شكّلت حادثة الصاروخ الذي سقط على منشأة حبوب في أراضي بولندا، الدولة العضو في «منظمة ميثاق شمال الأطلسي» (المعروف بحلف الناتو)، وقتل شخصين، مناسبة جديدة للتفكير في الاحتمالات الخطيرة التي تفتحها الحرب الروسية ـ الأوكرانية، ومنها إمكانية توسعها إلى حرب نووية، أو حرب عالمية، في حال تدخّل الحلف المذكور بشكل مباشر على موسكو، وهو أمر يشبه ما حصل في الحربين العالميتين الأخيرتين، حين تبدأ دولة بغزو دولة أخرى ثم تتضارب المصالح الدولية وتنقسم إلى محورين كبيرين.
تم احتواء الموقف الخطر الذي تسبب بقلق عالمي، مع إعلان بولندا وحلف الأطلسي أن الانفجار تسبب به «صاروخ طائش» أطلقه الدفاع الجوي الأوكراني، ورغم أن أمين عام الحلف، ينس ستولتنبرغ، حمّل روسيا، مع ذلك المسؤولية الأخيرة عن الانفجار «لأنها هي التي بدأت الحرب»، لكن بولندا قالت إنها لن تطلب تطبيق البند الرابع من الميثاق لإجراء مشاورات في مواجهة تهديد أمني، كما لم يعلن الحلف عن «إجراءات فورية».
أعلنت روسيا أن جميع الضربات التي وجهتها قواتها المسلحة خلال «العملية الخاصة» في أوكرانيا، كانت على مسافة لا تقل عن 35 كيلومترا عن الحدود الأوكرانية ـ البولندية، واعتبر المتحدث الرسمي لوزارة الدفاع الروسية أن الحديث عن «سقوط صواريخ روسية مزعومة» على شرق بولندا هو «استفزاز متعمد بهدف تصعيد الموقف»، وهو موقف يشير إلى أن روسيا لا تريد، بالتأكيد، إعطاء ذريعة لحلف الأطلسي لمهاجمتها.
أما نائب رئيس مجلس الأمن الروسي (الرئيس السابق لروسيا) دميتري مدفيديف، فاستعاد استخدام خطاب التهديد، الذي لجأت إليه موسكو في الأشهر السابقة، حيث اعتبر ما يحصل في أوكرانيا «حربا هجينة» يشنها الغرب على روسيا، وهو ما «يزيد من احتمال اندلاع حرب عالمية».
تأتي الواقعة المذكورة بعد الانسحاب العسكري الروسي من مدينة خيرسون الاستراتيجية، ترافق مع «انسحاب» دبلوماسي، تمثّل بتراجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن المشاركة في «قمة العشرين»، ثم انسحاب وزير خارجيته سيرغي لافروف، من القمة، وهو ما أخذ دلالة رمزية أيضا مع الأنباء، التي نفاها، عن مشاكل صحيّة تعرض لها، واضطراره لدخول مشفى في اندونيسيا، حيث تعقد القمة.
يؤكد القلق الذي أبدته موسكو من احتمال استخدام سقوط «صواريخ روسية مزعومة» على بولندا كذريعة لتدخل غربي مباشر ضدها، إلى بدء مواجهة قاسية مع الحقائق التي فرضتها التطوّرات العسكرية على الأرض، مع إدراكها لمشاكلها الرئيسية المتعلّقة باستراتيجية الحرب التقليدية، والهرمية الدكتاتورية في الجيش، وتخلّف الأسلحة الروسية بالمقارنة مع الغربية، وضعف قدرتها على تعويضها، إضافة إلى المشاكل اللوجستية التي تعرقل إمدادات الطاقة والغذاء لجنودها.
يضاف إلى ذلك، طبعا، نجاح الدول الأوروبية، إلى حد معقول، في الحدّ من آثار استخدام موسكو لإمدادات الغذاء العالمية، عبر اتفاقية الحبوب مع تركيا، وكذلك تخفيف آثار حرب الغاز والنفط، التي شنتها روسيا على أوروبا، وتحويلها، في المقابل، إلى عبء كبير على موسكو، التي لا يمكنها تعويض زبائنها من الدول الغربية، بزبائنها الآخرين كالهند والصين، من دون خسائر كبيرة، ومخاطر على أولئك الزبائن الجدد من العقوبات الغربية.
الخلاصة المستفادة قد تكون إدراك القيادة الروسية لضرورة المفاوضات مع الأوكرانيين والغرب، وإعادة الحسابات للحد من الخسائر الكبرى على المدى الاستراتيجي، وهو ما يجعل التهديدات السابقة باستخدام الأسلحة النووية والكيميائية أقل احتمالا بكثير، كما أنه يخفض من احتمالات توسّع الحرب المباشرة لتشمل دولا أخرى.
قد يكون «الصاروخ الطائش»، بهذا المعنى، علامة إيجابية وليس العكس.
القدس العربي