المواجهات العسكرية بين قوات الاحتلال الإسرائيلى ومجموعات من الشباب الفلسطينى المُقاوم فى الضفة الغربية المحتلة أصبحت حدثاً يكاد يكون يومياً منذ مطلع العام الجارى، وبالرغم من استمرار الحملة الإسرائيلية المعروفة باسم “كاسر الأمواج”، والتى بدأت نهاية مارس الماضى، فإن أهدافها الرئيسية المتمثلة فى فرض حالة هدوء قسرى تسمح للاحتلال بفرض وقائع جديدة على الأرض، لاسيما نشوء بؤر استيطانية برعاية جيش الاحتلال، والقضاء على عناصر المقاومة الفلسطينية المسلحة الآخذة فى الظهور، لم تحقق المرجو منها، إذ تعمل مجموعات الشباب المُقاوم وفق منهج التنظيم الذاتى، البعيد عن الجماعات والمنظمات الفلسطينية الكبرى كفتح وحماس على وجه التحديد.
لا تتوقف عمليات الشباب الفلسطينى ضد جنود الاحتلال أثناء اقتحاماتهم العنيفة للبلدات والمخيمات الفلسطينية فى الضفة الغربية لاسيما جنين ونابلس وطولكم وبلدات شرق القدس وغيرهم، عند حد إطلاق الرصاص من مسافات بعيدة نسبياً لتأكيد الحق المشروع فى مقاومة العمليات الهمجية لجنود الاحتلال، بل تطورت بعض العمليات إلى تشكيل كمائن لاصطياد مجموعات الجنود، فضلاً عن الهجوم الخاطف على عناصر الحواجز العسكرية للاحتلال كما حدث فى حاجز الجلمة العسكرى فى جنين شمال الضفة الغربية 13 سبتمبر الماضى (2022)، حيث هاجم مسلحان فلسطينيان أحدهما عنصر في جهاز الاستخبارات الفلسطيني، قوة من الجيش الإسرائيلي وقتلا ضابطاً يشغل نائب قائد وحدة النخبة “ناحل”. ووصل الأمر بعد أقل من شهر على تلك الحادثة إلى قيام أحد الشباب بإطلاق النار من مسافة قريبة جداً، باتت تُعرف بالمسافة صفر، على عناصر الاحتلال عند حاجز مخيم شعفاط في القدس في السبت 8 أكتوبر الجارى، حيث قَتل مجندة وأصاب آخرين إصابات بالغة، ثم تمكن من الفرار إلى داخل المخيم دون أن يلحقه باقى جنود الحاجز الذين فضلوا حماية أنفسهم، وهى العملية التى أظهرت مدى الجرأة التى يتمتع بها هؤلاء الشباب الفلسطينى المُقاوم، وإصرارهم على الإضرار بالاحتلال إلى أقصى مدى ممكن وفقاً لما يتوافر لديهم من إمكانيات وتسليح بسيط. وتبدو أهمية وقيمة تلك الواقعة كونها حدثت فى مخيم قريب من القدس المحتلة، ويُعد من مسئوليات جيش الاحتلال الإسرائيلى أمنياً وإدارياً.
“كاسر الأمواج” .. الفشل الذريع
وإضافة إلى ما تمثله هذه العمليات النوعية من نقلة كبرى فى أساليب مقاومة الاحتلال بعيداً عن المنظمات الفلسطينية المختلفة والسلطة الوطنية وأجهزتها الأمنية، فإنها ترفع مستوى الضغط السياسى والأمنى والمعنوى على قيادة الاحتلال السياسية والعسكرية معاً. وتكشف محاولات الحكومة الإسرائيلية المتكررة منذ خمسة أشهر التواصل مع دول عربية بهدف الضغط على السلطة الفلسطينية للقيام بما يوصف إسرائيلياً بدورها الأمنى المتمثل فى إحباط أية عمليات مقاومة ضد جنود الاحتلال والمستوطنين، ومن ثم اعتقال عناصر المقاومة وتسليمهم لجيش الاحتلال، تكشف عن المدى الذى وصلت إليه حملة “كاسر الأمواج” من فشل ذريع، بالرغم من الفارق الهائل فى الإمكانيات بين جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية الاسرائيلية من جانب، وبين عناصر المقاومة الفلسطينية المسلحة بأقل الامكانيات وأبسطها من جانب آخر، ولكنها مليئة بالإرادة والعزيمة.
تحذيرات أمنية ومخاوف من البلقنة
وتعد التحذيرات التى تطلقها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ومحللون إسرائيليون حول احتمال تطور الحالة النضالية الفلسطينية من مجرد عمليات متفرقة قد تبدو عشوائية وفق نمط ” الذئاب المنفردة”، وبأسلحة خفيفة إلى انتفاضة كبرى تعم مدناً وقرى الضفة الغربية، تعد أحد أبرز دلائل تراجع قوة الردع الإسرائيلية بالنسبة للشباب الفلسطيني، مع الأخذ فى الاعتبار أن كثيراً من تلك التحذيرات تدعو إلى توسيع عمليات المداهمة للقرى والمناطق التى تنطلق منها عناصر المقاومة الفلسطينية، إلى حد المناداة بالقيام بعملية موسعة وشاملة فى أكثر من قرية ومدينة فلسطينية فى آن واحد بغية القضاء على جذوة المقاومة قبل أن تنضج إلى انتفاضة كبرى ستكون الرابعة فى التاريخ الفلسطينى المعاصر.
وتشير تلك التحذيرات إلى أن المؤشرات المرصودة ترصد عدم الاكتفاء بقذف الحجارة أو التحركات الجماعية الغاضبة، بل تصل إلى مستوى من المقاومة المسلحة، والتى يُحتمل أن تتوسع رقعتها لتشمل الضفة الغربية بأكملها، وربما تحرك عمليات مقاومة مماثلة فى قطاع غزة، وربما مناطق فى داخل فلسطين المحتلة وراء ما يعرف بالخط الأخضر.
وتصل بعض التحليلات الإسرائيلية إلى المطالبة بتغيير الاستراتيجية التى تعمل على هديها قوات الاحتلال وكافة الأجهزة الأمنية بالتوغل فى الأراضى الفلسطينية، وعدم الاكتفاء بالمحفزات الاقتصادية المقيدة كتصاريح العمل للفلسطينيين فى داخل الأراضى المحتلة، والتخلى عن إضعاف السلطة الفلسطينية، وإطلاق حوار مع الفلسطينيين حول حل الدولتين الذى يؤيده رئيس الوزراء لابيد نظرياً، وذلك بهدف منع احتمال انتقال عدوى المقاومة المسلحة إلى معظم قرى وبلدات الضفة وقطاع غزة فضلاً عن القرى والبلدات العربية فى الداخل الإسرائيلى لاسيما المختلطة، والانزلاق إلى حالة “بلقنة” ومواجهات أهلية وصراعات عرقية وإثنية ودينية من شأنها أن تضرب دولة إسرائيل فى الصميم، وترفع تكلفة الاحتلال للأراضى العربية إلى مستويات غير مسبوقة، ويستحيل تحملها على المدى القريب والمتوسط معاً.
وفى ضوء الاعتبارات الانتخابية، تتجاهل حكومة لابيد تلك التحذيرات، وتتمسك بالحل العسكرى فى مواجهة المقاومين الشباب، وهى أقرب كثيراً إلى الأفكار العدوانية المُنادية بالقيام بعملية موسعة للقضاء على ما يعرف بـ “كتيبة جنين”، وأخرى تعرف بـ”كتيبة طولكرم” وهما مجموعتين مسلحتين من المُقاومين الفلسطينيين الشباب، تواجهان جنود الاحتلال بكل قوة ممكنة رغم فارق الإمكانيات الضخم. ويرجع ذلك إلى نصائح فريق العمل الخاص بلابيد، والذى انتهى إلى أن فرص نجاحه فى الانتخابات المقبلة مرهونة بالقضاء على تلك المجموعات الفلسطينية المقاومة وأى مجموعة أخرى تعلن عن نفسها بعد القيام بعملية أو أكثر ضد عناصر الاحتلال. ويلعب الخضوع لمطالب المستوطنين بغية إرضائهم للحصول على دعمهم الانتخابى دوراً مهماً فى تجاهل لابيد وحكومته الحقائق البازغة فى الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال.
دوافع بزوغ وانتشار المقاومة المسلحة
تثير التطورات فى الضفة الغربية على النحو السابق المشار إليه كثيراً من التساؤلات عن الدوافع الرئيسية لانتشار مجموعات المقاومة المسلحة، وسماتها الرئيسية، والقيود التى تواجهها، وموقف السلطة الوطنية الفسطينية منها وتأثير الحديث المتصاعد حول تأثير خلافة الرئيس محمود عباس المحتملة على وجود السلطة ذاتها، ومن ثم على كيفية إدارة الصراع مع إسرائيل فى ظل سيادة العقلية اليمينية المتطرفة على كل مكونات المجتمع السياسى فى دولة الاحتلال، بغض النظر عن أسماء الأحزاب أو الأشخاص الذين يديرون تلك الدولة، وهى العقلية التى تؤمن بالسيطرة الكاملة على الأراضى الفلسطينية المحتلة، والرفض الحاسم لفكرة وجود دولة فلسطينية على جزء من الأرض المحتلة، وإنكار الحقوق القومية للفلسطينيين، ولا ترى فى السلطة الفلسطينية إلا مجرد أداة أمنية تسهم فى قمع الفلسطينيين لصالح الاحتلال والاستيطان.
بداية، يلاحظ وجود عدد من مجموعات الشباب المقاوم، لا تنتمى تنظيمياً إلى أى من المنظمات والحركات الفلسطينية العتيدة كفتح وحماس، مع علاقة خاصة بين بعض تلك الخلايا المقاومة وحركة الجهاد الإسلامى التى تنشط فى بلدات وقرى الضفة الغربية المحتلة منذ خمسة أعوام تقريباً بأسلوب تدرجى وهادئ. وتنسب بعض تلك الخلايا إلى المجال الجغرافى الذي تنتمى إليه كجنين ونابلس وطولكرم والخليل، وبعضها الآخر ينسب إلى أسماء ذات دلالة تؤكد على إرادة مقاومة المحتل أياً كانت التكلفة، بما فى ذلك احتمال الاستشهاد أو الاعتقال والحبس لمدد لا يعملها إلا الله تعالى.
“عرين الأسود” .. نجم بازغ
وتعد خلية “عرين الأسود”، التى نشأت فى مدينة نابلس القديمة ومخيم بلاطة قبل عدة أشهر، إحدى أبرز الجماعات المسلحة التى تؤمن بأن لا بديل لإنهاء الاحتلال إلا المقاومة المسلحة المتواصلة التى تنهك الاحتلال وأجهزته وعناصره، وتلقى عليه أعباءً لا قبل له بها، وتتوعد الخلية حكومة لابيد بمذبحة انتخابية إن أقدمت قوات الاحتلال على مهاجمة منطقة قبر يوسف شرق نابلس، كما تتوعد المستوطنين بآلام غير مسبوقة.
ويجسد البيان الذى أصدرته عقب قيام عدى التميمى بمهاجمة حاجز مخيم شعفاط وجهاً لوجه ولاذ بالفرار، إرادة صلبة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلى، تستند إلى عدة أسس؛ أهمها عدم التبعية لأى من الفصائل الفلسطينية أو الأحزاب القائمة، وعدم الخلاف مع أى منها بما فى ذلك الأجهزة الأمنية للسلطة الوطنية، وإعلاء قيمة الشهادة من أجل الوطن، وتعظيم القتال، والتسليم بفشل منهج السلطة السلمى الذى لم يحقق شيئاً منذ توقيع اتفاقيات أوسلو، فضلاً عن الثقة فى احتضان الشعب الفلسطينى لأعضاء المجموعة وتقديم كل الدعم الممكن لها.
وثمة اتفاق على أن بزوغ تلك المجموعات المقاومة والمُشكلة أساساً من شباب تتراوح أعمارهم ما بين 18 عاماً إلى 25 عاماً على الأكثر، عائد إلى معاناتهم الهائلة من الاحتلال وسياساته الهمجية التى زادت عن حدها فى الأعوام الثلاثة الماضية، حيث أصبحت عمليات الهجوم على القرى والبلدات والمخيمات الفلسطينية حدثاً يومياً، ترافقه اعتقالات وهدم منازل وقتل فلسطينيين بمن فيهم سيدات وأطفال بدم بارد على مرأى ومسمع من العالم الملتزم الصمت التام، فضلاً عن الإغلاقات وسياسات العقاب الجماعى، وتدمير مقدرات السلطة الوطنية ونزع الشرعية عنها، وتجاهل دورها فى التعبير عن الحقوق القومية الفلسطينية، والضغط عليها مراراً وتكراراً لجعلها مجرد أداة أمنية لصالح الاحتلال، وتكثيف الدعاية الإسرائيلية ضدها واتهامها بالفساد والضعف وانتظار انهيارها فى مرحلة ما بعد الرئيس عباس، مما أفقد الأجيال الجديدة التى نشأت فى حقبة أوسلو الثقة فى السلطة وفى الفصائل الفلسطينية المختلفة، وأصبح البحث عن منهج للمقاومة وتكبيد العناء للاحتلال ومواجهته بما يتوافر من قوة ذاتية، هو الهدف الأسمى. ومن ثنايا التطورات التى تصاحب نشوء بعض مجموعات المقاومة المسلحة فى نابلس وطولكرم، تظهر تأثيرات فكرية لحركة الجهاد الإسلامى، دون أى تبعية تنظيمية لها.
وحدة الساحات .. قيود هيكلية
وفى ظل هذه البيئة النضالية، تظهر أفكار ونداءات تدعو إلى نوع من تنسيق العمل بين تلك المجموعات الشبابية تحت مسمى “وحدة الساحات”، إضافة إلى تنسيق الجهود مع المنظمات والفصائل الكبرى بما فى ذلك الفصائل العاملة فى قطاع غزة، باعتبار أن الهدف الجامع ينصب فى مقاومة الاحتلال بكل الوسائل الممكنة. غير أن المنهج العملى الذى يحكم نشوء مجموعات المقاوم الشبابية، لاسيما تحقيق أكبر قدر ممكن من الأمان لأعضاء المجموعة، يُقيد الانضواء تحت شعار “وحدة الساحات” بمعناه الفصائلى الواسع.
وتشير متابعات فلسطينية على قدر من الإطلاع على تفاصيل حركة بعض مجموعات المقاومة الشبابية، والتى يتراوح أعضاؤها بين 15 الى 30 عضواً، لديهم إمكانات لا تقارن مع الإمكانات لدى الاحتلال، تشير إلى أن عامل الأمن الذاتى للمجموعة يُقيد عملياً فكرة التنسيق الموسع مع مجموعات أخرى للقيام بعمليات كبرى ضد الاحتلال، اللهم إلا فى حدود ضيقة جداً وشرطها الأساسى الثقة المتبادلة. كما أن هناك تحوطاً شديداً من عمليات الاختراق التى تبرع فيها الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، والقلق من أن تعمد أجهزة فلسطينية إلى كشف تلك المجموعات أو بعضها أمام الاحتلال.
وتعد هذه العوامل الهيكلية قيوداً كبرى أمام الاندفاع نحو انتفاضة فلسطينية مسلحة فى المدى الزمنى المنظور، ويظل هناك فرصة للتغلب على تلك القيود إذا تبدلت العلاقة بين الفصائل الكبرى وبعضها البعضن وصار منهج المقاومة الشاملة عنواناً رئيسياً يحكم عمل الجميع، من فى السلطة ومن خارجها.
مركز الاهرام للدراسات