تثير إعادة طرح قانون “الجرائم المعلوماتية” في البرلمان العراقي إلى جانب مقترحات أخرى متعلقة بالحريات مخاوف العديد من الصحافيين والناشطين من إمكانية أن تؤدي تلك إلى قمع أكبر لحرية التعبير والتظاهر السلمي.
يتزامن طرح مشروع القانون، إضافة إلى قوانين أخرى أبرزها “تجريم التجاوز على رجال الدين والمقار الحزبية”، مع الهجمات الأخيرة التي شنها أنصار التيار الصدري على مقار تابعة لقوى “الإطار التنسيقي” الموالي لإيران.
وتتزايد مخاوف الناشطين العراقيين من قمع واسع قد يطاولهم منذ تسلم “الإطار التنسيقي” مقاليد السلطة في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، وفي حين يرى مراقبون أن قوى السلطة وتحديداً التيارات الموالية لإيران تحاول تمرير تلك القوانين في مسعى منها لاستباق أي احتجاجات مناهضة لها، تبرر القوى الداعمة للقانون موقفها بأنه يأتي لـ”الحفاظ على بنية المجتمع العراقي ورمزية رجال الدين”، فضلاً عن مكافحة “جرائم الابتزاز الإلكتروني”.
تجاهل التضحيات
وفي أول رد فعل دولي على محاولات إعادة طرح قوانين “الجرائم المعلوماتية” ومشروع قانون “حرية التعبير والتظاهر السلمي”، نشرت “منظمة العفو الدولية” وشبكة “أنسم” تقريراً، في 18 يوليو (تموز)، قالت فيه إن إعادة طرح القانونين “سيقيدان بشدة، في حال اعتمادهما، الحق في حرية التعبير والتجمع السلمي للشعب العراقي”.
وأشارت المنظمة إلى أن محاولة السلطات العراقية الأخيرة قمع حرية التعبير تكشف عن “تجاهلها الصارخ للتضحيات الاستثنائية التي قدمها العراقيون خلال انتفاضة 2019 لضمان حرياتهم”. وشددت على ضرورة “سحب الحكومة العراقية مشروعي القانونين القمعيين هذين”، مردفة أن على البرلمان “عدم تمرير أي قوانين من شأنها تقييد حقوق العراقيين الإنسانية من دون مبرر”.
وأشارت المنظمة إلى منح مشروع القانون المقترح في شأن حرية التعبير والتجمع السلمي السلطات العراقية غطاء قانونياً “للمحاكمة التعسفية لأي شخص يدلي بتعليقات عامة تنتهك (الآداب العامة) أو (النظام العام)”، فيما يشير ناشطون إلى أن تلك العبارات “فضفاضة وتمكن النظام السياسي من استغلالها لقمع معارضيه”.
وبخصوص مشروع القانون المقترح في شأن الجرائم المعلوماتية أوضحت المنظمة “قد يواجه أولئك الذين ينشرون محتوى عبر الإنترنت، يعتبر أنه يمس بمصالح البلاد الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية أو الأمنية العليا، عقوبة تصل إلى السجن مدى الحياة وغرامة تصل إلى 50 مليون دينار عراقي (نحو 38 ألف دولار)”، مبينة أن تلك العبارات “مبهمة التعريف”.
لا تعد تلك المرة الأولى التي تتحدث فيها المنظمات الدولية عن مخاطر القانون، حيث انتقدت “هيومن رايتس ووتش” مشروع القانون في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، واصفة إياه بأنه “يتعارض مع القانون الدولي ويحد بشكل خطر من الحق في حرية التعبير”.
هجمات الصدريين
أعلنت كتلة ائتلاف “دولة القانون”، في 17 يوليو (تموز) تقديمها 5 مشاريع قوانين إلى البرلمان، وهي “مقترح قانون تجريم الاعتداء على المراقد المقدسة ودور العبادة ومراجع الدين، ومقترح قانون تجريم الاعتداء على المؤسسات الرسمية ومقرات الأحزاب، وتشريع قانون جرائم المعلوماتية، وتشريع قانون مكافحة المخدرات، وتشريع قانون تجريم المثلية”.
وقالت الكتلة في بيان إن الدعوة لتشريع تلك القوانين يأتي لـ”الحفاظ على بنية المجتمع العراقي، والالتزام بالثوابت الإسلامية، وعلى رأسها توجيهات المرجعية الدينية في الحفاظ على السلم الأهلي والأمن المجتمعي”.
وتأتي دعوة ائتلاف “دولة القانون” إلى تشريع تلك القوانين بعد ساعات قليلة على انتهاء الهجمات التي شنها أنصار التيار الصدري على مقار أحزاب “الإطار التنسيقي” أكبر تكتل برلماني موال لإيران.
وبرر أنصار التيار الصدري هجماتهم بأنها تأتي رداً على ما قالوا إنها “إساءة إلى مرجعهم محمد الصدر وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر من قبل شخصيات ووسائل إعلام تابعة للإطار التنسيقي”.
رمزية رجال الدين
في مقابل الانتقادات والمخاوف، التي يعبر عنها الناشطون والصحافيون والحقوقيون، تبرر القوى الداعمة للقانون بأنه يأتي لمواجهة “الجرائم الإلكترونية” والحفاظ على “رمزية المرجعيات الدينية والاجتماعية والسياسية”.
وطالب مجلس القضاء الأعلى البرلمان العراقي بـ”المضي في تشريع قانون الجرائم المعلوماتية بما يكفل حسن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وعدم استخدامها منصات لإثارة الفتن وزعزعة الأمن المجتمعي، والحفاظ على رمزية المرجعيات الدينية والاجتماعية والسياسية”.
وأشار بيان القضاء العراقي 17 يوليو إلى التوجيه للمحاكم المتخصصة بـ”تشديد الإجراءات بخصوص جريمة الإساءة إلى الرموز والمعتقدات الدينية”.
وقال ائتلاف “إدارة الدولة” المشكل للحكومة العراقية في بيان يوم 17 يوليو، إنه بحث “خريطة التشريعات التي تحظى بأولوية المواطن لتشريعها في الفصل التشريعي الجديد لمجلس النواب، ومنها قانون جرائم المعلوماتية”.
وكان عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي طالب اليساري قال في تصريح صحافي الشهر الماضي إن “قانون جرائم المعلوماتية اكتمل وقرئ للمرة الثانية وهو جاهز للتصويت بعد الفصل التشريعي”.
وأشار اليساري وهو عضو في “الإطار التنسيقي” إلى أن تعديلات كبيرة أجريت على القانون “تتناسب مع حجم الجريمة وجسامتها مع عقوبة الجريمة الإلكترونية التي أصبحت تهدد المجتمعات”.
في المقابل، يعتقد عضو تحالف “قوى التغيير الديمقراطية” المعارض ياسر السالم أن تحالف “إدارة الدولة” يتحرك بوضوح في مساعي “تشريع منظومة قوانين تقيد الحريات بشكل أكبر”، مبيناً أن “المعارضة الشديدة مجتمعياً وسياسياً حالت دون تمرير تلك المشاريع”.
وعلى رغم امتلاك “الإطار التنسيقي” وحلفائه غالبية داخل البرلمان العراقي، يشكك السالم في إمكانية تمرير مشاريع القوانين تلك، لافتاً إلى أن “المقاومة المجتمعية” ستحول دون تمرير القانون بصيغته الحالية.
ويختم أنه “من غير المستغرب أن تقدم القوى السياسية على محاولة جديدة لتمرير تلك القوانين، خصوصاً مع استمرار اعتمادها على منظومة التشريعات التي تعود إلى النظام السابق واستناد المحاكم إليها في شأن القضايا المتعلقة بالحريات”.
أقسى نسخة من القانون
وأعيد طرح مشروع القانون، في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، بعد رسالة من وزيرة الاتصالات هيام الياسري، التي تنتمي إلى كتلة “الإطار التنسيقي”، طالبت فيها البرلمان العراقي بتسريع تشريع القانون.
وقالت الوزيرة في الرسالة إن وزارة الاتصالات “سبق وأن قدمت عام 2011 مسودة قانون جرائم المعلومات، ولم يتم إقراره حتى الآن”.
ويعتقد صحافيون أن الوزارة تحاول تشريع ما وصفوه بـ”أقسى نسخة من القانون” خصوصاً مع إشارتها إلى عام 2011، في حين شهدت تلك المسودة تعديلات كثيرة خلال السنوات الماضية ولم تتمكن أية دورة برلمانية من تمريره.
وكانت الوزيرة دافعت عن القانون ووصفته بأنه “مهم لتنظيم وسائل التواصل الاجتماعي وحماية العائلات العراقية من الابتزاز، والمشكلات الأخرى المترتبة على الانفتاح الهائل واللانظامي”.
وتعود بوادر تشريع قانون “الجرائم المعلوماتية” إلى عام 2006، في مسعى من السلطات العراقية حينها إلى مواجهة استخدام تنظيم “القاعدة” منصات الإنترنت في تجنيد عناصره، إلا أن بنوده كانت متخصصة فقط بهذا الجانب.
وفي عام 2011 أعادت حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي إحياءه إثر الاحتجاجات الشعبية في فبراير (شباط) من العام نفسه، فيما حالت معارضة منظمات حقوقية وناشطين دون إمراره.
وتزامنت محاولات إعادة إحياء القانون مع الحركات الاحتجاجية التي شهدتها البلاد في أعوام 2015 و2018، حتى العام 2020 بعد أشهر قليلة على انتهاء انتفاضة أكتوبر 2019 العراقية.
رسائل إلى التيار الصدري
يرى الكاتب والصحافي مصطفى ناصر أن قوى “الإطار التنسيقي” تحاول إيصال رسائل إلى زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر مفادها بأنها “قادرة على فرض قوانين من أجل قمع أجنحته وأدواته الإعلامية والإدارية والسياسية من خلال سلة قوانين يمكنها أن تنقض على التيار الصدري بسهولة”.
ويشير ناصر في حديث لـ”اندبندنت عربية” إلى أن مشروع قانون “جرائم المعلوماتية” يمثل “ورقة سياسية تستخدمها السلطة لابتزاز التيارات والأحزاب السلطوية المناوئة لها تارة، والمجتمع المدني والمدونين والصحافيين تارة أخرى”.
ويبين تزامن طرح القانون مع الصدامات الأخيرة بين التيار الصدري و”الإطار التنسيقي”، “الرسائل السياسية التي يريد المالكي إيصالها إلى الصدر”، بحسب ناصر، الذي يلفت إلى أنه على رغم ذلك “ثمة رغبة سياسية خصوصاً من الأحزاب الإسلامية الشيعية بتمرير القانون”.
وعلى رغم ما تبديه العديد من القوى السياسية من رغبة في تمرير تلك القوانين، يستبعد ناصر إمكانية تحقق ذلك، خصوصاً أن “معظم القوانين في العراق لا بد لها أن تحظى بتوافق إقليمي ودولي”، مبيناً أن هذا الأمر غير متحقق حالياً.
3 مسارات
في السياق ذاته، يعتقد أستاذ العلوم السياسية هيثم الهيتي أن ما يجري يمثل “مرحلة متقدمة من محاولات الإجهاز على حرية التعبير في العراق”.
ويشير الهيتي إلى ثلاثة مسارات تحاول السلطة من خلالها “تحقيق انتصار” على حرية التعبير، يتمثل الأول بـ”محاولة وضع شخصيات ومؤسسات دينية في سياق مقدس يتفوق على القانون وتجريم من ينتقدها”، أما المسار الثاني فيتعلق بـ”إدخال المؤسسات السياسية والحزبية وتحديداً ذات الطابع الديني ضمن هذا القالب”.
أما المسار الثالث، فيرتبط بـ”توظيف القانون العراقي في سياق حصول القوى الممسكة بالسلطة على تشريعات تتيح لها قمع حرية التعبير”، مبيناً أن “ضبابية المواد القانونية التي يراد تمريرها ستمكن السلطات من ملاحقة حتى من يتحدث عن ملفات فساد”.
ولعل ما يدفع السلطة في هذا التوقيت إلى الدفع نحو تشريع تلك القوانين، بحسب الهيتي، هو “المخاوف من احتمالية صراع قريب مع التيار الصدري أو القوى المدنية”، لافتاً إلى أن قوى الإطار التنسيقي تحاول “تدعيم موقفها لمواجهة أي احتجاجات مشابهة لما جرى خلال انتفاضة أكتوبر 2019”.
اندبندت عربي