وأخيرًا وبعد أكثر من ثلاثة أسابيع فعلها نتنياهو، فبعد الساعة الثانية من فجر يوم السبت الفائت بقليل شنّت إسرائيل على إيران هجمات استمرّت قرابة أربع ساعات. تحدّثت مصادر تل أبيب عن قيام 100 طائرة حربية بهجمات بالصواريخ على 20 موقعا. استهدف الرد بعض مواقع الدفاع الجوي ومنظومة الرادارات العسكرية وإنتاج الصواريخ ومنظومات صواريخ أرض-جو. ولم يستهدف مناطق سكنية واستراتيجية ونفطية ونووية وأتى من خارج مجال إيران الجوي فحسب بعثة إيران الدائمة لدى الأمم المتحدة فإن المقاتلات الإسرائيلية هاجمت من المجال “الجوي العراقي وعلى بعد حوالي 70 ميلا من الحدود الإيرانية معتبرة ذلك تواطؤا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لأن المجال الجوي العراقي يخضع لسيطرة وإشراف الجيش الأمريكي.
يعود تأخر الرد الإسرائيلي إلى الانتظار للتزود بالصواريخ من الولايات المتحدة بحكم أن هذا الهجوم تم بصواريخ كروز وقنابل انزلاقية عن بعد لأن مقاتلات إف 35 وإف 15 قادرة على حمل هذا النوع من القذائف التي تطلق عن بعد يتجاوز الألف كلم. وللمرة الأولى تعترف إسرائيل بمهاجمة إيران! حيث جاء الرد الإسرائيلي عليها محدودا إذ حتى الصحافة الإسرائيلية قالت إنه كان باهتا، إذ سخر مراسل قناة «كان» الإسرائيلية روعي كايس، من الهجوم الإسرائيلي على إيران قائلا في تغريدة على حسابه: «لو كنت أنا خامنئي، لعدت إلى النوم، وتحققت مما حدث في الصباح».
ثمة آراء وأقاويل شتى، بعضها أكّد أن الإدارة الأمريكية ضغطت على نتنياهو بعدم استهداف منشآت إيران النووية، أو مرافقها النفطية والغازية، تفادياً لقيامها بشنّ ردٍّ قاسٍ يكون من شأنه ليس تضرّر «إسرائيل» فحسب، بل التسبّب أيضاً بارتفاعٍ هائل في أسعار النفط على مستوى العالم برمته، وتكون دول الغرب أول وأكثر المتضررين، البعض الآخر اكّد أن نتنياهو استخلص العِبرة المستفادة من ضربة إيران الموجعة لإسرائيل (الوعد الصادق 2) مطلعَ الشهر الجاري فآثر تفادي ردٍّ من إيران مماثل، وربما أقوى إذا كان هجومه عليها شديداً.
غير أن ثمة بين المعلّقين والكتّاب السياسيين مَن ذهب مذهباً مغايراً في التفسير أو التخمين. هؤلاء رجّحوا أن في الأمر خديعة مفادها أن نتنياهو أراد استرضاء الإدارة الأمريكية ومرشحتها كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 5 نوفمبر المقبل فأحجم مؤقتاً عن شنّ هجوم قاسٍ على إيران، حتى إذا تيقّن من أن الفائز سيكون حليفه دونالد ترامب بادر على الفور إلى شنّ هجومه القاسي الموعود.
إلى ذلك، نجد بين هؤلاء المعلّقين والكتّاب السياسيين، مَن يعتقد أن نتنياهو أدرك أنه يتعذّر عليه النيل من إيران بعدما أصبحت قويةً جداً، وربما تمتلك سلاحاً نووياً فآثر الاكتفاء بضرب حلفائها الذين يطوقون كيان الاحتلال من الشمال (حزب الله في لبنان) ومن الشرق (فصائل الحشد الشعبي في العراق) ومن الجنوب (أنصار الله الحوثيون في اليمن) فاكتفى تالياً بتعهدٍ من الولايات المتحدة وبريطانيا بأن تغدقا عليه السلاح الثقيل ليضرب حزب الله في لبنان، كما تساعدانه على ضرب فصائل المقاومة في العراق واليمن.
مما لاشك فيه ، أن الرد الإسرائيلي ” الباهت” جاء نتيجة الضغط الأمريكي على إسرائيل ، ففي الحسابات الاستراتيجية الأمرييكية، فإن إيران عام 2024 وما تمتلكه من قدرات عسكرية، ليس كالعراق في عام 2003م، فالحرب المباشرة معها ليست محمودة العواقب، فالولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لديهما من القدرات العسكرية والتقنية بتوجيه ضربة عسكرية موجعة لكنها لن تقضي على النظام السياسي في إيران، حينها لن تكونا إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مطمئنتين من الرد الإيراني الذي قد يذهب في الإقليم إلى حرب مفتوجة وهذا ما لا تطمح إليه الولايات المتحدة الأمريكية.
فالحرب بمفهومها التقليدي بين إيران وإسرائيل أمر متعذر حصوله لسبب بالغ الأهمية ألا وهو التباعد الجغرافي، هذا التباعد من شأنه إذا وقعت الحرب فلن تكون أي دولة في الإقليم بمنأة عن تأثيراتها، وقتها ستدخل منطقة الشرق الأوسط في حالة من الفوضى العسكرية وهذا الأمر أيضًا لا تطمح إليه الولايات المتحدة الأمريكية، إضاقة إلى ذلك أن أي حرب لابد لها من أهداف فإذا كان هدف إسرائيل يتجاوز استعادة توازن الردع مع إيران إلى إسقاطه فهذا الأمر صعب المنال أيضًا فالحرب الجوية لا تسقط نظام حكم خاصة إذا كان نظام حكم ديكتاتوري كالنظام الإيراني فمن أجل اسقاطه لابد من قوات عسكرية تغزو إيران وهذا الأمر لا نقول مستحيل وإنما صعب، كما أن النظام من داخل يتمتع بقوة بطش قوية جدا يُصعب المهمة على أي معارضة داخلية في اسقاطه دون تدخل عسكري مباشر.
الدرس المستفاد من هذا الرد الباهت أن إيران استوعبت بشكل عميق درس العراق عام 2003م، وقررت بأن لا يكون مصيرها كمصير العراق، لذلك عملت على بناء قوة وترسانة عسكرية ضاربة لا يستهان بها، قوة تستطيع الدفاع عن النظام السياسي الإيراني، وتحافظ على وجوده في حال تعرضه إلى خطر الزوال. وتجعل الدوائر السياسية الغربية وحتى الإسرائيلية تفكر بشكل جدي قبل الإقدام على أي خطوة من شأنها أن تجعل من الشرق الأوسط برميل بارود. هذا درس عميق في العلاقات الدولية، لمن يرغب الإستفادة منه.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية