية المضادة لتركيا كاملة العدد”، يفغيني ساتانوفسكي، مدير معهد الشرق الأوسط في موسكو ورئيس المؤتمر اليهودي الروسي الأسبق الذي قال في حديث تلفزيوني، “أردوغان يعتبر شبه جزيرة القرم أرضاً تركية”. وأضاف “إنه ينتظر انهيار روسيا، كما كان الرئيس الأول للجمهورية التركية كمال أتاتورك ينتظر انهيار الاتحاد السوفياتي”.

اقرأ المزيد

أردوغان يتحدى حلفاء “ناتو” بدفعة ثانية من منظومة الدفاع الروسية

أردوغان: العلاقة مع بايدن لم تبدأ بشكل جيد

أردوغان بين خيارين… إما أن يتصالح مع الأسد أو يواجه بوتين
ومضى ساتانوفسكي، وتعني ترجمتها إلى العربية “الشيطاني”، ليعرب عن اعتقاده بأن أردوغان يعمل بنشاط على بناء إمبراطورية عثمانية جديدة، ويحقق نجاحات في هذا المنحى. وقال إنه “يكفي النظر إلى إعلان شوشا للتحالف، الموقع في 15 يونيو (حزيران) من هذا العام، بين أذربيجان وتركيا”.

وأماط البروفيسور اليهودي الروسي الإسرائيلي الجنسية اللثام عن أن “الكتب المدرسية التركية تشير إلى أن العالم التركي يمتد من المجتمعات التركية في أوروبا إلى المحيط المتجمد الشمالي”. بالتالي، فإن “ياقوتيا وألطاي والبايكال هي أيضاً عالم تركي”، بما يحصر أراضي روسيا في المناطق الواقعة على شواطئ نهر الفولغا فحسب، على حد تعبيره.

ولم يكتفِ ساتانوفسكي بهذه الانتقادات التي فضح فيها مخططات القيادة التركية، لينحو باللائمة على القيادة الروسية التي قال إنها تنظر إلى ما يقوله أردوغان حول أن القرم أيضاً أراضٍ تركية، “بروح رياضية” على حد تعبيره. وسخر من التعاون بين البلدين بقوله “إننا نبني سفناً عند الأتراك في أحواض بناء السفن في إسطنبول، لأننا لا نملك أحواض بناء سفن مثلها، ونزودهم بالغاز والنفط، ونقوم ببناء محطة للطاقة النووية هناك على نفقتنا الخاصة، وقد نهضنا بصناعة السياحة في بلادهم”. وذكّر بأن “أردوغان قال إن القرم ليست روسيا. إنه لم يقُل بعد إن “شبه جزيرة القرم تركية، لكنه سيقول ذلك غداً”.

ذلك بعض مما تردد في الأجواء الإعلامية الروسية قبيل مباحثات سوتشي، ما كان يبدو بمثابة الأرضية التي أراد الكرملين أن يعقد في ظلها مباحثات الرئيسين بوتين وأردوغان، رداً على سابق تعليقاته التي بات ما يشبه الإجماع على وصفها بـ”الاستفزازية”.

ولعل هذه القضايا وغيرها من مسائل يغلب عليها الطابع الخلافي، كانت وراء قرار الرئيسين بعدم عقد مؤتمرهما الصحافي المشترك الذي طالما اختتما به الكثير من مباحثاتهما السابقة، وجنوحهما نحو الابتعاد عن كل ما من شأنه التصعيد “السابق لأوانه”، إذا جاز هذا القول.

أما عن مباحثات سوتشي، فبدا واضحاً أن الزعيمين بوتين وأردوغان حرصا في لقائهما الأول الذي عقداه مباشراً وجهاً لوجه، للمرة الأولى منذ ما يزيد على العام، كانت اتصالاتهما اقتصرت خلاله على المكالمات الهاتفية والتواصل عبر الفيديو كونفرنس، على التركيز على نقاط الاتفاق وتوسيع مساحاتها بعيداً من النقاط الخلافية في ما بينهما.

مباحثات سوتشي

وكشفت المصادر الروسية عن أن مباحثات سوتشي لم تخرج عن جدول الأعمال التقليدي الذي كانت موسكو أعلنت عنه قبيل بداية لقاء الرئيسين. وقالت إن المناقشات التي طالت لما يزيد على الثلاث ساعات، واستهلها الرئيسان بلقاء انفرادي لم يشارك فيه سوى المترجمين، تناولت العلاقات الثنائية والقضايا الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك، وفي مقدمتها سوريا وليبيا وأفغانستان وناغورنو قره باغ.

وشأن ما يفعل في معظم لقاءاته مع ضيوفه ممن ترتبط بهم الكثير من اهتمامات بلاده، استهل الرئيس بوتين حديثه بالإشادة بما تحقق بين البلدين من إنجازات اقتصادية واستثمارات مشتركة بلغت من الجانب التركي ما يقرب من مليار ونصف المليار دولار، مقابل ست مليارات ونصف مليار دولار من الجانب الروسي. وتوقف بوتين عند التعاون في مجال الطاقة، لا سيما ما يتعلق منها ببناء خط إمدادات الغاز “التيار الجنوبي”، والتعاون في مجال بناء المحطة النووية “أكيو” المقرر الانتهاء من أعمال مفاعلها الأول في العام المقبل.

وفي هذا الصدد، أعرب بوتين عن عالي تقديره لما وصفه بـ “موقف أنقرة الثابت” بشأن إنشاء خط أنابيب الغاز التركي، الذي يُلبي “مصالح الشعب التركي وروسيا”. وخلص إلى القول “الآن تشعر تركيا بالثقة وكامل الاستقرار، في الوقت الذي تسود الاضطرابات المعقدة للغاية أسواق الغاز الأوروبية”.

ومن جانبه، أعلن أردوغان أن الجانبين لطالما حرصا على الخروج دوماً بعلاقاتهما بعيداً من الاختلاف، اعتماداً على قدراتهما في التوصل إلى النتائج المنشودة عبر الحلول الوسط، في إشارة إلى الكثير من المواقف الخلافية التي طالما واجهت القيادتين لدى التطرق إلى القضايا السياسية، بل والاقتصادية في بعض الأحيان.

وحول الموقف الراهن على صعيد تسوية النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، قال بوتين إن مركز الرقابة الروسي التركي على وقف إطلاق النار في قره باغ، يعمل بنشاط، ويظل “ضماناً جاداً للاستقرار والتنسيق” لمواقف يريفان وباكو بشأن خطوات أخرى تهدف إلى المصالحة.

وأشار الرئيس الروسي إلى ما تحقق من نجاح كبير، بحسب تقديره، على صعيد تفاعل الأطراف حول قضايا أخرى على جدول الأعمال الدولي، التي كان يعني بها “كلاً من سوريا واتصالاتنا لتنسيق المواقف بشأن ليبيا”.

بالنسبة إلى سوريا، وعلى الرغم من تكتم الجانبين عن تفاصيل ما جرى من نقاش حوله، فثمة ما يشير إلى أن موسكو تظل عند موقفها من ضرورة الالتزام بما جرى التعهد به والاتفاق حوله بين الرئيسين بشأن رفض الحلول العسكرية لنزع فتيل التوتر في منطقة إدلب في إطار الحفاظ على وحدة أراضي الدولة السورية.

ونقلت وكالة أنباء “تاس” عن أندريه كورتونوف، رئيس مجلس الشؤون الدولية الروسي، قوله إن “مباحثات سوتشي تطرقت إلى عدد من القضايا ذات الطبيعة الشديدة الحساسية، ومنها ما يتعلق بالأوضاع في سوريا التي تعتمد مواقف كل من الجانبين تجاهها على العلاقات بين الزعيمين، وما يمكن بلوغه من تفاهم متبادل في ما بينهما على أعلى مستوى، قبل التحول إلى العمل الدبلوماسي لتقنين ما يمكن أن يصلا إليه من مواقف وحلول مقترحة”.

وكشف الخبير الروسي عن احتمالات أن تشهد الفترة القريبة المقبلة “اتصالات أو زيارات على مستوى وزراء الخارجية والدفاع، أو أي من ممثلي الوزارات المعنية، لموسكو أو أنقرة”، على ضوء ما جرى التوصل إليه بين الرئيس بوتين ونظيره السوري بشار الأسد خلال زيارته الأخيرة إلى الكرملين ولقاء مبعوثي بوتين وبايدن في سبتمبر (أيلول) الماضي بهذا الصدد.

سامي عمارة

اندبندت عربي