يتزايد الحديث في الأوساط الأمريكية من باحثين وصانعي قرار عن تراجع القيمة الاستراتيجية للشرق الأوسط بالنسبة لسياسات واشنطن، وضرورة تقليل الاهتمام بهذه المنطقة التي كانت على مدى عقود محور اهتمام كبير لدى الإدارة الأمريكية لأسباب عديدة تدور حول النفط وإسرائيل، وإبعاد النفوذ السوفييتي خلال الحرب الباردة.
وبعد الإخفاق الأمريكي الكبير في العراق والتخبط في التعامل مع النزاع السوري، الذي أدى لمكاسب لخصوم أمريكا مثل إيران، وصعود لتنظيمات جهادية سنية، تزايدت المطالبات من الباحثين والكتاب الأمريكيين بضرورة تحويل الاهتمام عن هذه المنطقة والتركيز على المواجهة مع الصين وروسيا، وقد يكون من المفهوم الحديث عن انسحاب أمريكي من الشرق الأوسط، بعد الإخفاق في السياسات الأمريكية، لكن هناك من الكتاب من ذهب لأبعد من ذلك بالقول، إن مفهوم الشرق الأوسط انتهى أصلا، وأنه مصطلح قديم عفى عليه الزمن، وأن الأفكار الاكاديمية والبحثية التقليدية، التي أسست على وجود شرق أوسط تجاوزها الزمن والاحداث، وإلا ستبقى واشنطن عالقة في فشلها السياسي، كما يشرح الكاتب مارك لينش في مقال نشر النسخة الثانية منه قبل أيام في «الفورين أفيرز» تحت عنوان «نهاية الشرق الأوسط».
تزايد مطالبات باحثين وكتاب أمريكيين بضرورة تحويل الاهتمام عن منطقة الشرق الأوسط والتركيز على المواجهة مع الصين وروسيا
يعتبر لينش في مقاربته أن «تعريف ما كانت تسميه الولايات المتحدة الآن بـ»الشرق الأوسط» كان مستوحى من أهداف صانعي السياسة الأمريكية: الحفاظ على الوصول إلى النفط في شبه الجزيرة العربية، وحماية إسرائيل، والحفاظ على البريطانيين السابقين، والممتلكات الفرنسية في شمال افريقيا خارج دائرة النفوذ السوفييتي» لكنه يضيف أن «هذه الخريطة أصبحت قديمة بشكل متزايد. تعمل القوى الإقليمية الرائدة خارج الشرق الأوسط التقليدي بالطريقة نفسها التي تعمل بها داخله، والعديد من المنافسات الأكثر أهمية بالنسبة للمنطقة تلعب الآن خارج تلك الحدود المفترضة». وبالنسبة للتنظيمات الجهادية يقول إن «جاذبية تنظيم الدولة الإسلامية كانت أكثر من جاذبية القاعدة، عالمية أكثر منها إقليمية، كما تجلى في تدفق المقاتلين الأجانب إلى سوريا، وانتشار الحركة عبر افريقيا وآسيا» لكنه افتراض يقفز على حقيقة الزمان والمكان الذي نشأ فيه تنظيم الدولة في أتون نزاع أهلي في العراق وسوريا. يتجاهل لينش في مقاله الروابط الثقافية والاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط، التي تجعل مثلا دولا مثل تركيا وإيران منخرطة في العراق وسوريا ومؤثرة فيهما دوما، كما هو الحال بين الجزيرة العربية والمشرق العربي، عبر خليط من الوشائج المذهبية والقومية والعشائرية، وكذلك الوقائع الجيوسياسية والمصالح الاقتصادية، بل إنه يعتقد أن النسخة الحديثة من التنظيمات الجهادية المتمثلة بتنظيم الدولة لم تكن شرق أوسطية في حقيقتها، بل عالمية من ناحية الأهداف والتركيبة الداخلية، التي شملت مقاتلين جاءوا من دول أوروبية، على الرغم من أن تنظيم الدولة هو وليد بيئة وأحداث شرق أوسطية متأثرة بشكل قد يكون حصريا بالحرب الأمريكية في العراق والنزاع الأهلي الطائفي في قلب المشرق العربي العراق وسوريا، وأكثر من 99% من عملياته ونشاطه وقياداته هم من العراق وسوريا، وتركيبته وأهدافه العملية هي أهداف محلية، وإن اكتست بخطاب أممي عالمي يتسق مع تنظيرات الجهادية الأممية و»الحاكمية» وفق مفهوم «الخلافة» وحتى في ما يتعلق بالمقاتلين القادمين من أوروبا هم في الحقيقة ليسوا «أوروبيين» بل إن أغلبهم من أصول تعود للشرق الأوسط وشمال افريقيا، وقد يكون أغلبهم قد تأثر بواقع محلي أوروبي يتعلق بالنزعة الاصولية الإسلامية المدفوعة بأزمة الهوية لمسلمي أوروبا.
القدس العربي