عندما يقول وزير الخارجية الإيراني الأسبق الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي، في حواره مع صحيفة “انتخاب” (الاختيار)، في 22 يوليو الجاري (2023)، أنه “لولا تهديد الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان للاتحاد السوفيتي لكنا شهدناً جزءاً آخر من الأراضي الإيرانية ينفصل عننا” (في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية)، فإن ذلك يطرح دلالة مهمة تفيد أن الحساسية التاريخية الإيرانية تجاه روسيا ما زالت قائمة بقوة، وأنها ما زالت تمارس دورها كمتغير رئيسي في إدارة اتجاهات العلاقات بين الطرفين.
صالحي في حواره مع الصحيفة، القريبة من تيار المعتدلين، طرح مبادرة جديدة لإجراء مفاوضات شاملة مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي ما زالت قوى سياسية عديدة داخل إيران تصفها بأنها “شیطان بزرگ” أو “الشيطان الأكبر”. وربما لا يكون خيار التفاوض مع واشنطن جديداً في حد ذاته، فدائماً ما تحولت هذه الفكرة إلى محور خلاف رئيسي داخل إيران، على مدى الأعوام الأربعة والأربعين الماضية.
لكن الجديد في الأمر هو أن صاحب المبادرة يستدعي في هذا السياق أحداثاً تاريخية وتطورات حالية ليضفي من خلالها وجاهة خاصة على مبادرته، ويوجه بشكل غير مباشر انتقادات قوية للمقاربة الكلاسيكية التي يتبناها النظام، ولا سيما قيادته الرئيسية ممثلة في المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي وتيار المحافظين الأصوليين الذي يسيطر على معظم مراكز صنع القرار في الدولة، والتي ترفض هذا الخيار بشكل واضح.
وهنا، فإنه إلى جانب تهديد ترومان، فإن صالحي، على ما يبدو، يحاول الاستناد إلى الموقف الروسي الأخير تجاه قضية الجزر الإماراتية الثلاثة، والذي انعكس في البيان الختامي لاجتماع وزراء خارجية روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي في موسكو، في 10 يوليو الجاري. إذ أيدت روسيا في البيان دعوة إيران إلى الاستجابة لجهود تسوية الخلاف عبر المفاوضات الثنائية أو التحكيم الدولي، وهى المقاربة التي تتبناها الإمارات إزاء القضية نفسها.
حدود التحالف
انطلاقاً من ذلك، يمكن القول إنه رغم حرص إيران حالياً على توثيق علاقاتها مع روسيا، في سياق ما يسمى بسياسة “التوجه شرقاً” التي تتبناها حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي منذ وصوله إلى السلطة في أغسطس 2021، فإن ذلك لا ينفي أنها حريصة أيضاً على عدم وضعها في موضع “الحليف”، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء عاملين أساسيين:
الأول، عام ويرتبط بالاتجاهات الرئيسية للسياسة الخارجية الإيرانية، التي تقوم على أن “التحالف” مع قوة أخرى بقدر ما يمكن أن يعزز من موقع الدولة في مواجهة خصومها، فإنه في الوقت نفسه يفرض عليها خيارات محددة ترتبط بالالتزامات التي يتضمنها هذا التحالف، وهو ما يتناقض مع حرص إيران باستمرار على توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع التطورات التي تطرأ على الصعيدين الإقليمي والدولي إن لم يكن لاستحصال أكبر قدر من المكاسب الممكنة عبرها فعلى الأقل لتحييد أية مخاطر قد تنجم عنها. وفي رؤية طهران، فإن ضغوط هذا التحالف المفترض تتزايد في حالة ما إذا كانت الدولة الحليفة قوة رئيسية على الساحة الدولية.
والثاني، خاص ويتصل مباشرة بالعلاقات مع روسيا، التي تعتبرها إيران أقرب إلى “شريك الضرورة” الذي تفرضه الظروف التي تمر بها إيران، والضغوط والعقوبات التي تتعرض لها من جانب الدول الغربية، بسبب اتساع نطاق الخلافات العالقة بين الطرفين والتي تتضمن البرنامجين النووي والصاروخي والحضور الإقليمي والموقف من إسرائيل وغيرها.
هذا التوصيف المحدد لاتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية وللعلاقات بين إيران وروسيا ربما يفسر، إلى حد ما، بعد الظواهر والتطورات التي تشهدها تلك العلاقات والقضايا الرئيسية في هذا الجانب من السياسة الإيرانية، على غرار تزايد التحذيرات داخل إيران من عواقب “وضع كل البيض في سلة روسيا والصين”، وحالياً تصاعد الدعوات لإجراء مفاوضات شاملة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
روسيا وعرقلة الصفقة النووية
اللافت في هذا السياق، هو أن المبادرة الجديدة التي طرحها صالحي، وردود الفعل الإيرانية المتشددة إزاء الموقف الروسي المؤيد للمقاربة الإماراتية إزاء تسوية قضية الجزر الثلاث، سبقتها تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف، في 26 أبريل 2021، وأثارت أيضاً ردود فعل متباينة داخل إيران.
إذ أشار ظريف إلى أن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف فعل ما في وسعه لكى يمنع إيران من قبول الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه مع مجموعة “5+1” في 14 يوليو 2015، مشيراً إلى أن روسيا لم ترغب أبداً في تحسين العلاقات بين إيران والدول الغربية.
ومن دون شك، فإن ما يضفي مزيداً من الأهمية والزخم على تصريحات ظريف هو أنه أدلى بها وقت أن كان في السلطة. صحيح أن هذه التصريحات جاءت في سياق تسجيل مسرب، إلا أنها في النهاية عبرت عن وجهة نظر حكومة روحاني في السياسة الروسية إزاء الملفات الرئيسية التي تحظى باهتمام خاص من جانب طهران، وفي القلب منها الاتفاق النووي.
هنا، فإن هذا الجدل الذي أثارته تصريحات ظريف يفرض سؤالاً رئيسياً مفاده: إذا كانت روسيا تبدي تحفظات عديدة حول الاتفاق النووي، فلماذا شاركت في المفاوضات التي أفضت إليه؟. والإجابة ببساطة تكمن في اعتبارين: أولهما، أنها لا تملك ترف المخاطرة بالعزوف عن الانخراط في ترتيبات خاصة باتفاق مهم بهذا الشكل تشارك فيها إيران والولايات المتحدة الأمريكية، دون أن يكون لها دور رئيسي في هذه الترتيبات بحيث لا يمكن لها أن تستمر من دونها.
ولا ينفصل ذلك عن مخاوف كانت تنتاب موسكو من أن هذا الاتفاق كان من الممكن أن يؤدي إلى تحسن العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، والدول الغربية بشكل عام، بشكل يمكن أن يساهم في اقتراب الأخيرة من حدودها. ومن هنا، فإنها تتحفط بشكل مستمر على فكرة إجراء مفاوضات ثنائية ومباشرة بين طهران وواشنطن، وتعتبر أن مجرد التفكير في هذا الخيار معناه أن لدى العاصمتين ما تحاولان إخفاءه عنها.
وثانيهما، أنها قبلت المشاركة في الاتفاق لأن الهدف منه يتوافق مع حساباتها ومصالحها في النهاية، والتي تتمثل في منع إيران من امتلاك القنبلة النووية، وهو خط أحمر لن تسمح به ليس فقط الدول الغربية، وإنما روسيا قبلها.
وهنا، فإن ذلك ينقلنا من جديد إلى الجدل الذي أثارته مبادرة صالحي. إذ أنها توحي للوهلة الأولى أن إيران لا تأمن تحولات السياسة الروسية، حتى في ظل العلاقات القوية التي تؤسسها الدولتان في المرحلة الحالية، وأن ذلك سمح بظهور هذا الاتجاه الذي يريد عبر إجراء مفاوضات شاملة مع الولايات المتحدة الأمريكية الوصول إلى نقطة توازن في العلاقات مع القوتين الرئيستين على الساحة الدولية.
وربما يظهر في وقت لاحق اتجاه آخر داخل إيران يدعو، وقد يمارس ضغوطاً، من أجل كبح جماح الدعم الذي تقدمه إيران إلى روسيا في الحرب الأوكرانية، حيث تستخدم روسيا المسيرات الإيرانية في استهداف البنية التحتية الأوكرانية. إذ لا يمكن تجاهل أن هذا الدعم باتت له تكلفة لا تبدو هينة، خاصة بوصول العلاقات مع الدول الغربية إلى مرحلة غير مسبوقة من التوتر، لدرجة أدت إلى تعثر المفاوضات النووية، ودفعت الأخيرة إلى التفكير حالياً في دعم جهود تمديد الحظر الأممي المفروض على إيران في مجال الأنشطة المرتبطة بالصواريخ الباليستية، خاصة أن هذا الحظر من المفترض أن يتم رفعه في 18 أكتوبر القادم، وفقاً لمبدأ “SNAPBACK”، بعد مرور ثماني سنوات من تاريخ اعتماد خطة العمل المشتركة أو الاتفاق النووي.
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الحديث في هذا السياق يقتصر على احتمال بروز اتجاه في هذا الصدد، دون أن ينفي ذلك أن دوائر سياسية نافذة في إيران ربما تفكر في رفع مستوى دعمها لروسيا في الحرب، في مرحلة ما بعد رفع الحظر الأممي على الأنشطة الخاصة بالصواريخ الباليستية، بعد أقل من شهرين من الآن.
وفي الأخير، يمكن القول إن العلاقات مع روسيا سوف تبقى باستمرار محل جدل وخلاف داخل إيران، مثلها مثل العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كانت الظروف الحالية والتطورات التي تشهدها الساحة الدولية تفرض على إيران تأسيس علاقات قوية مع روسيا في سياق ما يمكن تسميته بـ”شراكة الضرورة”، فإن هذه الظروف، في رؤية اتجاهات عديدة في طهران، قد لا تبقى قائمة إلى الأبد، مثلها مثل التوتر والصراع مع الغرب الذي قد لا يبقى بدوره إلى النهاية.
وإذا كانت إيران لم تنس مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في عملية إسقاط حكومة الدكتور محمد مصدق وإعادة الشاه محمد رضا بهلوي إلى العرش في عام 1953، فإنها لن تنس أبداً أن القوات الروسية هي من قامت بقصف ضريح الإمام الرضا في مدينة مشهد في عام 1912.
مركز الأهرام للدرسات