العراق للعراقيين. هذه هي الجملة التي تردّد صداها داخل العراق وخارجه، وجرى التركيز عليها أكثر من باقي محتويات أول خطابٍ لزعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، بعد تصدّره الانتخابات التشريعية التي جرت في العاشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي. وغلب على الخطاب التحذير من “أي تدخل” في العراق، وقال: “سيكون لنا ردّ دبلوماسي عليه، وربما شعبي، فالعراق للعراقيين فقط، ولن نسمح بالتدخل على الإطلاق”. ولم يكن كلام الصدر بحاجة إلى تأويلات، فكل من تابعه فهم منه أنه يقصد الولايات المتحدة وإيران على قدم المساواة، ولكنه في ظل النتائج التي خرجت من الصناديق، تبدو طهران في مرمى الصدر أكثر من واشنطن، لأن القوى الشيعية المحسوبة على إيران المعروفة بـ”تحالف الفتح” تراجع رصيدها بشكل كبير، لمصلحة صعود تيار الصدر الذي لا تثق به طهران، وهي على خلاف معه في محطّات سياسية هامة، منها إرسال مليشيات شيعية للقتال في سورية، وهو ما رفضه الصدر وعارضه. ولكن مشكلة إيران اليوم في العراق تبدو أكبر، وتتمثل في خلخلة ما يعرف بـ”البيت الشيعي” الذي حكم العراق منذ الاحتلال الأميركي عام 2003، من خلال نظام توزيع حصص وإدارة إيرانية للشأن الشيعي العراقي.
بدا جلياً من خطاب الصدر أنه يريد أن يمارس الحكم، والخطوة الأولى المترتبة على ذلك أن يكون رئيس الحكومة القادمة من التيار الصدري. وهذا يعني خروجاً عن الآلية التي فرضتها طهران منذ 2003. وما تضغط من أجله إيران مباشرة، أو من خلال القوى الشيعية هو العودة إلى آلية اختيار رئيس وزراء توافقي يحافظ على وحدة “البيت الشيعي”، على عكس ما يخطّط له الصدر أن تكون هناك حكومة أغلبية مشكّلة من القوى الثلاث ذات النصيب الأكبر في البرلمان الجديد، وهي التيار الصدري (73 نائباً)، و”تحالف تقدّم” السني الذي يمثله رئيس البرلمان المنتهية ولايته، محمد الحلبوسي، الذي فاز بـ47 مقعداً، والحزب الديموقراطي الكردستاني الذي فاز بـ32 مقعداً. وهناك بوادر على هذا التوجّه، يتوقف نجاحها على مدى مواجهة ضغوط إيران، ليس من الصدر وحده، بل الحلبوسي، والحزب الديموقراطي الكردي، ومرجعيته عائلة البارزاني.
ومعروفٌ أن التيار الصدري ليس حزباً سياسياً بالمعنى المتعارف عليه، على الرغم من أنه خاض الانتخابات بتخطيطٍ مدروسٍ سمح له الفوز بالحصة الأكبر، فهو نشأ كمليشيا “جيش المهدي” الذي تعرّض للضرب من رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، وبقي التيار حياً بفضل حضور الصدر الذي يتمتع بقدرة كبيرة على المناورة. وتبيّن من قراءة أولية في اتجاهات التصويت في الانتخابات أنه حصل على أكبر رصيد في أوساط الشيعة الفقراء، الذين يعوّلون على عودة الدولة العراقية القوية، كي تحارب الفساد والسلاح المنفلت، وتنهض بالاقتصاد والخدمات. وضمن هذا التوجه، تشكل الدورة الانتخابية الحالية محطّة فارقة على مستوى العملية السياسية التي بدأت مع الاحتلال الأميركي، واستنفدت أغراضها بالنسبة إلى الغالبية العظمى من العراقيين الذين يرون أنها لم تجدّد نفسها، وباتت مكلفة، فيما يبحث العراقيون عن الاستقرار والحياة الطبيعية، ولا يأتي ذلك إلا بالخلاص من نظامٍ وضع يده على الموارد، وحوّل كل شيء إلى أزمة. وبالتالي، يمكن اعتبار هذه الدورة تأسيسيةً للدورة المقبلة، المقرّرة في عام 2025، والتي يجري التعويل عليها كي تكون مختلفةً بعد صعود قوى سياسية جديدة ذات حضور في الشارع، تمتلك خطاباً جديداً ومختلفاً قادراً على مخاطبة العراقيين، وإقناعهم بضرورة دفن العملية السياسية الراهنة، وهذا يتطلب من حركة تشرين أن تستخلص الدروس التي تنتج وعياً إصلاحياً وتشكيل معارضة مستقلة. ويرتبط ذلك، إلى حد كبير، بمدى نجاح الصدر في تجاوز العقبات الإيرانية.
العربي الجديد