يمثل استخدام إيران للجماعات المسلحة العابرة للحدود سمة ثابتة ومستقرة في عقيدتها العسكرية، وهي توظف العامل الأيديولوجي والمادي دافعًا مهمًّا للتجنيد. استخدمت طهران في سوريا أشكالًا عديدة من هذه الجماعات وتتوزع ما بين محلية الانتماء أي سورية، أو عربية وإقليمية.
والجدير بالذكر أنه كان للحرب الباردة دور بارز في ظهور “الوكلاء غير الحكوميين” لما يوفره هؤلاء من تجنب للحروب الكلاسيكية المباشرة بين القوى العظمى ويقلل من الخسائر المادية والبشرية. يطرح الإيرانيون حقيقة تاريخية مفادها أن إيران لا تتمتع بالتحالفات الإستراتيجية مع القوى العظمى نظرًا للواقع الجغرافي والعامل الثقافي المتمثل بالدين واللغة المختلفين عن المحيط الإقليمي(1). لذلك وفي مرحلة ما بعد الثورة اعتمدت إيران على إستراتيجية دعم الجماعات المسلحة العابرة للحدود من منطلق أيديولوجي قائم على تصدير الثورة وحماية المستضعفين. وبعد غزو العراق وتصنيف الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، لإيران ضمن محور الشر، ومع تزايد احتمالات شن حرب مباشرة لإسقاط النظام في إيران، بدأت طهران بتغيير سياسة دعم الجماعات المسلحة من المنظور الأيديولوجي إلى المنظور البراغماتي الساعي لخلق موازنة في “التهديد” مع الحفاظ على الأيديولوجية الدينية وسيلةً لجذب حلفاء ما وراء الحدود. وظَّفت طهران هذه الإستراتيجية في المسرح السوري بشكل فعَّال من خلال دعم حزب الله اللبناني والجماعات المسلحة العراقية وإنشاء جماعات محلية مسلحة و”طائفية”، وعملت على إنشاء قوات “شيعية” عابرة للحدود، كلواء (فاطميون) و(زينبيون). وهذا ما أثار العديد من الأسئلة المحورية حول بنية الجماعات المسلحة ووظيفتها ودورها المستقبلي.
يطرح هذا البحث فرضية أن إيران اعتمدت إستراتيجيتها التاريخية في دعم وإنشاء الجماعات المسلحة العابرة للحدود وسيلة للحفاظ على النظام في سوريا. ومع انتهاء المعارك الرئيسية، لم تخفض طهران قواتها في سوريا بل استثمرت وجود هذه الجماعات لإعادة توازن التهديد مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وبالإضافة إلى ما تحققه هذه القوات من نفوذ رسمي وغير رسمي فقد أعادت طهران توزيع هذه القوات للدفع بعقيدتها الكبرى حول الأمن القومي وللحفاظ على المصالح الجيوسياسية والاقتصادية في سوريا.
يتناول البحث هذا الموضوع في ثلاثة أقسام، الأول منها حول الأسباب التي دفعت طهران للتدخل العسكري ومراحل هذا التدخل، والثاني حول تجربة إنشاء حرس ثوري في سوريا من خلال ثلاثة مسارات متداخلة، والأخير لقراءة واقع ومستقبل دور هذه الجماعات.
أسباب التدخل ومراحله
بحسب رواية إيران(2) وحزب الله، فإن ما حدث في سوريا لا يعتبر ثورة بل هو جزء من تدافع عسكري وسياسي طويل. وتدرج هذه الرواية الحراك الشعبي في سوريا ضمن إطار “مؤامرة” أميركية-خليجية بالتعاون مع حلفاء محليين لإعادة توازن القوى المختل لصالح “محور المقاومة” بعد سقوط الرئيس صدام حسين وحرب تموز 2006. وبناء على الرواية ذاتها، جاء قرار التدخل العسكري ليس لقمع ثورة شعب بل لمواجهة “مؤامرة” تستهدف كلًّا من إيران وسوريا وحزب الله معًا(3). ومن حيث مشابهة سياقات التدخل لكل من حزب الله وإيران على حدٍّ سواء، فتوصيف الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، شفيق شقير، لهدف تدخل حزب الله عسكريًّا في سوريا ينطبق بذات الاتجاه على إيران، من حيث إنه تدخل متدحرج موجَّه نحو المحافظة على الفضاء السياسي والجغرافي الذي يربط حزب الله إستراتيجيًّا بمركزه السياسي والعقائدي في إيران(4).
ومن المنظور الدولي، فقد نظرت طهران إلى التدخل العسكري في سوريا على أنه تدخل ضروري من ناحية جيوسياسية، وكذلك من ناحية الاصطفاف إلى أحد المعسكرين في مواجهة الآخر، المعسكر الغربي (الولايات المتحدة، وأوروبا، وتركيا، وإسرائيل، وبعض الدول العربية) بمقابل المعسكر الشرقي (الصين، وروسيا، وإيران).
وتنظر طهران إلى سوريا كبعد إستراتيجي مهم بحيث لعبت سوريا دورًا محوريًّا في الإضرار بالمصالح الأميركية في العراق بين 2003 و2011، كما مثَّلت جسرًا لنقل الأسلحة إلى حزب الله اللبناني ودعمت الوجود الاستشاري الإيراني في سوريا ضمن معسكرات تدريب عناصر حزب الله على الأراضي السورية.
من وجهة نظر إيران الاقتصادية، تعتبر سوريا حلقة وصل مهمة وإستراتيجية بالنسبة لاقتصاد الترانزيت الإيراني، وسعَتْ طهران إلى أن تكون حاضرة في مبادرة الصين الطريق والحزام. إن سقوط سوريا يعني لإيران إلغاء مشروع خط السكك الحديدية الذي يربط الممرات التجارية الإيرانية الحيوية، الشمال بالجنوب والشرق بالغرب، ويربطها بالعراق وسوريا وصولًا إلى البحر المتوسط ومن ثم إلى أوروبا. هذا الطريق الذي تقدمه طهران للصين كأساس لوصول البضائع الصينية إلى أوروبا.
ولتحقيق هذه الأهداف اعتمدت طهران على أسلوب دعم وإنشاء الجماعات المسلحة الإقليمية وغير الإقليمية في سبيل تحقيق أهدافها على المستوى العسكري والأيديولوجي في سوريا، واختارت الجنرال قاسم سليماني لتنفيذ هذه المهمة بسبب خبرته بحرب العصابات والحركات المسلحة غير الحكومية. وتعود خبرة سليماني هذه إلى بداية الثورة الإسلامية، عندما أُرسل مع مجموعة من الجنود للمساعدة في إدارة وحماية مدينة مهاباد من الانفصاليين الأكراد(5). تولى سليماني قيادة فيلق القدس، في 1997، ومنذ ذلك الوقت إلى حين اغتياله في يناير/كانون الثاني 2020، عمل على خلق شبكة واسعة ومعقدة من الجماعات المسلحة في أفغانستان والعراق وسوريا. هذا وقد مرَّ التدخل الإيراني في سوريا بثلاث مراحل جاءت كالتالي:
المرحلة الأولى (المراقبة وتقديم الاستشارات): يعود الوجود العسكري الإيراني وخصوصًا فيلق القدس في سوريا إلى ما قبل اندلاع الاحتجاجات هناك، في 15 مارس/آذار 2011. كان لدى إيران ما بين 2000 و3000 ضابط ومستشار من الحرس الثوري الإيراني متمركزين في سوريا، للمساعدة في تدريب القوات المحلية وإدارة طرق إمداد الأسلحة والأموال إلى حزب الله في لبنان(6). اقتصر التدخل الإيراني حتى نهاية العام 2011 على جانبي الاستشارة والمراقبة. وبحسب الراوية الإيرانية، اقترح سليماني أن تقوم الحكومة السورية باستخدام قوات حفظ النظام وقوات الأمن لقمع الاحتجاجات، ويعود هذا الاقتراح إلى الباع الطويل لإيران في مواجهة الاحتجاجات المدنية التي شهدتها خلال الحقبة التي تلت الثورة، دون تدخل من الجيش بشكل مباشر، خصوصًا أنها خاضت تجربة قمع الاحتجاجات المحدودة في كل من مدينة مشهد (1992) وقزوين (1994) وإسلام شهر (1995)، كما قامت بإنهاء مظاهرات أكثر سعة وانتشارًا في جامعة طهران في العام 1999، وأنهت احتجاجات الحركة الخضراء، في 2009، التي انخرط فيها الملايين من الشعب الإيراني. وهذه هي السياسة التي تتبعها إيران في الداخل إلى يومنا هذا.
اتجهت الحكومة السورية إلى استخدام قوى الجيش لإعادة “استقرار النظام” بسبب افتقارها للخبرة في قمع الاحتجاجات، فالنظام في سوريا لم يشهد احتجاجات مدنية بالمعنى الحقيقي منذ وصوله إلى السلطة، إنما كانت مواجهاته مع المعارضة السورية فيما قبل 2011 تقتصر على المواجهات العسكرية كما حدث في حماة في ثمانينات القرن الماضي وبعض الاضطرابات والعصيان في السجون.
المرحلة الثانية (التدخل للحفاظ على المدن الإستراتيجية): منذ نهاية عام 2011، شهد الجيش السوري انشقاقات بالجملة في صفوفه كما سقط العديد من المدن بيد قوات المعارضة السورية. كما رأت طهران في سقوط كل من مدن الزبداني ومضايا والقصير خطرًا إستراتيجيًّا يهدد إيران وحزب الله بشكل مباشر؛ إذ إن سقوط هذه المدن القريبة من الحدود اللبنانية “يعني” قطع طرق إمداد السلاح والمال إلى حزب الله(7)، و”يعني” كذلك “تهجير” سكان عدد كبير من القرى الشيعية القريبة من الحدود والتي تربطها بالشيعة في لبنان علاقات قرابة ووحدة الطائفة، كما خشيت إيران وحزب الله أن تتحول هذه المنطقة إلى منطقة مفتوحة لإمداد قوى المعارضة بالدعم اللوجيستي ودعم الأسلحة من القوى “السنية” في لبنان.
فشلت القوات الحكومية السورية في اقتحام الزبداني ومضايا خلال المعركة الأولى التي امتدت من 13 إلى 17 يناير/كانون الثاني 2012. وخلال هذه المرحلة طلب قاسم سليماني تدخل حزب الله في معارك الزبداني. وبالفعل فقد سيطرت القوات السورية وحزب الله على المدينتين في 11 فبراير/شباط 2012. وتكررت هذه العملية في معارك أحياء حمص (بابا عمرو والخالدية) التي انتُزعت من المعارضة في الأول من مارس/آذار 2012، وسيطر الجيش السوري على مدينة القصير بمساعدة فعَّالة من حزب الله، في 15 مايو/أيار 2012.
المرحلة الثالثة (إنشاء شبكة معقدة من الجماعات المسلحة): بعد خسارة الحكومة السورية للعديد من المناطق في ريف دير الزور وريف حلب وريف حمص وريف دمشق وريف إدلب ودرعا، وبعد تزايد عدد المنشقين عن الجيش السوري وانضمامهم للجيش الحر قررت طهران تكرار تجربة الحرس الثوري في سوريا.
حرس ثوري في سوريا
منذ العام 2013، اتخذت إيران في سبيل إنشاء جماعات مسلحة غير حكومية ثلاثة مسارات متداخلة:
المسار الأول: الجماعات العراقية الشيعية في سوريا: بدأت إيران بخلق كيانات عراقية ذات توجه طائفي شيعي في سوريا؛ فأنشأت لواء أبو الفضل العباس، في أكتوبر/تشرين الأول 2012، وقامت تحديدًا ثلاث مجموعات عراقية بتجنيد عناصر لواء أبو الفضل العباس، هي: جماعة “اليوم الموعود” التابعة لمقتدى الصدر، وعصائب أهل الحق بقيادة الشيخ قيس الخزعلي، و”كتائب حزب الله” العراقي بقيادة “واثق البطاط” زعيم جماعة جيش المختار والأمين العام لكتائب حزب الله العراقي والذي يعترف رسميًّا بولاية الفقيه لعلي خامنئي(8).
في البداية تركزت مهام لواء أبو الفضل العباس على حماية “مرقد السيدة زينب” في دمشق ومن ثم عملت طهران على نشر قوات هذا اللواء في حلب واللاذقية ودرعا. وبلغ عدد مقاتليه في سوريا أكثر من 10 آلاف مقاتل(9). بعد ذلك، وفي أواخر 2012 وبداية 2013، تدفقت الفصائل العراقية بكثافة إلى سوريا، وشملت هذه الفصائل كلًّا من:
- حركة النجباء بقيادة أكرم الكعبي: وضمت هذه الحركة ألوية متعددة كلواء الإمام الحسين المجتبى ولواء الحمد ولواء عمار بن ياسر(10).
- عصائب أهل الحق: في يوليو/تموز 2013، أعلنت عصائب أهل الحق عن إنشاء وحدة فرعية جديدة تسمى لواء كفيل زينب(11). كما أن هناك فرعًا آخر لعصائب أهل الحق في سوريا يدعى “كتائب حيدر الكرار”. وتنتشر هذه الجماعات في دمشق وريفها وفي البوكمال.
- حزب الله العراقي: شارك مقاتلوه بشكل خاص في الاستيلاء على حلب، في 2015، ودير الزور في 2018. وبلغ عدد مقاتليه في سوريا حوالي 2500 مقاتل. تتبنى كتائب حزب الله، مثلها مثل حزب الله اللبناني، عقيدة “ولاية الفقيه” وتدين بالولاء للمرشد الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي(12).
- سرايا طليعة الخراساني: وهي الجناح المسلح لحزب الطليعة الإسلامي، يقوده اللواء المتقاعد، حاج حميد تقوى فر، شاركت السرايا في معارك الغوطة الشرقية قرب مطار دمشق الدولي، ومعارك الغوطة الغربية في معسكر الفاروق والسكة ومنطقة الذيابية والأحمدية، كانت السرايا على تنسيق عال مع “حزب الله” اللبناني ويبلغ تعداد هذه السرايا 1400 مسلح(13).
- كتائب سيد الشهداء: أبو مصطفى الخزعلي قائدًا لهذه الكتيبة و”أبو علاء الولائي” أمينًا عامًّا لها. وهناك علاقة وثيقة بين منظمة بدر وبين كتائب سيد الشهداء، ويعتقد بأن الأخيرة كانت واجهة لمنظمة بدر لإرسال مقاتليها إلى سوريا(14). شاركت كتائب سيد الشهداء في معارك الشيخ مسكين في درعا في العام 2014.
- منظمة بدر: يقودها هادي العامري، اعترفت منظمة بدر في يوليو/تموز 2013 بإرسال 1500 مقاتل إلى سوريا. الاسم الذي أُطلق على جناحها العسكري في سوريا هو قوات الشهيد الصدر، التي سُميت على اسم محمد باقر الحكيم.
اعتمدت طهران على الفصائل العراقية للتدخل في سوريا لأسباب عديدة، منها:
- قوة تنظيم هذه الفصائل وتمرسها في القتال على مدار سنوات من 2003 إلى 2011، وعُمق النفوذ الإيراني في هذه الفصائل.
- الأغلبية الشيعية للسكان في العراق والاحتقان الطائفي السائد هناك والذي يبرر التدخل ضمن روايات روجتها الأوساط الدينية العراقية
- وجود مجموعة واسعة من العراقيين الشيعة في سوريا والذين فروا خلال غزو العراق في 2003 ومرة أخرى فروا من العنف الطائفي في 2006 وسهولة تجنيد هؤلاء.
- وجود حدود برية مفتوحة مع سوريا تسهِّل نقل السلاح والقوات البشرية عبر الحدود.
المسار الثاني: تشكيل قوات الدفاع الوطني والميليشيات الأيديولوجية المحلية: تعتمد إستراتيجية طهران في خلق النفوذ الخارجي على مركزية الأفراد وقدراتهم الشخصية، لذلك ظهر اسم الجنرال، حسين همداني، بوصفه الشخصية الإيرانية الثانية الأكثر نفوذا في سوريا. اختير همداني بسبب خبرته القديمة في القتال على جبهات كردستان إيران. وخلال الحرب العراقية أنشأ الفرقة (32) أنصار الحسين في محافظة همدان. كان لهمداني دور محوري في إنهاء احتجاجات الحركة الخضراء في 2009، فقد جمع العديد من المطلوبين أمنيًّا ووظفهم في قمع الحركة الاحتجاجية. تصفه وكالة فارس للأنباء الحكومية “بالنابغة” وترى أنه بعد تدخله في أحداث 2009 “حوَّل التهديد إلى فرصة” بعد أن “درَّب ما يقرب من خمسة آلاف من المشاغبين” لقمع الاحتجاجات(15). وفي سوريا، بعدما خسرت الحكومة السورية العديد من المواقع وباتت المعارضة السورية قريبة من قصر الرئاسة، وفي مارس/آذار 2013، أسهم همداني في إنشاء قوات الدفاع الوطني(16)، وقام بتحويل “اللجان الشعبية” أو “الشبيحة”، بحسب المعارضة السورية، إلى قوات رديفة يتم تدريبها في معسكرات خاصة لمدة 45 يومًا وتسهم في دعم القوات الحكومية. وانتشرت معسكرات تدريب “اللجان” في أغلب المحافظات السورية في دير الزور والرقة وحلب ودمشق واللاذقية وطرطوس. والجدير بالذكر أن “اللجان الشعبية” هي التي أنشأها النظام السوري من الأقليات الطائفية (في حمص واللاذقية ودمشق) لحماية الأحياء من “الاعتداءات” ومراقبة الاحتجاجات وقمعها.
و”قوة الدفاع الوطني” كانت متعددة الطوائف وليس لديها أي علاقة مرجعية أو أيديولوجية تربطها بإيران، أي على عكس حزب الله اللبناني والفصائل العراقية الشيعية المرتبطين أيديولوجيًّا مع رجال الدين الشيعة في إيران(17). لهذا كلفت إيران حزب الله بتدريب قوات محلية سورية من أبناء الطائفة الشيعية لإدخالهم في المعارك الحاسمة، وهي:
- “قوات الرضا” (لواء الإمام الرضا): هي إحدى أوائل هذه الجماعات التي تشكَّلت، وغالبًا ما تجنِّد المقاتلين من القرى الشيعية في منطقة حمص. وقد نُشرت قواتها في جميع أنحاء سوريا.
- “الغالبون”: “سرايا المقاومة الإسلامية في سوريا”، هي جماعة غامضة مكونة أساسًا من السوريين المعتنقين للمذهبيْن، الشيعي والعلوي، وغيرهم من الشيعة السوريين في الساحل السوري. وفي عام 2015، قاتلت هذه الميليشيا في الجولان ودرعا.
- “لواء الإمام الباقر”: تأسست هذه الجماعة بين عامي 2013 و2015، ويتألف أعضاؤها وقادتها من القبائل السورية المعتنقة للمذهب الشيعي. وقد حاول “لواء الباقر” أيضًا تجنيد مقاتلين من قبيلة “البقارة” الكبيرة في سوريا(18). وتنتشر قوات هذا اللواء بشكل كبير في مناطق دير الزور وإدلب.
المسار الثالث: تجنيد الشيعة غير العرب: تراجع دور الميليشيات العراقية في شتاء 2013 وربيع 2014 بسبب ظهور “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) وبداية معارك الأنبار وضرورة عودة هذه الفصائل إلى العراق(19). وهنا ظهرت الحاجة إلى أن يلعب حزب الله دورًا أكبر في سوريا وظهرت الحاجة كذلك إلى خلق جماعات مسلحة جديدة لسد الفراغ هناك. وهذا ما مهد لظهور فصائل شيعية غير عربية مثل لوائي “فاطميون وزينبيون”.
لم تسْعَ طهران لتجنيد الإيرانيين إلا من كان يرغب بالتطوع ويحمل اعتقادًا راسخًا بذلك، لأنها لم تُرد أن ترفع التكلفة البشرية أو المادية لهذا التدخل، خصوصًا بعد أن ارتفعت الأصوات المعارضة لتدخل إيران في فلسطين ولبنان خلال احتجاجات الحركة الخضراء في 2009، حتى إن رواية التدخل الإيراني في سوريا التزمت الجانب التبريري واتبعت في ذلك طرقًا عديدة. تعد المعسكرات الثقافية للحرس الثوري والبرامج الإذاعية والتليفزيونية من أهم أذرع الدعاية لـرواية “الدفاع عن الأضرحة الشيعية” في سوريا، وأنشأت السلطات الإيرانية العديد من المقار والمؤسسات لإنتاج المحتوى الإعلامي والفني وإقامة الاحتفالات لتكريم المدافعين عن الأضرحة(20). وعلى الصعيد الإعلامي أيضًا، عملت طهران على تحييد الجنرال قاسم سليماني عن التجاذبات السياسية الداخلية لصون صورته قائدًا أسطوريًّا يحمي البلاد من الجماعات “الإرهابية والتكفيرية”. واعتمدت طهران على رواية أخرى لجذب الطبقات الأكثر ليبرالية من خلال تسليط الضوء على أن طهران تحاول إحياء نفوذ الإمبراطورية الإخمينية للوصول إلى البحر المتوسط كما أن تدخلها في سوريا والعراق كان لمنع وصول هذه الجماعات إلى كرمانشاه وهمدان، بحسب وصف المرشد خامنئي نفسه.
ولسد الحاجة إلى المقاتلين لجأت طهران إلى تجنيد قوى أخرى من الإقليم، منها “لواء فاطميون” وقوامه من الشيعة الأفغان. تاريخيًّا، تعود علاقة الحرس الثوري مع الشيعة من الهزارة الأفغان إلى تطورين رئيسيين: الأول: الغزو السوفيتي لأفغانستان في عام 1979؛ حيث نظمت “وحدة حركات التحرير” التابعة للحرس الثوري الإيراني الشيعة الأفغان ضمن صفوف “جيش محمد” الذي تم إنشاؤه حديثًا لمحاربة السوفيت. والتطور الثاني هي الحرب الإيرانية-العراقية في الثمانينات حيث تم إنشاء “مقر رمضان” قاعدةً خارجية للحرس الثوري الإيراني، وكانت مهمته تنفيذ عمليات حرب العصابات في الأراضي العراقية(21).
بدأت نواة “لواء فاطميون” بأعداد متواضعة من جيش محمد وكانوا موجودين في إيران، بقيادة علي رضا توسلي الملقب بأبي حامد وهو أفغاني الجنسية. أُرسلوا إلى سوريا ودُمجوا هناك بقوات كتائب سيد الشهداء العراقية، ومن ثم جُنِّد الأفغان المقيمون في سوريا وفي إيران في هذا اللواء ليستقل عن كتائب سيد الشهداء(22). تمركز فاطميون بشكل رئيسي في حلب ودمشق وحماة واللاذقية وحمص وبلغ أعداده بين 12 إلى 14 ألف مقاتل في سوريا(23).
أما “لواء زينبيون”، فقد شكَّل الشيعة الباكستانيون في إيران النواة الأولى له وتركز وجودهم في مدينة قم الإيرانية. استخدمت طهران خطابًا دينيًّا قوامه الدفاع عن الأضرحة الشيعية وأهمها مقام السيدة زينب في دمشق، لتجنيد المقاتلين الشيعة الأفغان والباكستانيين. كما سمح نواب البرلمان، في 2016، للحكومة بمنح الجنسية الإيرانية لزوجات وأطفال وأولياء أمور المواطنين الأجانب الذين قاتلوا في الحرب مع العراق وأولئك الذين شاركوا فيما بعد لصالح إيران، وتُمنح الجنسية الإيرانية في موعد أقصاه عام واحد بعد التقدم بطلب للحصول على الجنسية(24).
بالإضافة إلى الجانب العقائدي وحل معضلات الإقامة للاجئين الأفغان، لعبت الحوافز المادية دورًا أساسيًّا في إقناع الشيعة غير الإيرانيين بالانضمام إلى هذين اللوائين “الزينبيون والفاطميون”. يحصل المقاتلون الأفغان في لواء “فاطميون” على 700 دولار شهريًّا مقابل القتال في سوريا. ووفقًا لإعلان تجنيد على صفحة “زينبيون” على فيس بوك، كان راتب بعض المتطوعين 1100 دولار شهريًّا، ويمكن أن تحصل القوات على 15 يومًا إجازة كل ثلاثة أشهر(25).
انعكس الدور الفعال الذي لعبه اللواءان بشكل أساسي في المعارك الإستراتيجية الأربع في حلب وجنوب سوريا وتدمر وشرق سوريا(26) وعملت طهران على إعادة انتشار هذه القوات في سوريا بعد انتهاء المعارك. توجد قوات فاطميون وزينبيون بكثافة إلى جانب كل من الفصائل العراقية وحزب الله والجماعات المحلية في محافظة دير الزور ويبلغ عددهم ما يقارب 15 ألف مقاتل(27).
المستقبل السياسي والعسكري للجماعات المسلحة
في المرحلة التي سبقت تدخل القوى الجوية الروسية، عملت كل من إيران والحكومة السورية على خلق مفهوم “سوريا المفيدة” وكان هذا يعني التخلي عن بعض المناطق، إما لانعدام أهميتها الإستراتيجية كما حدث في تدمر بشكل مؤقت، أو لخلق مساحة تهديد أمني للأعداء والمنافسين كما حدث عند التخلي عن الرقة ومناطق في ريف حلب كعفرين للإضرار بتركيا، أو خلق مساحة لتجميع قوات المعارضة كما حدث في إدلب.
وفي الوقت الراهن، رغم انتهاء المعارك الرئيسية منذ 2018 إلا أن الوجود الإيراني لا يزال حاضرًا ويبدو أنه يتمدد من خلال الجماعات المسلحة، وارتفع عدد القواعد والحواجز التابعة لإيران من 44 إلى 88 في عموم الأراضي السورية (28).
وحاليًّا لا توجد إحصائيات دقيقة لحجم هذه الجماعات ولكن بالعودة إلى تصريحات المسؤولين الإيرانيين في العام 2015، فالعدد كان حينها يتراوح بين 70 إلى 130 ألف مقاتل متوزعين على 42 مجموعة و128 كتيبة(29).
وتحاول طهران على وجه الخصوص خلق وجود قوي في دير الزور من خلال بناء قواعد عسكرية وتجنيد الشباب فيما يسمى (جيش القرى) الذي يضم أكثر من 2500 مقاتل عربي. كما عملت على التواصل المستمر بالعشائر العربية في المنطقة(30) دون الاصطدام الأيديولوجي معهم، خصوصًا أن إيران بنت نفوذها الأيديولوجي في مرحلة سابقة على الحرب السورية، وهناك العديد من القرى والعشائر في البوكمال والميادين التي تحولت إلى المذهب الشيعي أبرزها وأهمها “قرية حطلة”.
وأنشأت إيران، في أغسطس/آب 2021، “لواء هاشميون” وهو عبارة عن تجمع للقبائل العربية في دير الزور والبوكمال ويقوده يوسف الحمدان المعروف باسم “أبو عيسى المشهداني”، وأيضًا موسى المحمود الذي نصبته إيران باعتباره أحد وجهاء مدينة البوكمال(31).
خريطة غوغل مبسطة من إعداد الباحث(32)
وأما عن مستقبل ودور الجماعات المسلحة المدعومة إيرانيًّا في سوريا فيمكن استقراؤه من خلال توزع هذه القوات على الأراضي السورية؛ حيث يظهر التوزع الكثيف والمتنوع لهذه الجماعات في شرق سوريا، لاسيما أن دير الزور وريفها ومدن البوكمال والميادين تدخل ضمن “العقيدة الكبرى” للأمن القومي الإيراني الهادفة إلى إخراج القوات الأميركية من الشرق الأوسط. كما تبدو وبشكل واضح محاولة تطويق القوات الأميركية في هذه المناطق وتضييق الخناق عليها من خلال الهجمات الصاروخية والهجمات عبر المسيرات. وبحسب الجيش الأميركي، فقد تعرضت القوات الأميركية للهجوم من قبل الجماعات المدعومة من إيران حوالي 78 مرة منذ بداية عام 2021. آخر هذه الهجمات تمت عبر مسيرات انتحارية تبنَّتها جماعة عراقية تطلق على نفسها اسم “لواء الغالبون” في دير الزور.
السيطرة الكاملة على دير الزور توفر لإيران جسرًا بريًّا يصل إيران بسوريا عبر العراق وهي امتداد جيوسياسي للجماعات الإيرانية الموجودة في كل من العراق وسوريا، وتوفر كذلك خطًّا بريًّا قليل التكلفة لنقل الأسلحة إلى حزب الله. ودير الزور مفتاح خطوط السكك الحديدية (من الشلامجة في إيران مرورًا بالبصرة والقائم ومن ثم البوكمال وانتهاءً بميناء اللاذقية) التي تطمح إيران من خلالها للوصول إلى البحر المتوسط بعد تعطيل الطريق البري الذي كان يمر عبر الحسكة والطريق الذي يمر عبر التنف بسبب وجود القوات الأميركية. وهي توفر السيطرة على آبار النفط وأهمها حقل العمر، وذلك لتخفيف الاعتماد السوري على النفط الإيراني.
ويشير التجمع الآخر للجماعات المدعومة من إيران حول إدلب إلى التحضر والاستعداد المستمر لشن هجوم على إدلب. وتنتشر مقرات حزب الله اللبناني ولواء الباقر بشكل مكثف على الحدود الشرقية لمحافظة إدلب.
التجمع الآخر لهذه القوات يأتي على الحدود اللبنانية والهدف واضح هناك وهو إيجاد خط آمن لإيصال الأسلحة إلى حزب الله عبر الحدود مع سوريا. كما يتجمع عدد لا بأس به من هذه الجماعات في دمشق ليكون الجنوب منصة تهديد إيرانية لإسرائيل.
إلى جانب الوجود العسكري تعمل طهران على دمج هذه الجماعات في الكيانات العسكرية الرسمية السورية كما حصل عند دمج مجموعات كبيرة من قوات الدفاع الوطني في الجيش السوري ولواء أبو الفضل العباس في الحرس الجمهوري(33). وتحاول إيران -وبشكل موازٍ- أن تخلق علاقات مباشرة مع أطراف رسمية في سوريا كعلاقاتها الوثيقة بماهر الأسد وبثينة شعبان وغيرهما من المسؤولين السوريين.
يحقق نموذج الدمج العسكري وبناء علاقات مع مسؤولين سوريين نفوذًا غير رسمي لإيران في الدوائر العسكرية والسياسية السورية، لتكون أدوارها حاسمة في تقويض أي تحركات قد تضر بالمصالح الإيرانية في سوريا.
كما حوَّلت طهران تدخل الجماعات العراقية في الحرب السورية إلى أوراق رابحة في المشهد السياسي العراقي من خلال ترشيح بعض قادة هذه الجماعات للدخول إلى البرلمان العراقي والتأثير بقوة لإجبار الحكومة العراقية على القبول بضرورة إخراج القوات الأميركية من العراق(34).
حاولت طهران خلال السنوات الماضية تقوية أنظمة الدفاع الجوي السورية، وتعمل حاليًّا على إرسال مستشاريها ومهندسيها المتخصصين في تصنيع الطائرات المسيرة وتسهيل إرسال رادارات متطورة لتكون عنصرًا فاعلًا في عملية الردع المتقدم في سوريا، ولتكون رادعًا لإسرائيل عن شن هجمات مباشرة ضد الأراضي الإيرانية.
خاتمة
لم يُبْنَ تدخل إيران في سوريا على أساس خطة معدة مسبقًا بل كان اختيارها للحروب بالوكالة نتيجة تقدير اقتصادي محض للمفاضلة بين تكلفة التدخل المباشر أو غير المباشر، ومرَّ هذا التدخل بمراحل عديدة لتثبيت بقاء الأسد في منصبه والحفاظ على سوريا عاملًا لموازنة التهديد مع الولايات المتحدة وحلفائها وحلقة وصل مع الحليف، حزب الله.
أسهم انشغال روسيا في أوكرانيا، بمنح الجماعات المسلحة المدعومة من إيران حرية أكبر في التحرك والانتشار، فعلى الرغم من مساعي طهران تقليل تكاليف الوجود في سوريا من خلال سحب بعض المقاتلين وإعادة دمجهم في القوات السورية الحكومية، إلا أن نقاط توزع هذه الجماعات تشير إلى استمرار الضغط على الولايات المتحدة للخروج من مدينة دير الزور الإستراتيجية، واحتمالية التحضر لاستعادة إدلب وإعادة التموضع في جنوب دمشق كعامل ردع وتهديد محتمل لإسرائيل، إذا ما قررت الأخيرة شن هجمات ضد الأراضي أو المفاعلات النووية الإيرانية.
تعتمد طهران سياسة استنساخ هذه الجماعات وتشعبها لأن ذلك يعطيها إمكانية تفادي العقوبات الأميركية على هذه الكيانات ويصعِّب عملية مراقبتها من الناحية الاستخباراتية ويوفر رقابة ذاتية على عملها ويعطي لطهران أفضلية إعادة الانتشار السريع في ساحات التهديد المباشر سواء في سوريا أو في خارجها (كأفغانستان).
بعد مقتل سليماني لم يطرأ تغير جذري على شكل أو أهداف ووسائل هذه الجماعات المسلحة، إلا أن “الشخصية التوافقية” التي تحلَّى بها سليماني لجمع الأضداد والعلاقات الشخصية والنفوذ الرسمي الذي بناه في سوريا، هو إرث و”مهمة صعبة” تثقل كاهل خليفته، الجنرال إسماعيل قاآني. كما يبدو أن حزب الله، بوصفه الجماعة الأكثر قربًا من الناحية العقائدية مع إيران، يمارس اليوم جزءًا من مهام سليماني في توجيه الوجود العسكري وإدارته في سوريا وتسوية الخلافات بين الفصائل.
ترغب طهران بعودة العلاقات العربية-السورية إلى سابق عهدها لتحقيق البيئة الآمنة لتحقيق مكاسب اقتصادية تغطي تكاليف الحرب، إلا أنها في الوقت ذاته تراقب عملية التطبيع بحذر شديد كي لا يهدد هذا التطبيع مصالحها في سوريا. قد يظهر في المستقبل تيار في الطبقة الحاكمة السورية يطالب بخروج القوات الإيرانية من سوريا بسبب انتهاء المعارك ومحاولة جذب الاستثمارات وإعادة الإعمار، إلا أن إيران لن تتخلى عن سياسة دعم الجماعات المسلحة العابرة للحدود في سوريا لأنها تقع في صلب الإستراتيجيات الدفاعية للحروب غير المتكافئة لطهران وتستخدمها للردع العسكري ولتحقيق النفوذ السياسي والإستراتيجي، وتشكِّل أيضًا نموذجًا تاريخيًّا متكررًا، لحالة فقدان إيران للتحالفات الإستراتيجية والتهديد المستمر.
مركز الجزيرة للدراسات