حتى قبل بدء رئاسة الرئيس الأمريكي جو بايدن كانت العلاقة مع السعودية في وضع حرج بعد خسارة الرئيس دونالد ترامب الرئاسة. وكان بايدن لوّح قبل عامين من بدء رئاسته بأنه سيجعل السعودية دولة منبوذة بعد اتهامات بقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول. لذلك لم يكن ثمة ود بين الرياض وواشنطن بل تعايش الطرفين مع الواقع الجديد.
شكلت زيارة الرئيس بايدن للسعودية منتصف يوليو/تموز الماضي، وبرغم إصراره في كل مناسبة على أن الزيارة غير مرتبطة بوضع الطاقة والنفط بل تشمل قضايا مهمة مرتبطة بالشرق الأوسط والأمن وتوسيع التطبيع مع إسرائيل، لكن الحقيقة أن أحد أسباب الزيارة كان أيضاً الدفع لزيادة الإنتاج وخفض أسعار الوقود للمستهلكين. لكن بايدن لم يحصل على مبتغاه. وهكذا بقيت العلاقة بين واشنطن، التي برغم ترشيحها السفير مايكل راتني في أبريل/نيسان، لكن مصادقة مجلس الشيوخ على ترشيحه لم تتم ولم يعيّن.
بعد سلسلة خطوات تصعيد لإدارة بايدن رداً على قرار أوبك بلس خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً بادعاء أن القرار مسيس، ويتدخل في انتخابات الكونغرس ويدعم مجهود بوتين الحربي في أوكرانيا، وهو ما ترفضه مجموعة أوبك بلس والسعودية، تجد إدارة بايدن نفسها في معادلة صعبة هي كيف ترد على القرار وعلى السعودية بالدرجة الأولى الذي تراه مستفزاً، وفي الوقت نفسه دون أن تلحق الضرر بمصالح أمريكا في المنطقة، ودون خسارة ثقة الحلفاء وتراجع وتيرة تطبيع الدول العربية مع إسرائيل!
تسعى إدارة بايدن لتوظيف أوراق ضغط ناعمة بعيداً عن مطالبات بعض النواب الديمقراطيين باتخاذ إجراءات عقابية تشمل تجميد وحظر صفقات الأسلحة، وحتى سحب القوات الأمريكية من السعودية ما لم تتراجع مجموعة أوبك بلس عن قرارها بخفض إنتاج النفط. وكذلك تحث إدارة بايدن الشركات الأمريكية بعدم الاستثمار في السعودية، ما يضر برؤية السعودية 2035، التي تعول الرياض عليها كثيراً لتنويع مصادر الدخل وتقليص الاعتماد على عوائد النفط كمصدر رئيسي للدخل!
سبب الغضب الأمريكي هو أن قرار خفض إنتاج النفط اتخذ في موسم انتخابات حاسمة تهدف أوبك بلس التأثير على الناخب، برفع أسعار الوقود ما ينعكس سلباً على شعبية الرئيس بايدن والرضا عنه وعن وحزبه ما قد يؤدي الى خسارة أغلبية الحزب الديمقراطي بسبب موجة الغضب الشعبي من ارتفاع التضخم وأسعار الوقود.
تسعى إدارة بايدن لتوظيف أوراق ضغط ناعمة بعيداً عن مطالبات بعض النواب الديمقراطيين باتخاذ إجراءات عقابية تشمل تجميد وحظر صفقات الأسلحة
ردت إدارة بايدن بعدم المشاركة بوفد رسمي في مؤتمر استثمار في السعودية، (في دافوس الصحراء) الذي أنهى أعماله الأسبوع الماضي. ولم تنجح إدارة بايدن في حض الشركات والمؤسسات التجارية والاستثمارية الأمريكية على عدم التوسع في التبادل التجاري والاستثمارات في السعودية، لأن الشركات تمثل القطاع الخاص المستقل وتهدف للربح في شتى المجالات. لذلك لم تستجب كبرى الشركات لمطالب الإدارة. وشارك مئات المديرين التنفيذيين لكبرى الشركات الأمريكية في مؤتمر استثمار المستقبل في السعودية تحت عنوان:»الاستثمار في الإنسانية: استقرار عالمي جديد». وهناك شركات أمريكية تستثمر وفتحت فروعا ومراكز لها في السعودية استجابة لشرط العمل هناك! كما أنه حتى العام الماضي شاركت أمريكا بوفد رسمي في المنتدى ممثلاً بنائب وزير التجارة الأمريكي غريفيز في المنتدى، بينما شارك وزير الخزانة (المالية) في المؤتمر في عهد الرئيس ترامب.
كما لوحت إدارة بايدن باتخاذ إجراءات تستهدف السعودية، منها مراجعة العلاقات مع الرياض بعد انتخابات الكونغرس وعودته للانعقاد في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر. وإلغاء اجتماع لجنة عمل مشتركة بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول مجلس التعاون للتنسيق حول كيفية التعامل مع إيران كان مقرراً عقده في 17 أكتوبر/تشرين الأول الجاري. كما أعلن أنه لن يجتمع الرئيس بايدن مع ولي العهد السعودي في قمة العشرين في إندونيسيا.
وفي سابقة، صرح مسؤول كبير في البيت الأبيض لشبكة ان بي سي أنه ستقوم إدارة بايدن بالحد من التواصل الدبلوماسي والعسكري مع السعودية مباشرة. هذا الخفض في التواصل سيستمر حتى موعد اجتماع مجموعة أوبك بلس مطلع ديسمبر/كانون الأول المقبل. وحسب المسؤول الأمريكي ستكون نتيجة الاجتماع حاسمة لمستقبل العلاقات الأمريكية – السعودية خاصة أن اجتماع مجموعة أوبك بلس قبل يوم من تطبيق حزمة عقوبات أوروبية على روسيا تشمل حظرا جزئيا على واردات النفط والغاز الروسي ما سيخفض صادرات النفط الروسي بمليوني برميل في السوق النفطية! لكن يبقى السؤال المحوري والتحدي: كيف ستتعامل مجموعة أوبك بلس مع هذا الواقع حينها؟! وهل ستعرض غصن زيتون لإدارة بايدن خاصة إذا خسر بايدن وحزبه الأغلبية في الكونغرس.
لكن الواقع الصعب هو أن إدارة بايدن لا تملك خيارات كثيرة للتصعيد ضد السعودية، خاصة بعد زخم الدعم والاصطفاف الخليجي والعربي وإصدار بيانات تدعم موقف السعودية من دول مجلس التعاون الخليجي والعراق ومصر والأردن وفلسطين والمغرب وحتى الرئيس بوتين يرفض اتهامات إدارة بايدن للسعودية، بتسيس قرار أوبك بلس، بل يؤكدون قرارها مرتكز على اعتبارات اقتصادية وتوازن سوق النفط العالمي.
في المقلب الآخر جزء مهم من الدعم الخليجي والعربي للسعودية يكمن في رفض الإملاءات الأمريكية والقول كفى لواشنطن بالتدخل في شؤون دول المنطقة. إذا لم يتم وضع حد للتصعيد والشخصانية من الرئيس بايدن وإدارته ضد أوبك بلس والسعودية، ستتضرر العلاقات الثنائية، ومصالح أمريكا والعلاقات المستقبلية مع الحلفاء الخليجيين. وستهدد مساعي بناء تحالف إسرائيلي مع عرب التطبيع، تسعى إدارة بايدن في استراتيجية الأمن الوطني الأخيرة لتعزيزها في مواجهة إيران وصلت للترويج لتحالف ناتو شرق أوسطي – إسرائيلي، وتوسيع التطبيع مع إسرائيل. وفاخر الرئيس بايدن في يوليو/تموز الماضي بتدشين خط جوي تل ابيب – السعودية للمرة الأولى. وفتح المجال الجوي السعودي للطيران المدني الإسرائيلي! مصير تلك الإنجازات سيكون في مهب الريح، وما لم يتدارك ما يمكن تداركه، سيعم الضرر الجميع! وهذا بالتأكيد يحد من تصعيد بايدن وإدارته!
القدس العربي