يبدو أن التغير قد أصبح السمة الملازمة لإقليم الشرق الأوسط منذ عقود، إما بفعل عوامل دولية مثل انتهاء الحرب الباردة، أو أحداث 11 سبتمبر 2001، أو بفعل أحداث دولية إقليمية مثل الغزو الأمريكي – البريطاني للعراق 2003، أو بفعل عوامل إقليمية مثل الغزو العراقي للكويت 1990، أو بفعل عوامل داخلية مثل انطلاق ثورات “الربيع العربي” منذ عام 2011. وأخيرا، جاء الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية -كمتغير إقليمي دولي- ليلقي بتأثيراته علي الإقليم، مما سيحدث حالة من التغير غير المسبوق في تفاعلات الإقليم.
فقبل التوصل للاتفاق النووي بسنوات، كان الشرق الأوسط ولا يزال يشهد تغيرات كبري، جراء ثورات الربيع العربي، حيث استطاعت قوي التغيير إزاحة قوي الاستبداد، وفتحت الباب واسعا للعديد من التغيرات والتفاعلات الداخلية في اتجاه الحكم الديمقراطي. قليل من هذه الدول من نجح، وكثير منها تعثر. وفتح التعثر مجالا واسعا للعنف والعنف المضاد، وصل في بعض الأحيان إلي مستوي الحرب الأهلية. بل إن كثيرا من القوي الإقليمية -التي لم تصبها الثورات- نظرت بعين القلق والتوتر خشية أن يصيبها ما أصاب الآخرين من شرور الثورات، علي حد ظنها، في حين وجدت بعض القوي الإقليمية في هذه الثورات ضالتها، أملا أن تفرز هذه الثورات من الفرص ما تعزز بها دورها الإقليمي. وكانت النتيجة الطبيعية أن الأمن القومي للدولة الوطنية العربية أصبح عرضة للخطر والتهديد، وأصبح كيانها معرضا للانقسام والتفتت، في ظل تزايد النعرات القومية والطائفية، وفي ظل انتشار قوي الإرهاب، مستغلة الفراغ السياسي والأمني في معظم هذه الدول.
وجاء الاتفاق النووي الإيراني – الغربي والمشهد الإقليمي هكذا، ليضيف إليه متغيرا جديدا ربما يؤدي إلي تعقد المشهد لا انفراجته. فثمة تداعيات متوقعة يمكنها قلب المشهد الإقليمي رأسا علي عقب. فقد وصف توماس فريدمان الاتفاق بكونه “زلزالا استراتيجيا”، وأن تأثيراته قد تفوق وقع كامب ديفيد والثورة الإيرانية معا في إعادة ترتيب الشرق الأوسط.
فقد يسفر الاتفاق عن شرق أوسط جديد، تكون إيران فيه -لا إسرائيل- الفاعل الإقليمي البارز، مستندة إلي قدراتها الذاتية وتفاهماتها مع القوي الغربية الكبري، ومساندة حلفائها المحليين، في لبنان، وفلسطين، والعراق، وسوريا، واليمن، والبحرين، وتأييد حلفائها الدوليين: روسيا والصين.
فعلي مستوي التفاعلات الدولية، فإن المتغير الجديد يتمثل في أن الولايات المتحدة قد بدأت إجراءاتها الفعلية للانسحاب من الشرق الأوسط والتوجه شرقا، وهذا ما بدا واضحا في الإصرار الأمريكي علي إتمام الاتفاق النووي مع إيران، رغم النواقص والتنازلات. فانسحاب الولايات المتحدة جاء استجابة لعجزها عن حل قضايا الشرق الأوسط بمفردها، في ظل نظام الأحادية القطبية، بل إنها قبلت بكثير من الحلول التي قدمتها روسيا، سواء في أزمة الكيماوي السوري، أو النووي الإيراني، لافتقادها البديل، الأمر الذي يعد اعترافا أمريكيا بتقدم الدور الروسي في الشرق الأوسط، الأمر الذي يساعد أيضا في إزالة حالة الاحتقان بين الولايات المتحدة وروسيا، بسب سياسات الأخيرة في سوريا وأوكرانيا، أي أن الشرق الأوسط يشهد عمليا حالة الانزواء الأمريكي، والتقدم الروسي – الصيني، وربما ميلاد نظام دولي متعدد الأقطاب.
وعلي مستوي التفاعلات الإقليمية الدولية، أفرز الاتفاق حالة غير مسبوقة من التقارب الأمريكي – الإيراني الذي من شأنه أن ينعكس علي كل الملفات الإقليمية، وعلي الدور الأمريكي نفسه، فقد سقط حائط الصد بين الولايات المتحدة وإيران. وكنتيجة حتمية، فالتعاون والتنسيق بينهما سيكون له آثاره علي الإقليم بما يبرز دور إيران كقوة فاعلة في الإقليم. وسيتحول الدور الأمريكي بطبيعة الحال من دور الرادع لإيران إلي دور الموازن بين القوي الإقليمية المتصارعة (إيران – السعودية). بل إن الولايات المتحدة حفاظا علي مصالحها مع إيران، قد تغض الطرف عن مصالح القوي الإقليمية الأخري في الملفات المختلفة، الأمر الذي يدفع إيران نحو مزيد من التشدد في القضايا الإقليمية التي تضطلع فيها بدور مثل سوريا واليمن، ونحو مزيد من سياسة الهيمنة وفرض النفوذ علي الدول الأخري. ولكن الثابت هنا أن الدول العربية ربما تقبل بالحوار والتعاون مع إيران، إذا ما خلصت النيات، لكنها لن تقبل أبدا بسياسة الهيمنة، ومد النفوذ الشيعي.
والمتغير المرتقب علي هذا المستوي أيضا هو تبدل نمط التحالفات، والاتجاه نحو تنويع مصادر السياسة الخارجية وتعددها، وعدم الارتكان فقط إلي حليف استراتيجي وحيد، هو الولايات المتحدة، التي سرعان ما أثبتت التجربة أنها دائمة التخلي عن حلفائها في سبيل مصالحها. فقد انتهجت السعودية سياسة تقارب تجاه روسيا، وتجسد هذا الاتجاه في زيارة ولي ولي العهد السعودي لها، ولقائه الرئيس الروسي، وتوقيع ست اتفاقيات استراتيجية، أبرزها التعاون في مجال الطاقة النووية، وتفعيل التعاون العسكري، وغيرها من المجالات. وقد سبقت مصر في اتجاه تنويع العلاقات مع القوي الكبري بعد ثورة 30 يونيو 2013، خاصة مع روسيا التي زارها الرئيس المصري أخيرا، للاتفاق علي تنفيذ اتفاقات سابقة، خاصة في مجال التسليح، وإنشاء مفاعل نووي مصري سلمي للطاقة النووية بخبرات روسية.
وربما كان المتغير المهم في محور التفاعلات الإقليمية الدولية أن إسرائيل -التي وصفت الاتفاق النووي بانه خطأ تاريخي سيمكن إيران في وقت لاحق من إنتاج أسلحة نووية -بدا أن دورها الوظيفي كوكيل لقوي الغرب في المنطقة آخذ في التقلص. فقد جاء الاتفاق ليبطل هذه الوظيفة (مؤقتا)، وليؤكد أن إسرائيل أصبحت عبئا علي الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط، خاصة بعد أن ذهب رئيس الوزراء الإسرائيلي إلي الكونجرس الأمريكي محاولا تأليب النواب الجمهوريين ضد الاتفاق النووي. علي أية حال، فقد أصبح من الصعب علي إسرائيل مهاجمة البرنامج النووي الإيراني وهو يحظي بالشرعية الدولية وبالاعتراف الدولي كبرنامج مدني سلمي، وإلا أصبحت متهمة أمام المجتمع الدولي بالعدوان، وصارت في مواجهة الولايات المتحدة والغرب، وهذا ما يستحيل علي إسرائيل القيام به، وهي ربيبة الغرب وصنيعته.
وعلي الصعيد ذاته، فإن الاتفاق النووي الإيراني – الغربي قد أدي إلي تقارب تركي – أمريكي، وتركي – إيراني. فتركيا التي كانت ممتنعة أو مترددة عن مشاركة الولايات المتحدة في الحرب علي الإرهاب، ممثلا في تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” -ربما بسسب ما يتردد عن دعمها الخفي لذلك التنظيم- سارعت بعد التوصل للاتفاق النووي بالانقلاب علي “داعش” ومحاربتها، وشن حملات جوية عليها، وذلك بعد أن أدركت أنها ذهبت بعيدا عن الولايات المتحدة، التي بدورها اقتربت كثيرا من طهران. من ناحية أخري ورغم الخلاف السياسي بين تركيا وإيران في العديد من الأزمات الإقليمية، وتحسبا لتداعيات الاتفاق النووي، وبروز دور إيران الإقليمي، في ظل تراجع النفوذ الأمريكي، سارعت تركيا بالتوجه لطهران في زيارة رئاسية، ظاهرها تعزيز العلاقات الاقتصادية، وباطنها تغيير طبيعة العلاقات المتوترة بين الدولتين، منذ سنوات، فضلا عن توقيع خمس اتفاقات اقتصادية، من شأنها زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين من 14 مليار دولار عام 2014 إلي 20-30 مليارا خلال عام .2016
من ناحية أخري، فقد تراجع الرهان الخليجي علي تركيا كموازن لإيران، بسبب هذه المصالح الاقتصادية المتنامية، وبسبب اختلاف المواقف تجاه مصر بعد 30 يونيو، وأيضا لانعدام الحساسيات المذهبية بين إيران وتركيا.
والثابت في إطار التفاعلات الإقليمية الدولية أن روسيا تظل الحليف الموثوق به دائما بالنسبة لحلفائها ومنهم إيران. وقد تسارعت العلاقات بينهما نحو التقدم والفاعلية بعد الاتفاق النووي عما كانت قبله، وكأن إيران أرادت أن تكافئ حليفها رغم الخلافات، ورغم أن الحليف الروسي أحيانا ما كان يقف عند حدود معينة في التعاون مع إيران.
وعلي الصعيد الإقليمي، أحدث الاتفاق متغيرات جديدة، هي تعميق حالة التعاون العربي – العربي عن ذي قبل، خاصة بين معظم دول الخليج العربية، والأردن، ومصر، والمملكة المغربية. وقد تجسدت هذه الروح في الدعوة إلي إنشاء قوات عربية مشتركة، منوط بها القيام بعمليات التدخل السريع، ومنع نشوب النزاعات وإدارتها بما يحفظ استقرار الدول العربية، وسلامة أراضيها، واستقلالها وسيادتها، وهي الدعوة التي لاقت استجابة عربية في القمة العربية السادسة والعشرين التي عقدت في شرم الشيخ المصرية في مارس .2015
وقد تجسدت روح التعاون العربي أيضا في مشاركة عشر دول عربية في “عاصفة الحزم” التي تقودها السعودية ضد الميليشيات الحوثية المدعومة إيرانيا، والتي استولت علي السلطة الشرعية في اليمن. بل إن الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي قال عن “عاصفة الحزم” -في كلمته بالقمة العربية- إنها “تطبيق عملي للدعوة الجادة لتشكيل قوة عربية مشتركة”.
وعلي صعيد آخر، فإذا كانت الدول الغربية الكبري (5+1) قد اعترفت لإيران بحقها في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، فهذا سوف يفتح الباب واسعا أمام الدول العربية للولوج في هذا المجال بعد أن ترددت كثيرا في ذلك. وقد نهجت المملكة السعودية هذا المنحي، فزيارة ولي ولي العهد السعودي لموسكو كانت بصدد الاتفاق علي إنشاء 16 مفاعلا نوويا، في حين أن مصر بصدد الاتفاق النهائي مع روسيا لإنتاج مفاعل نووي في الضبعة. وأعتقد أن كثيرا من الدول العربية بدأت التفكير الجدي في هذا المجال لموازنة التفوق الإيراني النووي.
والثابت، هنا علي الصعيد الإقليمي، أن العرب لا يمكنهم التحالف مع إسرائيل في مواجهة إيران. فهناك قناعة عربية برفض التطبيع مع إسرائيل، لأنها ستظل مصدرا رئيسيا لتهديد الأمن القومي العربي، ما دامت هي مستمرة في احتلالها للأراضي العربية، ومستمرة في عدوانها ضد المقدسات الإسلامية في القدس الشريف، وأن ما أشاعه أحد المواقع الإسرائيلية من وجود تنسيق سعودي – إسرائيلي لمواجهة إيران، وأن إسرائيل يمكنها مساندة العرب في مواجهة إيران بشرط أن يغض العرب الطرف عن القضية الفلسطينية هو ضرب من الخيال، لان القضية الفلسطينية تظل قضية العرب المركزية، حتي قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
ورغم كل هذه المتغيرات والثوابت التي يشهدها الشرق الأوسط، بعد الاتفاق النووي الإيراني – الغربي، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه مجددا هو: الشرق الأوسط إلي أين؟، فهل الإقليم بصدد الدخول إلي الحقبة الإيرانية، في ظل التفاهم الأمريكي – الإيراني، وفي ظل نظام عربي يشهد حالة مستمرة من الفوضي وعدم الاستقرار، أم أن الإقليم سيشهد حالة من التوازن والتوافق؟. أغلب الظن أن هذا الأمر سيتوقف علي السلوك الإيراني، ورد الفعل العربي. فإذا ما أرادت إيران التفاهم والتوافق، فإن ذلك سيدفع الشرق الأوسط في اتجاه الاستقرار. أما إذا أرادت إيران التصعيد، وتعزيز نفوذها الإقليمي علي حساب المصالح العربية، فإن المنطقة ستشهد حقبة جديدة من الصراع، ولن يبقي أمام العرب إما مزيد من التوحد في مواجهة إيران، وإما أن يقبلوا الحياة تحت العباءة الخمينية.
——————————
(*) تقديم ملف العدد” أنماط الصراعات والتحالفات في الشرق الأوسط”، مجلة السياسة الدولية، العدد 202، أكتوبر 2015.