قرر البرلمان التركي الشهر الماضي، السماح للقوات المسلحة التركية بعمليات عابرة للحدود في سوريا والعراق لمدة عامين آخرين، وكان هناك من يدعي قبل عام أن قرار الولايات المتحدة سحب قواتها المقاتلة من العراق سيؤثر في وجودها العسكري في سوريا.
وبطبيعة الحال كان الأكراد الذين يعيشون في الجزء الشمالي من سوريا المسمى “شرق الفرات”، هم الأكثر تضرراً من كلا الوضعين المذكورين أعلاه، ولكن المثير في الأمر أن الأكراد ليسوا من بين أصحاب القرار في ما يتعلق بشرق الفرات في الوقت الحالي، لأن الاستراتيجيات الجيوسياسية للولايات المتحدة وروسيا وتركيا وفرنسا وإيران وسوريا لا تسمح بانخراطهم في سير المناقشات في المنطقة.
ليسوا أصحاب القرار
وقد بادر الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الاتحاد الروسي فلاديمير بوتين في الصيف الماضي بفتح مرحلة نقاش في جنيف، ليس حول سوريا فقط، ولكن أيضاً حول الأكراد على وجه الخصوص، ولا تزال مستمرة.
ويعد مسار هذا الحوار ذا أهمية خاصة بالنسبة إلى مستقبل منح الأكراد حق الحكم الذاتي في شرقي الفرات، وهذه هي النقطة التي دخلت فيها تركيا على الخط.
وكانت تركيا التي أزعجها تهميشها في هذه المحادثات، تبعث، من خلال القيام بعمليات عسكرية مستمرة إلى شرق الفرات، برسالة مفادها أنه “لا يمكنكم تجاهلي”.
من جانبها، كانت موسكو تستمر في دعوة الأكراد إلى “عدم الثقة بالولايات المتحدة وإلى الدخول في حوار مع دمشق”، ولكن يبدو أن الأكراد لا يزالون مهتمين أكثر بموقف واشنطن، إذ تلقوا منها الدعم بالسلاح والعتاد، لأنهم لا يريدون الانصياع لروسيا على حساب الولايات المتحدة.
انتخابات وشيكة
ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر أمام الأكراد هي أنقرة وليس دمشق، فهم يتلقون أكبر الضربات من القوات المسلحة التركية، والسبب في ذلك أن السياسة الداخلية التركية والرأي العام التركي يتأثران للأسف بشكل مواز بطريقة التعامل مع القضية الكردية سلباً وإيجاباً، وبما أن الانتخابات المقبلة أصبحت وشيكة، فقد عاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أصبح ينتهج مع شركائه في الحكم خطاباً إسلاموياً قومياً، ليصف جميع الأكراد في شرق الفرات بأنهم “إرهابيون”.
والحال أن أكراد شمال سوريا لم يشكلوا أي تهديد لأمن تركيا، ولم يهاجموا أراضيها قط، وعلى العكس من ذلك كانوا أكثر انشغالًا بالدفاع عن أنفسهم.
ولكن تحاول أنقرة تبرير هجومها على الأكراد باستخدام شماعة الحرب ضد الإرهاب كذريعة لانتهاك القانون الدولي، مع أن هدفها الأساس هو التحكم في تحديد مصير الأكراد، ومنع تشكيل “ممر كردي” على الحدود السورية – التركية من شأنه أن يتحول في المستقبل إلى دولة كردية، ولربما يمكن تفهم هذا الأمر إذا نظرنا إلى الأمر من منظور عقل الدولة التركية وهواجسها المتعلقة بالأمن القومي.
اقرأ المزيد
الأكراد يتهمون تركيا بقتل 3 مدنيين في شمال شرقي سوريا
طبول الحرب تقرع على ضفاف الفرات السوري بين أنقرة والأكراد
الأكراد يتلقون تأكيدات أميركية بالبقاء في سوريا
المسيرات التركية تقلق الأكراد السوريين
لكن الغريب هو أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، إذ إن الهدف الأبعد لأردوغان هو ضم هذه المنطقة (شرق الفرات على المدى الطويل)، ولا يزال خطاب العثمانية الجديدة يطل برأسه بين حين وآخر على صفحات الإعلام الموالي لحزب العدالة والتنمية، لتطرح قضية التوسع بحيث يشمل القدس والأراضي الفلسطينية، فقبل أيام وبينما كان الابن بلال أردوغان على المنصة في مهرجان عقدته جمعية يديرها هو، هتف الشباب المنتسبون إلى المؤسسة قسم الجمعية في مقدم اللقاء، وكان من ضمن الكلمات التي يهتفون بها:
“لن نتوقف عن مسيرتنا حتى يأتي اليوم الذي نسترد فيه القاهرة وحلب ودمشق والقدس ومكة المكرمة والمدينة المنورة”.
المعارضة التركية
هذا هو الجانب الذي أجد صعوبة في فهمه، فكيف يمكن للأشخاص الذين يرددون هذه الأفكار ليلاً ونهاراً أن يوجهوا مصير الأكراد؟ والأدهى من ذلك ما لا حظناه أخيراً حينما كان أفراد القوات المسلحة التركية يعبُرون الحدود للقيام بعملية شرق الفرات، حيث تم عزف الأناشيد الانكشارية للجنود في العهد العثماني.
والسبب السخيف وراء ذلك هو إرضاء خيال القوميين شركاء الحكومة الذين لا يزالون يحلمون بأن يكونوا قوة عظمى.
نعم، إنهم بهذه التصرفات الهوجاء يلعبون، للأسف، بالقوات المسلحة التركية التي هي سادس أكبر قوة عسكرية في العالم، ويحولونها إلى ألعوبة سياسية رخيصة، ولكن المشكلة هي أنه حتى المعارضة التركية لا تستطيع في مثل هذه الأجواء أن تمانع مثل هذه التصرفات لحسابات سياسية، لأن أردوغان يعلم أن الرأي العام التركي وجميع أحزاب المعارضة سيجدون أنفسهم مضطرين إلى الوقوف سوياً وراء القوات المسلحة التركية في حال وقوع حرب، ولذلك يحاول رص الصفوف وراءه بخلق هذه الأجواء المتوترة، وبهذه الطريقة يحسب أنه يستطيع سرقة الأصوات من خصومه، ولهذا السبب ينظر الأكراد إلى الوجود الأميركي في هذه المنطقة على أنه ضمان لهم ضد تركيا والحكومة السورية.
وأما روسيا فإنها لا تريد أن تخسر تركيا، وفي الوقت نفسه تحاول أن تستميل الأكراد، وينطبق الشيء نفسه على العلاقات الفرنسية والتركية.
إن الأكراد في سوريا ليسوا في المرحلة التي يمكنهم فيها تقرير مصيرهم بأنفسهم، ولم تتوصل تركيا بعد إلى استراتيجية تمكنها من توجيه مصير الأكراد، وسيواصل حزب العدالة والتنمية الحاكم استخدام الأكراد في الأوهام العثمانية الجديدة حتى الانتخابات، ولذلك لا أستبعد شن تركيا عملية عسكرية جديدة ضدهم قبيل الانتخابات لتأجيج مشاعر القوميين الأتراك، ولذلك أعود لأقول إن أردوغان ليس “رجل الحلول”، بل سيظل “صانع الأزمات”.
اندبندت عربي