في مثل هذه الأيام من عام 2003 سقطت بغداد أو احتلت.. لا فرق بين المعنيين، لكن البعض يرفض إطلاق كلمة سقوط على ما حدث آنذاك لاسباب عاطفية، ولما تشكله هذه الحاضرة العربية من ومضة معنوية في العقل والضمير. مع ذلك فقد تشّكل واقع جديد بدخول الغُزاة إليها.
وإذا كان قد تكالب على إسقاط هذه المدينة، عرب وكرد وإيرانيون، علمانيون وإسلاميون، شرقيون وغربيون، فإن توصيف ما حدث رآه البعض سقوطا لنظام سياسي وتحريرا لبلد. في ما رآه فريق آخر احتلالا مكتمل الشروط والأركان وفق القوانين الدولية، قبل أن يكون هو كذلك في نفوس غالبية العراقيين والعرب، وحتى الأجانب.
وإذا ما ذهبنا إلى تفسير رؤية الفريق الأول نجدها قائمة على أساس غرضي شخصي ورغائبي، ومستندة إلى أساس الخصومة مع النظام السياسي الذي كان قائما، أي أن مفهوم الوطن غائب عن أجندتهم، وأن السلطة هي غايتهم، وأن إزاحة الحاكم واجبة حتى لو كان الثمن احتلال الوطن وتدمير الدولة. وللتدليل على أن هذه الرؤية ساذجة وحمقاء، فقد سقط أصحابها في جُب عدم القدرة على الإجابة عن أسئلة كثيرة من مثل، أين الدولة بعد التحرير المزعوم؟ ما ملامح وشكل النظام السياسي الذي جاء بعد هذا التحرير.. أين المواطنة؟ وغيرها من الإسئلة التي يصعب على جهابذة هذا المنطق المعطوب الإجابة عليها. إن الحديث عن أن الغزو والاحتلال كان هدفه إزاحة نظام سياسي كذبة كبرى. كما أن تبرير ذلك الفعل بجلب الديمقراطية مجرد هُراء. الحقيقة أنه كان فعلا جيوسياسيا ضرب الشرق الأوسط كله، وكان يهدف إلى تغيير شكل المنطقة لتتوافق مع الأجندة الأمريكية، بغية درء الأخطار التي قد تهدد الأمن القومي الغربي بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. وبذلك الحدث باتت هذه المنطقة ليست كما عرفناها قبل التاسع من إبريل/ نيسان عام 2003. فعلى الصعيد المحلي العراقي الذي هو قلب الحدث، تم تهديم الدولة بمفهومها المادي والمعنوي، واقتلعت جذورها الممتدة على مدى ثمانين عاما، ولم يعد من ملامحها شيء على أرض الواقع سوى الهياكل الخارجية، لكن هذه الهياكل منزوعة القدرة والقرار.. والأنكى من ذلك كله هو أنها تأخذ حصتها من الطوائف والإثنيات، بعد أن أخذت هذه الكيانات المجتمعية مكانة الدولة وأصبحت حاضنة لها، فقد ابتدع الغزاة شكلا جديدا لدولة مزعومة، قائما على أساس أن الطوائف والإثنيات لها حصة سياسية، وبالتالي باتت هذه جزءا من السياسة، وتأسيسا على هذه الأفعال فقد العراق هويته أيضا، فقد انتفت حالة الهوية العراقية عنه، بعد أن غلبت الطائفية والإثنية كل القوانين والدستور، وأصبحت هي الأعلى، كما نُزعت عنه الهوية العربية بالممارسة السياسية اليومية للسلطة، حيث بدأ العراقيون يسمعون تصريحات كثيرة بأن العرب أعداء العراق، وبأنهم كانوا يدعمون النظام السابق. كما تدحرجت المبررات التي تقول بأن الغزو والاحتلال كان الهدف منه بناء نظام ديمقراطي وتعددية سياسية، فمنذ عام 2003 وحتى اليوم سقطت العمليات الانتخابية في وحل التزوير، وعجز الصندوق الانتخابي عن إنتاج نظام سياسي يمثل إرادة الغالبية، والدليل على ذلك هو الاستعصاءات السياسية التي تأتي بعد كل انتخابات، حيث يصبح تشكيل حكومة معضلة كبرى تمتد شهورا، والسبب في ذلك بسيط جدا وهو عدم وجود ديمقراطيين في صفوف الطبقة الحاكمة وأحزابها وتياراتها.
رغم تشدق النظام الدولي بحقوق الإنسان والحق في الحياة الحرة الكريمة للبشر، فإننا لم نجد ملمحا واحدا على أرض الواقع يثبت مصداقية هذه الأقوال
وإذا كان العراق هو مركز زلزال الغزو، فإن ارتدادته قد ضربت المنطقة العربية بأكملها، إن لم يكن الشرق الأوسط جميعه.. كان سقوط بغداد في التاسع من إبريل عام 2003 هو سقوط جدار برلين العرب، الذي بعده أُعيد تشكيل خريطة الوطن العربي. لقد وضعنا ذلك التاريخ أمام إعادة تشكيل الخريطة السياسية، إن لم تكن الخريطة الجغرافية أيضا، ففي جنوب السودان تحقق انفصال، وفي شمال العراق تحقق الشيء نفسه على الأرض، ولم يبق سوى الإعلان الرسمي عنه، في وقت ما. كما حصل تغيير سياسي عميق في المنطقة وصل إلى حد تهديد لحدود اتفاقية سايكس بيكو، بإعلان تنظيم الدولة عن دولته التي عبرت هذه الحدود القائمة بين سوريا والعراق.. ورأينا حالة من الاصطفاف المذهبي الحاد، الذي لم تعرف المنطقة مثيلا له، حتى باتت المنطقة بين فكي مرشدين كثر منهم الإيراني والعراقي واللبناني. كذلك وجدنا تنافسا بين الدول وحروبا بالوكالة، وبتنا أمام خطر حقيقي لاندثار الدول القائمة مع وجود حكومات لا تحكم، إضافة إلى كل هذا وجدنا عمليات تصدير للميليشيات العراقية واللبنانية والأفغانية والباكستانية للقتال في دول أخرى. وقد أعلنت طهران سيطرتها الكاملة على أربع دول عربية بطريقة القتال عبر الأذرع، وبات تنصيب الحكومات لا يتم إلا بقبول ومباركة من طهران. كما تجرأ البعض على سحب علاقاتهم التي كانت قائمة مع الكيان الصهيوني من تحت الطاولة إلى فوقها، وباتوا يُنظّرون للتطبيع مع إسرائيل بأعذار شتى، ويعقدون الاتفاقيات الأمنية والعسكرية والاقتصادية معها، في حين بقيت اتفاقيات الأردن ومصر مع هذا الكيان مجرد حبر على ورق زمنا طويلا.
إن تحطيم العراق كدولة محورية في الشرق الأوسط، سمح للدول غير العربية في المنطقة بتنفيذ أجنداتها كإيران وتركيا وإسرائيل، لقد أعطى الاحتلال فرصة كبيرة لهذه الدول لتثبيت حدود نفوذ جديدة لها، ليس في العراق وحسب، بل في بعض البلدان العربية، لذلك رأينا تدخلات هذه الدول تغطي مساحة كبيرة في المشرق والمغرب العربيين. كما جعلت من المنطقة العربية ساحات صراع لها مع القوى الكبرى، تتخندق فيها وتحشّد مواردها المادية والبشرية للدفاع عن مشاريعها. ورغم مرور ما يقرب من العقدين على هذا الحدث الجلل، فإن العرب لم يقيّموا خسارتهم للعراق حتى اليوم، والدليل أن ردودهم على الاختراقات غير العربية في الأمن القومي، ما زالت مجرد ردود أفعال غير مدروسة. كما أنه وعلى الرغم من التصريحات العربية الكثيرة، بأن العراق كان السد المنيع في وجه إيران، فإننا لم نجد مشروعا عربيا واحدا استنسخ التجربة العراقية في التصنيع وبناء جيش قوي.
إن ذكرى الغزو الأمريكي ـ البريطاني ـ الغربي للعراق تُعزز النظرة القائلة بنفاق المجتمع الدولي ومنصاته الأممية، لقد رتّب فشل الدولة التي أسسها الاحتلال كُلفا كبيرة على حياة الكثير من العراقيين، ووضع مصائرهم بيد فئة ضالة لا تؤمن بالدولة. كما سمح لهذه الفئات بسرقة الموارد والثروات العراقية والإثراء على حساب الناس، وكان طوال هذه الفترة هو الحامي لهم. وعلى الرغم من تشدق النظام الدولي بحقوق الإنسان والحق في الحياة الحرة الكريمة للبشر، فإننا لم نجد ملمحا واحدا على أرض الواقع يثبت مصداقية هذه الأقوال.
يقينا أن العراق لم يكن الدولة المثالية على طريقة أفلاطون، لكن ما ميزه عن الاخرين أنه وضع كل إمكاناته المادية والبشرية في خدمة العرب، ولم يبخل يوما على أحد، خاصة الدول العربية الفقيرة الموارد والإمكانيات؟
القدس العربي