* د. معمر فيصل خولي
لا شك أن الخبر الأكثر لفتا للانتباه في الحرب التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا كان وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القوات النووية الروسية في حالة تأهب قصوى، يعني ذلك أن تتجهَّز أدوات القتال النووية لأوامر انتشار وإطلاق لحظية قد تحدث في أي وقت، بالطبع تسبَّب هذا الإعلان في حالة من الخوف بين المواطنين في كثير من دول العالم، حتى إن الرئيس الأميركي جو بايدن صرَّح أن على الولايات المتحدة الأمريكية ألا تخشى الحرب النووية.
جاء ذلك في سياق عدة تطورات، الأول هو وابل من الأعمال الانتقامية الغربية ضد روسيا بسبب حربها على أوكرانيا، ونقصد هنا تحديدا القيود الاقتصادية الصارمة التي تسبَّبت بالفعل في تراجع قيمة الروبل الروسي تراجعا كبيرا، كذلك بدا أن الخطة الروسية لاجتياح أوكرانيا لا تسري كما رُتِّب لها، مع تراجع في بعض المناطق، وأخيرا، فقد عزَّزت الدول الغربية دعمها العسكري لأوكرانيا في الحرب، بل إن بعضها أيَّد دعوة كييف لتشكيل فيلق للمقاتلين الأجانب الراغبين في المشاركة بالقتال.
عندما استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية السلاح النووي للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية، كان ذلك لوضع حد للحرب العالمية الثانية. اليوم، تلويح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدام هذا السلاح في الحرب التي يصر على تسميتها «عملية خاصة» ضد أوكرانيا، قد يكون الشرارة لإطلاق حرب عالمية ثالثة، كان يظن أنها باتت من سابع المستحيلات. وليس خافياً أن «تدمير العالم» أصبح أكثر يسراً في ظل المخزون العالمي الضخم من هذا السلاح المدمر. لكن هل هذا الخيار مطروح حقاً على الطاولة؟
من يظن أن الرئيس الروسي بوتين يدير حربه في اوكرانيا واصابعه علي الزناد النووي ، وان اسلحته النووية يمكن ان تنطلق الي اهدافها اذا ما دخلت هذه الحرب في مسار حرج، لتحقق له ما عجزت عنه اسلحته التقليدية.
ربما ولحد كبير أن هذا التصور وهم كبير ، وهم يجب الا يكون له موقع في الحسابات والتوقعات عن المجريات المحتملة لهذه الحرب ايا كانت تداعياتها ونتائجها او خسائرها..
فالاسلحة النووية بالنسبة لروسيا كما هي بالنسبة لكل القوي النووية الاخري في العالم ، هي. اسلحة للردع الذي هو شكل من اشكال الدفاع عن الامن القومي للدول في ظروف استثنائية واضطرارية للغاية، ولكنها ليست اسلحة للهجوم لانها تعني الدمار الشامل ونهاية العالم، والروس انفسهم هم من عبروا عن هذا المعني في تصريح اخير لوزير خارجيتهم سيرجي لافروف عندما قال ان في الحرب النووية نهاية للجميع وانها حرب لن يكون فيها منتصر ومهزوم.
ولفهم أعمق لتلك النقطة يمكن أن نتأمل وثيقة من ست صفحات نشرتها الحكومة الروسية في 2 يونيو/حزيران 2020 تُحدِّد منظورها بشأن الردع النووي، وعنوانها الرسمي “المبادئ الأساسية لسياسة الدولة للاتحاد الروسي بشأن الردع النووي”، وفيها يُعَدُّ التهديد الروسي بالتصعيد النووي أو الاستخدام الفعلي الأول للأسلحة النووية سلوكا من شأنه أن يؤدي إلى “خفض تصعيد” النزاعات وفق شروط تخدم مصالح موسكو.
لكن في هذا السياق، تَعتبر روسيا الأسلحة النووية وسيلة للردع حصرا، وتضع مجموعة من الشروط التي توضِّح تلك النقطة، فيكون الحق في استخدام الأسلحة النووية ردا على استخدام الأسلحة النووية أو أنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل ضدها أو ضد حلفائها، أو استجابة لهجوم من قِبَل الخصوم على المواقع الحكومية أو العسكرية الحساسة في الاتحاد الروسي، الذي من شأنه أن يُقوِّض أعمال الردع النووي، أو ردا على عدوان واسع على الاتحاد الروسي باستخدام الأسلحة التقليدية يمكنه أن يُعرِّض وجود الدولة نفسه للخطر.
ولو لم يكن ما قاله لافروف وغيره علي مدار عقود طويلة صحيحا وواقعيا ، لاستخدمت الولايات المتحدة الأمريكية اسلحتها النووية في حروبها التي خاضنها في كوريا وفيتنام وافغانستان وفي كل الحروب الكبيرة التي انتهت يهزيمتها فيها وانسحابها منها لصالح من حاربوها وهزموها باسلحنهم التقليدية البدائية.
وعلي ذلك ، فان حسابات الحرب الروسية في اوكرانيا يجب ان يكون الاساس فيها معايير وعوامل اخري لا علاقة لها بهذه الاسلحة النووية التي يملك حلف شمال الأطلسي ” الناتو” منها ما يكفي لتدمير العالم تدميرا نهائيا وشاملا مرات ومرات، وهو ما لا يمكن ان يغيب لحظة عن بال القادة الروس وهم يديرون حربهم في اوكرانيا بالسيناريوهات التقليدية وحدها.وبالتالي ، فان هذه الحرب مهما كانت صورتها التي تبدو لنا عليها ، سوف تمضي حتي النهاية كذلك ، اي حربا تقليدية صرفة لا مكان لاستخدام الاسلحة النووية فيها…
يبقي علينا ونحن نتابع مجريات هذه الحرب ان ننزل الي ارض الواقع لنراها علي حقيقتها بعيدا عن خيالات الحرب النووية واوهامها التي تشوش علي رؤية بعض المتابعين لها عندنا.. وكاي حرب تقليدية فان حرب روسيا في اوكرانيا قد تنتهي الي نتائج لم تكن واردة في حسابات وتوقعات من اعدوا سيناريوهاتها وخططوا لها ووضعوا سقفا اعلي لطاقة العنف المسلح المستخدم فيها حتي لا تتحول من حرب ثنائية محدودة الي حرب عالمية شاملة .. وما دام ان الحروب التقليدية تتسع لاحتمال النصر او الهزيمة فيها شان كل الحروب التقليدية التي سبقتها في العالم من اكبرها الي اصغرها ، فان هذه الحرب الروسية لن تكون استثناء منها.. كما ان خسارة روسيا لها لن تعني نهاية العالم بالنسبة لها ، وكل ما يتعين عليها ان تجتهد فيه هو ان تسارع الي ازالة آثارها وتبعاتها واعادة تقييمها لمصالحها القومية العليا من منظور استراتيجي مختلف. ولو لم يكن الامر كذلك لما سلمت امريكا بهزيمتها في اكثر الحروب التقليدية التي خاضتها وخرجت منها وهي تجر اذيال الخيبة والانكسار والفشل.. ولا اعتقد ان سيناريو النهاية المهينة بل والمزرية لحربها في افغانستان ببعيد عن ذاكرتنا.. ومع ذلك بقيت الولايات المتحدة الأمريكية وذهبت افغانستان اليس كذلك ؟
ويعتقد الكثير من المراقبين أن بوتين لن يخاطر حتى بهجوم نووي منخفض الدرجة، لأنه قد يؤدي إلى فرض عقوبات أعمق من تلك التي تعوق الاقتصاد الروسي بالفعل، ويزيد من معارضة الحرب في الداخل، ويؤثر سلباً على تحالفه المهم للغاية مع الصين، ويغير مفاهيم الدول التي لا تزال تحافظ على رهاناتها مع روسيا، بما في ذلك الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، حسب صحيفة «واشنطن بوست». وإذا كان بعض التحليلات يتحدث عن «الحالة العقلية» للرئيس الروسي، لكن عدداً من الخبراء، بمن فيهم مدير وكالة المخابرات المركزية، قالوا إنه لا يزال إلى حد ما ضمن معيار العقل. ورغم ذلك، يقدّرون أنه معزول وغاضب، وهي ظروف يمكن أن تتصاعد بسرعة، فيما الجيش الروسي يحرز تقدماً أقل بكثير من تقديراته. ويضيف هؤلاء أنه من الصعوبة تخيل قبول بوتين بهزيمة عسكرية كاملة، دون أن يحاول استخدام الأسلحة النووية، أو على الأقل التكتيكية منها، التي قد يراها أكثر جاذبية، لتفادي الهزيمة. وهو ما يصفه الخبراء بأنها استراتيجية روسية للتصعيد من أجل التهدئة، ودفع الأزمة الأوكرانية إلى ذروتها، لمحاولة فرض تسوية مع الغرب لمصلحة موسكو. وعليه يقول بعض الخبراء إن الخطر أعلى مما قد يعتقده الغرب، لأن الخيار النووي في عقلية بوتين، قد لا يبدو من المحرمات. ويستشهد هؤلاء بخطابه السنوي عام 2018 عندما بدا مزهواً وسط تصفيق الحضور بالصواريخ النووية فائقة السرعة، وهي تتساقط على إحدى الولايات الأميركية.
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية