حرب مع روسيا

حرب مع روسيا

أولاً، لنكن واضحين: لقد غزت روسيا أوكرانيا بالفعل.
في نهاية شباط (فبراير) 2014، استولى جنود روس من دون شارات على منشآت رئيسية في شبه جزيرة القرم، ثم ساعدوا الانفصاليين في شرق أوكرانيا بعد بضعة أسابيع. وأصبحت شبه جزيرة القرم الآن تحت السيطرة الروسية، وهناك حرب أهلية ما تزال مشتعلة على منطقتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين في الشرق.
ثانيًا، استفزت الولايات المتحدة روسيا مرارًا وتكرارًا بدفع حدود “الناتو” شرقاً بلا توقف.
عملياً، تشكل كل أوروبا الشرقية تقريبًا جزءًا من هذا التحالف العسكري، وكذلك حال أجزاء من الاتحاد السوفياتي السابق مثل دول البلطيق، ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا. وتعيش أوكرانيا في مكان في منتصف الطريق يُطلق عليه وصف “شركاء الفرص المعززة لحلف الناتو”، وقد أسهمت في المهام التي يقودها الناتو. وتؤيد أغلبية من الأوكرانيين -أولئك الذين لا يعيشون في شبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوهانسك- عضوية بلدهم في الناتو وفقًا لاستطلاع للرأي أجري في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021. وليست نتائج الاستطلاع هذه مفاجئة، بالنظر إلى أن هذه العضوية ستوفر لأوكرانيا تأمينًا إضافيًا وفق بند الدفاع الجماعي لحلف الناتو. ومن بين جميع الدول التي تفكر في الانضمام إلى الناتو، تعد أوكرانيا الدولة الأكثر تهديدًا للمصالح الوطنية الروسية فيما تسميه روسيا “الخارج القريب”.
هذا هو بعض السياق الضروري لفهم الأنباء الأخيرة التي تفيد بأن روسيا تحشد حوالي 100.000 جندي على طول حدودها مع أوكرانيا، إلى جانب صواريخ أرض-جو متوسطة المدى. وتقول روسيا إن مثل هذه المناورات احترازية بحتة. لكن أوكرانيا وأنصارها يعتقدون خلاف ذلك.
في المقابل، حشدت الولايات المتحدة حلفاءها لتحذير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من غزو أوكرانيا. ووعدت بفرض عقوبات اقتصادية إضافية على موسكو، وكذلك بإرسال المزيد من القوات الأميركية إلى أوروبا الشرقية لتضيفهم إلى آلاف عدة من الجنود الأميركيين المتمركزين في بولندا، وكذلك أولئك المتمركزين في أربع قواعد عسكرية أميركية في بلغاريا، ومنشأة عسكرية على ساحل البحر الأسود في رومانيا، وأماكن أخرى. ومع ذلك، كانت إدارة بايدن واضحة في إعلان أنها لن ترسل جنودًا أميركيين إلى أوكرانيا لمواجهة الغزاة الروس.
في غضون ذلك، طالب بوتين بإلغاء عضوية أوكرانيا في الناتو. كما دعا إلى إجراء حوار أمني فوري مع الولايات المتحدة، ووضع استراتيجيات مع الرئيس الصيني شي جين بينغ لكيفية تنسيق سياساتهما.
قد يكون نقل القوات الروسية إلى الحدود الأوكرانية مجرد اختبار لعزيمة الغرب، أو محاولة لتقوية موقف بوتين في المفاوضات مع كل من كييف وواشنطن، أو وسيلة لحشد الدعم المحلي في وقت يشهد الكثير من التحديات السياسية والاقتصادية، أو كل ما ذُكر. ونظرًا للرد الهائل المتوقع من الجيش الأوكراني، من بين عواقب سلبية أخرى للتدخل العسكري، من غير المحتمل حدوث غزو واسع النطاق لأوكرانيا. ويفضل بوتين الحروب القصيرة، وليس المستنقعات المحتملة، والعمل من خلال الوكلاء حيثما كان ذلك ممكناً.
سوف يكون خوض حرب ساخنة مع روسيا هو آخر ما تريده إدارة بايدن الآن. كما لا يلوح انفراج فعلي مع موسكو في الأفق. ولكن، هل يمكن أن تؤدي خطوة بوتين العدوانية إلى تحريك ملف العلاقات الأميركية الروسية بطريقة تضع الأساس لحلول سلام بارد؟
عسر هضم قاتل؟
لا تتصدر الحرب الأهلية في أوكرانيا عناوين الأخبار كثيراً هذه الأيام. وقد جاء وقف إطلاق النار هناك وذهب. ويندلع القتال على طول خط التماس الذي يفصل الجيش الأوكراني عن القوات الانفصالية بشكل متقطع. ومنذ بداية العام، لقي 55 جنديًا أوكرانيًا مصرعهم، كما قتل حتى نهاية أيلول (سبتمبر) أيضًا 18 مدنياً، من بينهم أربعة أطفال. وقد فر العديد من سكان البلدات الحدودية من القتال، لكن الملايين الذين بقوا في حاجة إلى مساعدات إنسانية.
بالنسبة للحكومة الروسية، يعمل هذا الصراع منخفض المستوى على تأكيد رسالتها الرئيسية: أن أوكرانيا ليست في الحقيقة دولة ذات سيادة. وتدعي موسكو أن استيلاءها على شبه جزيرة القرم كان بأمر من المواطنين هناك، الذين صوتوا للضم في استفتاء. وتقول إن مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين تمارسان ببساطة حقهما في تقرير المصير في مناخ سياسي يميز ضد المتحدثين بالروسية. وتشير مثل هذه الانقسامات في أراضي أوكرانيا، وفقًا لهذا المنطق، إلى أن الحكومة في كييف لا تتمتع بسيطرة كاملة على حدودها، وبالتالي فشلت في أحد الاختبارات الرئيسية للدولة القومية.
وبالنسبة لأوكرانيا، تتسم القضية بالتعقيد بسبب وجود عدد كبير من المتحدثين باللغة الروسية في البلد، وبعضهم يشعر بالتقارب تجاه موسكو أكثر من كييف. ولم يساعد قانون العام 2019 الذي جعل الأوكرانية اللغة الرئيسية في البلاد على حل الأمور. وعلى سبيل المثال، أي شخص ينتهك القانون من خلال التحدث مع الزبائن باللغة الروسية في حوار في متجر، يمكن أن يعاقَب بالغرامة. لكن الحكومة لم تفرض، حتى الآن، أي عقوبات من هذا النوع. وهذه ليست مفاجأة بالضبط بالنظر إلى أن الرئيس الأوكراني الحالي، فولوديمير زيلينسكي، الذي اعترض على القانون عندما كان مرشحاً للمنصب، يشعر براحة أكبر مع التحدث بالروسية في الأماكن العامة.
على الرغم من التحديات الداخلية والتاريخ الحديث للتوغلات العسكرية الروسية، فإن أوكرانيا هي دولة إلى حد كبير. وهي عضو في الأمم المتحدة. وثمة حفنة صغيرة من الدول فقط -الصومال، بالاو- أهملت الاعتراف الدبلوماسي بها. ولا يوجد غموض استراتيجي حول مكانة أوكرانيا في النظام الدولي مقارنة، على سبيل المثال، بتايوان.
ولا يفكر حتى بوتين، على الرغم من نشيده “روسيا واحدة”، بواقعية لدى محاولة استيعاب دولة شديدة المقاومة في جسم أكبر يضم اتحاداً للقومية السلافية مع روسيا وبيلاروسيا. فبعد كل شيء، واجهت موسكو تحدياتها الخاصة مع المهمة الأصغر بكثير المتمثلة في دمج شبه جزيرة القرم الصغيرة في الاتحاد الروسي. وقد كلف تطوير البنية التحتية لشبه الجزيرة وربطها بالبر الروسي عشرات المليارات من الدولارات، حتى بعد أن كلفت العقوبات التي فرضها الغرب الشركات الروسية أكثر من 100 مليار دولار. وأدت أزمة المياه في شبه جزيرة القرم -لأن أوكرانيا منعت التدفق من نهر الدنيبر إلى قناة شمال القرم- إلى تعطيل تحديث البنية التحتية الذي رعته موسكو، ما أدى إلى تكهنات ظهرت في العام الماضي بأن روسيا ستغزو جارتها لإعادة تدفق المياه.
سيكون من شأن غزو أوكرانيا لحل المشاكل التي أثارها الغزو السابق لشبه جزيرة القرم أن يحول فلاديمير بوتين إلى شيء يشبه تلك المرأة التي ابتلعت ذبابة (ثم ابتلعت عنكبوتًا لاصطياد الذبابة، ثم طائرًا للقبض على العنكبوت، وهكذا). وتعِد مثل هذه الاستراتيجية بوجبات أكبر وأكثر تنوعًا تليها حالة حتمية من عسر الهضم القاتل.
سلام غير محتمل؟
حتى الآن، قدمت إدارة بايدن مزيجًا من التهديدات والتطمينات في مواجهة غزو روسي محتمل. وتمت موازنة العقوبات الجديدة وإرسال قوات إضافية إلى أوروبا الشرقية برفض الإدارة الأميركية في هذه المرحلة النظر في أي مشاركة مباشرة في أوكرانيا لمواجهة القوات الروسية. وأبلغ بايدن هذه الاستراتيجية -ليس في الخطابات فحسب، ولكن في مكالمة هاتفية استمرت ساعتين مع بوتين الأسبوع الماضي. وكانت هذه، بكل المقاييس، محادثة دبلوماسية، من دون حرق أي جسور أو التملق على طريقة ترامب.
قد يلتقي بايدن وبوتين في أوائل العام 2022. وإذا بدا هذا وكأنه مشهد رأيناه من قبل، فأنت على حق. بعد أن حشدت روسيا قواتها على الحدود الأوكرانية في نيسان (أبريل) الماضي، عُقدت قمة بايدن وبوتين في منتصف حزيران (يونيو) في جنيف. وقد اكتشفت كوريا الشمالية منذ زمن بعيد أن إطلاق الصواريخ كان وسيلة فعالة لجذب انتباه واشنطن. ولم يعد بإمكان روسيا الاعتماد على عاطفة دونالد ترامب المعجبة بالقادة المستبدين لتأمين عقد اجتماعات القمة، ولذلك تبنت الآن نهج كوريا الشمالية.
الشيء المهم هو أن بوتين وبايدن يتحدثان، وأن المؤسسات الدبلوماسية المعنية تتعامل مع بعضها بعضا. والمشكلة هي أن كلا الزعيمين يواجهان ضغوطا داخلية لاتخاذ موقف أكثر عدوانية. في الولايات المتحدة، تُبذل جهود من الحزبين على قدم وساق لإرسال أسلحة أكثر قوة لأوكرانيا وتصعيد التهديدات ضد موسكو. وفي مجلس الدوما الروسي، دعا القوميون اليمينيون المتطرفون، مثل فلاديمير جيرينوفسكي، وقادة اليسار المفترض مثل رئيس الحزب الشيوعي جينادي زيوغانوف، في وقت أو آخر إلى الضم الصريح لمنطقة دونباس الأوكرانية. وأيضًا، كانت معدلات القبول الشعبي لكل من بوتين وبايدن في انخفاض خلال العام الماضي، ما يوفر لهما مساحة أقل للمناورة في الوطن.
لحل جميع القضايا الإقليمية المتعلقة بأوكرانيا، يجب أن تجلس الأخيرة إلى طاولة المفاوضات. وعلى الرغم من أن الحرب الأهلية ما تزال تحصد الأرواح، إلا أنها لحسن الحظ في تراجع. لكن من المهم المضي قدمًا في تنفيذ اتفاقيات مينسك للعام 2014، التي ألزمت أوكرانيا بتقديم وضع خاص لدونيتسك ولوهانسك، والذي من شأنه أن يمنحهما قدرًا أكبر من الحكم الذاتي داخل الحدود الأوكرانية. ويمكن لأوكرانيا أن تجلب مثل هذا الحل الوسط إلى طاولة المفاوضات عن طريق دفع التعديلات الدستورية المتوقفة عبر البرلمان.
تطرح القرم مشكلة مختلفة. وحتى لو كان القانون الدولي يقف إلى جانب أوكرانيا، فإنها لن تستطيع بسهولة تقويض الدمج الروسي لشبه الجزيرة وعكس وجهته. وكما يشير ستيفن بيفر من معهد بروكينغز، فإن النجاح ربما يكون أفضل أشكال الانتقام بالنسبة لأوكرانيا. إذا تمكنت الدولة من جعل اقتصادها يعمل معاً -وهي مهمة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة- فسوف تقدم نفسها كخيار أفضل لسكان القرم من أن يكونوا حالة خيرية لصدقات موسكو. وبعد ذلك يمكن إقامة استفتاء ثانٍ تعود فيه شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا بناءً على طلب شعبي.
ينبغي التعامل مع مسألة عضوية الناتو بقدر من الغموض الاستراتيجي. لن تستبعد حكومة الولايات المتحدة بشكل قاطع العضوية الأوكرانية، لكنها تستطيع أيضًا أن تبطئ العملية بشكل متعمد حتى تصل إلى طريق مسدود فعلي. إن لدى روسيا مخاوف مشروعة بشأن قوات الناتو المحتشدة على حدودها. وتستحق مطالبة بوتين بأن لا ينخرط التحالف في عملية تحشيد عسكري في البلدان المتاخمة لروسيا العناء، حتى بغض النظر عن قيمتها كورقة مساومة.
ثمة شوكة رئيسية أخرى في خاصرة العلاقات الأميركية الروسية، هي معارضة واشنطن لخط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” إلى ألمانيا. من الواضح أنه يجب ترك الأمر لألمانيا لتحدد من أين تحصل على طاقتها، ومن المؤكد أن روسيا ليست أسوأ من بعض الأماكن التي استوردت الولايات المتحدة النفط منها في الماضي. لكن خط أنابيب “نورد ستريم 2” هو مشكلة الأمس. وسوف يصبح خط الأنابيب في القريب أصلًا ضخمًا تقطعت به السبل، وقطعة من البنية التحتية التي سترسل كميات غير مقبولة من الكربون إلى الغلاف الجوي، والتي ستصبح فائضة عن الحاجة بسبب انخفاض أسعار الطاقة المتجددة. وإضافة إلى ذلك، يفكر الاتحاد الأوروبي في آلية لتعديل حدود الكربون، وهو ما سيضيف فقط إلى تكلفة الغاز الطبيعي المستورد، ما يؤدي إلى تقطيع السبل بهذا الأصل المعين، حتى في وقت أبكر مما كان متوقعًا.
يتحدث الجميع عن عمل الولايات المتحدة والصين معًا لمكافحة تغير المناخ. ويجب أن تعمل روح التعاون نفسها على تنشيط العلاقات الأميركية الروسية. وكانت الحكومة الروسية أكثر صراحةً في الآونة الأخيرة بشأن تحديد أهداف إزالة الكربون، ولكن ما يزال أمامها طريق طويل لتقطعه، وفقًا لتحليل ثلاثة نشطاء بيئيين من روسيا.
تخيلوا لو أن واشنطن وموسكو تعملان معًا للتخلص من اعتمادهما المتبادل على الوقود الأحفوري. دعونا نسميه انفراجًا أخضر، والذي يتضمن عقد اجتماعات قمة منتظمة “للتحكم في الكربون” مصممة لتقليل الانبعاثات المتبادلة، تمامًا مثلما هدفت مؤتمرات الحد من الأسلحة إلى تقليص الأسلحة النووية.
بطبيعة الحال، هناك الكثير من القضايا الأخرى التي يمكن أن تطرح في المحادثات بين القوتين العظميين: نزع السلاح النووي، والحرب الإلكترونية، والاتفاق النووي الإيراني، ومستقبل أفغانستان، وإصلاح الأمم المتحدة. من المؤكد أن الجميع يتحدثون عن تجنب أسوأ السيناريوهات في الوقت الحالي. والصراع الدائر حول أوكرانيا وداخل أوكرانيا بمثابة تذكير بأن الولايات المتحدة وروسيا، على الرغم من الضغوط المضادة القوية، يمكن أن تذهبا في الحقيقة إلى الحرب على حساب العالم بأسره. ربما يمكن لبوتين وبايدن، على الرغم من الميول الاستبدادية للأول وعجز الوضع الراهن للأخير، أن يتصرفا كقائدين حقيقيين وأن يعملا معًا لحل المشكلات المتبادلة التي تذهب أبعد كثيراً من المأزق الحالي في أوكرانيا.

الغد