مسار روسيا الوعر نحو الديمقراطية

مسار روسيا الوعر نحو الديمقراطية

“بحق الله، لا يمكن لهذا الرجل أن يظل في السلطة” هذا ما قاله الرئيس الأميركي جو بايدن عن نظيره الروسي فلاديمير بوتين، بعد شهر من شن روسيا غزواً وحشياً على أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

هذا التعليق العفوي المرتجل الذي أدلى به بايدن وحاولت إدارته التراجع عنه بسرعة، لم يكن مجرد تعبير عن الغضب من الدمار الذي أطلقته حرب بوتين المتعمدة، بل كشف أيضاً عن الافتراض الراسخ بأن العلاقات بين روسيا والغرب لا يمكن أن تتحسن طالما أن بوتين موجود في السلطة.

في الحقيقة، إن هذا الشعور شائع على نطاق واسع بين المسؤولين في التحالف عبر الأطلسي وأوكرانيا، وأكثر من عبر عنه بطلاقة وصراحة كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نفسه، الذي استبعد في سبتمبر (أيلول) الماضي إجراء محادثات سلام ما لم يتول زعيم روسي جديد الرئاسة.

هناك سبب وجيه للشعور بالتشاؤم حول إمكان أن تغير روسيا مسارها في ظل حكم بوتين. لقد أخذ بلاده في اتجاه أكثر قتامة واستبدادية، وهو انعطاف ازدادت حدته بسبب غزو أوكرانيا.

واستطراداً، فإن الاحتجاز غير المشروع لمراسل صحيفة “وول ستريت جورنال” إيفان غيرشكوفيتش في مارس (آذار)، والحكم على الناشط المعارض فلاديمير كارا مورزا بالسجن 25 عاماً في أبريل (نيسان)، على سبيل المثال، يذكرنا بشكل مخيف بالتدابير من الحقبة السوفياتية. بمجرد أن يعتمد القادة على القمع، يصبحون مترددين في ممارسة ضبط النفس خوفاً من أن يوحي ذلك بالضعف ويزيد من جرأة منتقديهم ومنافسيهم.

وفي الواقع، يدفع بوتين روسيا أكثر فأكثر نحو الشمولية محاولاً حشد المجتمع الروسي ليس في سبيل تأييد حربه على أوكرانيا فحسب بل أيضاً دعم كراهيته للغرب.

إذا كان من غير المرجح أن تتغير علاقات الغرب مع روسيا أثناء وجود بوتين في السلطة، فربما تتحسن الأمور إذا رحل، بيد أن السجل التاريخي للتحولات السياسية التي أعقبت خروج قادة استبداديين دام حكمهم لفترة طويلة لا يوفر مجالاً كبيراً للتفاؤل. فالطريق المؤدي نحو روسيا أفضل ليس ضيقاً فحسب، لا بل وعر وغير آمن.

نادراً ما يخسر القادة الاستبداديون سلطتهم وهم في خضم حرب بدأوها. وطالما أن الحرب مستمرة، يبقى موقع بوتين أكثر أماناً، مما يجعل التغيير الإيجابي أقل احتمالية. علاوة على ذلك، فإن الأنظمة الاستبدادية غالباً ما تستمر في أعقاب رحيل القادة الذين حكموا فترات طويلة مثل بوتين.

إذا مات بوتين وهو لا يزال في منصبه أو أطاح به أشخاص من الداخل، فمن المرجح أن يبقى النظام على حاله. وفي مثل هذه الحالة، ستبقى الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الروسية كما هي إلى حد كبير، وسيظل الكرملين عالقاً في فترة من المواجهة المطولة مع الغرب.

على رغم كونه محفوفاً بالمخاطر فالأرجح أن الطريق المؤدي نحو روسيا أفضل يمر الآن عبر الانتصار الأوكراني

على رغم ذلك، ثمة تطور واحد يمكن أن يحدث تغييراً أكثر جوهرية في روسيا، وهو النصر الأوكراني، إذ إن فوز كييف في الحرب يثير احتمالاً، ولو طفيفاً، بأن يجبر بوتين على ترك منصبه، مما يفتح باباً أما تشكيل حكومة روسية تعتمد أسلوباً مختلفاً. وقد تؤدي هزيمة روسيا في الحرب إلى تحفيز ضغط من النوع التصاعدي من الأسفل إلى الأعلى، المطلوب من أجل قلب نظام بوتين رأساً على عقب.

وينطوي مثل هذا التطور على مخاطر العنف والفوضى واحتمال ظهور حكومة أكثر تشدداً في الكرملين، لكنه يفتح في الوقت نفسه المجال أمام مستقبل أكثر تفاؤلاً بالنسبة إلى روسيا وعلاقاتها مع جيرانها والغرب. وعلى رغم كونه محفوفاً بالمخاطر، فالأرجح أن الطريق المؤدي نحو روسيا أفضل يمر الآن عبر الانتصار الأوكراني.

صمود بوتين

العائق الأول أمام روسيا ما بعد بوتين هو بالطبع بوتين بحد ذاته. بعد 23 عاماً في السلطة وعلى رغم التحديات التي ظهرت منذ غزوه لأوكرانيا، يبدو أنه مستعد للاحتفاظ بالسلطة حتى عام 2036 في الأقل، أي حتى انتهاء المدة الدستورية المحددة له، وربما لفترة أطول.

منذ نهاية الحرب الباردة، إن القائد المستبد النموذجي الذي حكم بلداً لمدة 20 عاماً وكان عمره 65 سنة في الأقل (يبلغ بوتين من العمر 70 سنة) انتهى به المطاف إلى الحكم لمدة 30 عاماً تقريباً. وحينما كان هؤلاء القادة يحكمون أنظمة استبدادية تفردية، إذ تتركز السلطة في يد القائد، وليس الحزب أو المجلس العسكري أو العائلة المالكة، كانت ولايتهم المعتادة تدوم لفترة أطول، تناهز 36 سنة.

بالطبع، ليس كل الحكام المستبدين ثابتين، في الواقع إن نسبة أولئك منهم الذين حكموا لمدة 20 عاماً أو أكثر بعد الحرب الباردة لم تتخط الربع. تنبع ديمومة بوتين من إنشاء، ما يسميه العالم السياسي ميلان سفوليك، في روسيا “الأوتوقراطية الراسخة”، التي يعتمد فيها مسؤولو النظام والنخب السياسية والاقتصادية اعتماداً كاملاً على القائد ويكرسون أنفسهم للحفاظ على الوضع القائم الذي يستفيدون منه. وكلما طالت فترة بقاء هؤلاء المستبدين في السلطة، قل احتمال أن يطيح بهم أشخاص من داخل النظام.

والجدير بالذكر أن الإجماع القوي الذي يظهره المسؤولون الحاكمون حول الحاجة إلى استخدام القمع من أجل الحفاظ على الاستقرار، كما هو واضح حالياً في روسيا بوتين، يقلل بشكل أكبر من احتمالية إزاحة الزعيم رغماً عنه.

أمنت الحرب لبوتين أفضل حماية في وجه أي منافس محتمل من الداخل

ولم تفعل الحرب الروسية في أوكرانيا شيئاً يذكر من أجل تغيير نظرة بوتين، لا بل أصبحت قبضته على السلطة أكثر إحكاماً وسيطرة وستظل قوية طالما يستمر القتال، إذ إن الحروب تشجع الناس على الالتفاف حول العلم [أي الالتفاف حول القائد والتلاحم الوطني حول قضية حيوية]، ومنع الخلاف والمعارضة في سبيل التضامن الوطني.

وفي ذلك الإطار، أظهرت استطلاعات الرأي أن شعبية بوتين ارتفعت بمقدار 10 نقاط بعد أن شن الغزو. وبصفته رئيساً في زمن الحرب، شعر بوتين بأنه يملك السلطة الكافية لتضييق الخناق على المنتقدين ومنع تغطية وسائل الإعلام المستقلة والمنظمات غير الحكومية. وربما الأهم من ذلك، أن الحرب أمنت له حماية أفضل في وجه أي منافس محتمل من الداخل. في الواقع، يفتقر الجيش المنهك إلى القدرة على تنفيذ انقلاب.

وفي جميع الأحوال، استفادت الأجهزة الأمنية من الحرب وليس لديها حافز كبير يدفعها إلى الانضمام إلى مدبري الانقلابات. لهذه الأسباب، فإن الديناميكيات التي أوجدتها الحرب وأفعال بوتين الخاصة جعلته أكثر قدرة على الاحتفاظ بالسلطة مع احتدام الصراع، مما أدى إلى إرجاء التغيير السياسي في روسيا.

مات القيصر، يعيش القيصر الجديد

لكن بوتين لن يحكم إلى الأبد. في مرحلة ما، ستكون هناك روسيا ما بعد بوتين، حتى لو حصل ذلك فقط بعد وفاته. منذ نهاية الحرب الباردة، إن نسبة 40 في المئة من القادة الذين دام حكمهم طويلاً (أي الحكام الذين ظلوا في السلطة لمدة 20 عاماً أو أكثر) في الأنظمة الاستبدادية التفردية تخلوا عن السلطة بموتهم. ويبدو أن بوتين مستعد للبقاء في منصبه حتى النهاية المريرة.

إن التفردية الشديدة في النظام السياسي، إلى جانب الافتقار إلى جهاز حزب حاكم قوي في روسيا، يخلق وضعاً خطراً محتملاً بعد رحيل بوتين. والسيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن تنتقل السلطة إلى رئيس الوزراء، ميخائيل ميشوستين حالياً، الذي سيصبح رئيساً بالإنابة، وفق ما تمليه القواعد الرسمية. سيكون أمام مجلس الشيوخ في البرلمان الروسي أسبوعان لتحديد موعد لإجراء انتخابات.

عناصر في “مجموعة فاغنر” يستعدون للانسحاب بعد انتهاء محاولة التمرد في 24 يونيو (أ ف ب/غيتي)
عناصر في “مجموعة فاغنر” يستعدون للانسحاب بعد انتهاء محاولة التمرد في 24 يونيو (أ ف ب/غيتي)

خلال ذلك الوقت، ستخوض النخبة الروسية معركة تحدد من سيحل محل بوتين. ويمكن أن تكون عملية الانتقال فوضوية، إذ إن الجهات الفاعلة الرئيسة تتنافس على السلطة وتحاول توطيد مواقعها بطرق تؤكد وتعزز تأثيرها السياسي إلى أقصى درجات.

وقائمة أولئك من داخل النظام الذين سيخوضون المعركة هي قائمة طويلة وتشمل أمثال الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف، والنائب الأول لإدارة مكتب الرئاسة الروسية سيرغي كيريينكو، ووزير الزراعة الروسي ديمتري باتروشيف، الذي يتولى والده نيكولاي رئاسة مجلس الأمن [أمين عام مجلس الأمن القومي الروسي].

ويمكن لآخرين من خارج النظام، مثل يفغيني بريغوجين، رئيس شركة فاغنر لتجنيد المرتزقة، أن يزيدوا الاضطراب في عملية الانتقال. لكن في نهاية المطاف، من المرجح أن تتفق النخب المنقسمة على تكنوقراطي، أو شخص على غرار ميشوستين أو رئيس بلدية موسكو سيرغي سوبيانين، أو مرشح لا يحظى بتوافق آراء قوي على ما يبدو، وتعتقد جميع الجهات الفاعلة أنه يمكن السيطرة عليه، مرشح سيحافظ على النظام الذي يستفيدون منه.

إذا توفى بوتين وهو لا يزال في الحكم، فمن المحتمل أن خليفته لن يغير سوى قليل في النظام الروسي وعلاقاته الخارجية

وحينما تستقر الأمور، ستظل روسيا بالتأكيد دولة استبدادية. منذ نهاية الحرب الباردة، استمرت الأنظمة الاستبدادية إلى ما بعد وفاة 89 في المئة من الزعماء الذين دام حكمهم طويلاً وفارقوا الحياة وهم لا يزالون في السلطة. وفي كل حالة أدت فيها وفاة زعيم سلطوي إلى انهيار نظامه، كان البديل عنه نظاماً سلطوياً أيضاً. حتى في الأنظمة الاستبدادية التفردية، حيث تكون مسألة الخلافة معقدة إلى حد كبير، صمد النظام نفسه بعد وفاة الزعيم في 83 في المئة من الحالات.

من حين لآخر، يمكن لوفاة زعيم استبدادي أثناء توليه الحكم أن تغير المشهد السياسي بطرق تحريرية، كما حدث عندما توفي لانسانا كونتي في غينيا (كوناكري) عام 2008، وأجريت انتخابات حرة ونزيهة في عام 2010 للمرة الأولى منذ استقلال ذلك البلد. وعلى رغم ذلك، في كثير من الأحيان، من اللافت للنظر أن وفاة زعيم سلطوي أثناء توليه الحكم هو حدث عادي للغاية يمر مرور الكرام.

عندما يطاح بالقادة في انقلاب أو إسقاطهم في الانتخابات، فمن الآمن أن نفترض أن جزءاً من النخبة والمواطنين فقدوا الثقة بهم. وهذا الاستياء يضع النظام نفسه في مهب الريح. في المقابل، عندما يموت القادة لأسباب طبيعية، لا تكون هناك أي مكائد سياسية وراء رحيلهم. تبقى أساسيات النظام كما كانت، ولا تبدي النخب اهتماماً بزعزعة الوضع وإثارة المتاعب. وعلى رغم أنهم قد يتنازعون وراء الأبواب الموصدة حول من يجب أن يتولى القيادة، إلا أنهم عادة ما يصطفون خلف أي فرد يرونه بمثابة الرهان الأكثر أماناً لبقاء النظام.

اقرأ المزيد

داخل “فاغنر” ودورها الدموي في غزو روسيا لأوكرانيا

هل تنجح السعودية في إيقاف حرب أوكرانيا؟

حقيقة أزمة بوتين الأمنية

ما احتمالات سقوط بوتين؟
إذا توفى بوتين وهو لا يزال في الحكم، فمن المحتمل أن خليفته لن يغير سوى قليل في النظام الروسي وعلاقاته الخارجية. فالخلفاء الذين يحيدون عن الوضع القائم يواجهون مقاومة شرسة من الحرس القديم، الذين يحتفظون بسيطرة كبيرة على أدوات السلطة في النظام.

لذلك يميل القادة الجدد الذين يرثون مناصبهم من المستبدين المتوفين إلى الالتزام بالسياسة السابقة. عندما يحاولون الخروج عن المسار، فيظهرون اهتماماً مبدئياً بالإصلاح التحرري، مثلما فعل كل من بشار الأسد في سوريا وشوكت ميرزيوييف في أوزبكستان خلال فترة ولايتهما الأولى في المنصب، عادة ما تضغط عليهم الأجهزة الحكومية الموالية لأسلافهم لكي يعودوا لممارسات تقليدية أكثر قمعية.

كذلك، يميل خلفاء الحكام المستبدين المتوفين إلى الاستمرار في شن حروب أسلافهم حتى لو كانت تلك الحروب تسير بشكل سيئ. في ذلك السياق، وجدت العالمة السياسية سارة كروكو أن الخلفاء الذين يأتون من داخل النظام من المرجح أن يواصلوا شن الصراعات التي ورثوها، بالنظر إلى أنهم سيعتبرون مسؤولين عن الهزيمة في الحرب.

بعبارة أخرى، حتى لو لم يكن خليفة بوتين يشاركه الأهداف الحربية نفسها، فإن هذا القائد سيشعر بالقلق من أن أية تسوية قد تبدو وكأنها هزيمة ستنهي فترة ولايته فجأة. وإلى جانب إيجاد طريقة لإنهاء الحرب، سيواجه خليفة بوتين قائمة طويلة من المسائل الشائكة، بما في ذلك كيفية تسوية وضع الأراضي التي ضمت بشكل غير قانوني مثل شبه جزيرة القرم، وما إذا كان يتعين على روسيا دفع التعويضات لأوكرانيا، وما إذا كان سيقبل المساءلة عن جرائم الحرب المرتكبة في أوكرانيا.

على هذا النحو، إذا مات بوتين وهو لا يزال في منصبه، فمن المرجح أن تظل علاقات روسيا مع الولايات المتحدة وأوروبا معقدة، على أفضل تقدير.

صدمة للنظام

لقد عززت الحرب قبضة بوتين على السلطة، وحتى وفاته قد لا تؤدي إلى تغيير كبير. في هذه المرحلة، لا شيء قادراً على وضع روسيا على مسار مختلف إلا التحول الجذري في المشهد السياسي. ومع ذلك، فإن انتصار أوكرانيا يمكن أن يعجل بمثل هذا التحول. والانتصار الأوضح لأوكرانيا سينطوي على استعادة حدودها المعترف بها دولياً في عام 1991، بما في ذلك أراضي شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في عام 2014.

وفي الواقع، إن الحقائق على الأرض في ساحة المعركة ستجعل من الصعب تحقيق انتصار شامل بهذا الشكل، لكن تحقيق نتائج أقل أهمية متمثلة في فقدان روسيا لأراض أوكرانية كانت تحت سيطرتها سابقاً قبل غزو فبراير 2022، سينجح في إرسال إشارة لا لبس فيها على عدم كفاءة بوتين كقائد، وهو أمر لا يستطيع الكرملين إخفاءه بسهولة عن الرأي العام المحلي. ونتائج مثل هذه ستزيد، ولو بشكل طفيف، من احتمالية الإطاحة ببوتين وتصفية أكبر للحسابات في الكرملين. إذاً، فالطريق الأمثل الذي قد يؤدي إلى التغيير السياسي في روسيا يمر عبر أوكرانيا.

لن تترجم هزيمة روسيا بسهولة إلى تغيير في القمة، فالطبيعة الفردية التي يتصف بها نظام بوتين تخلق مقاومة قوية في وجه التغيير بشكل خاص. في الواقع، تتضمن ديكتاتوريات الاستبداد الفردي آليات مؤسسية قليلة لتسهيل التنسيق بين المنافسين المحتملين، وتميل النخبة إلى رؤية مصائرها مترابطة مع مصير الزعيم، وتساعد هذه الديناميكيات الحكام المتفردين في تحمل الخسائر العسكرية.

لكن حتى المستبدين المتفردين ليسوا محصنين ضد تداعيات الأداء العسكري الضعيف. وجد عالما السياسة جياكومو تشيوزا وهاين غويمانس أنه من عام 1919 إلى عام 2003، أقل من نصف الحكام الذين خسروا الحروب فقدوا السلطة بعد ذلك بوقت قصير. وكما الحال مع الأحداث المزلزلة الأخرى مثل الكوارث الاقتصادية أو الطبيعية، يمكن للهزائم العسكرية أن تكشف القادة على أنهم غير أكفاء، مما يؤدي إلى تحطيم هالتهم كقوة لا تقهر.

الهزيمة في الحرب يمكن أن تكون الشرارة التي تحشد المعارضة في وجه حكم بوتين

واستطراداً، يمكن أن تخلق الصدمات بؤرة للتعبئة، مما يفتح الطريق أمام العمل الجماعي الضروري لطرد الحكام المستبدين الراسخين. وغالباً ما تتضمن أنظمة مماثلة مواطنين يريدون الإصلاح بأعداد أكبر مما هو مفترض، لكنهم يخفون تفضيلاتهم وميولهم.

ونظراً إلى تعاملهم المتكرر مع بيئة معلومات مشوهة وغير موثوقة، فهم لا يعرفون سوى قليل عما إذا كان الآخرون يشاركونهم وجهات نظرهم، مما يؤدي إلى وضع يبتعد فيه الجميع عن المتاعب فيحتفظون بمواقفهم لأنفسهم، وتبقى فيه المعارضة سرية. لكن حدثاً محفزاً [مفجراً] مثل الهزيمة العسكرية يمكن أن يغير الحسابات، ويشجع المواطنين الإصلاحيين (حتى لو كانوا أقلية ضئيلة) على إعلان مواقفهم ويخلق تأثيراً تعاقبياً يفعل فيه مزيد من المواطنين الشيء نفسه. ببساطة، فإن الهزيمة في الحرب يمكن أن تكون الشرارة التي تحشد المعارضة في وجه حكم بوتين.

بشكل حاسم، في حال هزيمة روسيا، من المرجح ألا تأتي التحركات ضد بوتين مباشرة من دائرة المقربين منه. في الأنظمة التفردية مثل نظام روسيا البوتينية، يجد الذين داخل النظام صعوبة في تنسيق مواجهة فعالة ضد الزعيم، وذلك لأسباب ليس أقلها أن هذا الأخير يسعى إلى التلاعب بهم وتحريضهم على بعض.

جنود أوكرانيون يقفون على دبابة تشالنجر 2 في دورست بالمملكة المتحدة (رويترز)
جنود أوكرانيون يقفون على دبابة تشالنجر 2 في دورست بالمملكة المتحدة (رويترز)

وتنقسم النخبة الروسية إلى ما تسميه المحللة الروسية تاتيانا ستانوفايا “التكنوقراط”، وهي فئة تضم كبار البيروقراطيين وحكام المناطق وغيرهم من منفذي سياسات بوتين، و”الوطنيين”، وهي فئة تشمل رؤساء الأجهزة الأمنية، وكبار المسؤولين في حزب “روسيا الموحدة” الذي ينتمي إليه بوتين، وأمثال بريغوجين. هذه المجموعات تمتلك رؤى مختلفة في ما يتعلق بحل مشكلات روسيا وتشكيل مستقبل البلاد.

لذلك، هناك مخاطرة حقيقية بأن أي تحرك من مجموعة معينة لن تدعمه مجموعة أخرى، مما قد يؤدي إلى انهيار كامل للنظام الذي يستفيدون منه جميعاً. ومثل هذه الأخطار تخلق حواجز كبيرة أمام أي تحد لبوتين من الداخل. حتى لو أراد بعض أعضاء النخبة معاقبة بوتين على الفشل في زمن الحرب، فسيجدون صعوبة في حشد جبهة موحدة.

لقد سعى بوتين إلى بث الفرقة بين مسؤوليه من أجل تأمين حماية أفضل لنفسه من الانقلابات. على سبيل المثال، إن معسكر الوطنيين، الذي يضم الأجهزة الأمنية الروسية، ويعتبر المصدر الأكثر احتمالاً لتحرك نخبوي ضد بوتين، يتعرض لعملية تقسيم متعمدة إلى جهاز الحرس الفيدرالي، والحرس الوطني، وجهاز الأمن الفيدرالي، مما يعيق الوحدة والتنسيق اللازمين لتنظيم انقلاب.

حالياً، يعني غياب البديل المناسب لبوتين أيضاً أنه لا يوجد مركز ثقل يمكن أن تلتف حوله القوى المنافسة. والجدير بالذكر أن قدرته على استخدام الأجهزة الأمنية لمراقبة المعارضة (بما في ذلك استخدام جهاز لمراقبة جهاز آخر) والتكاليف الباهظة التي تترتب على اكتشاف أي معارضة، تقلل من فرص تمرد النخبة من الداخل.

وتؤكد البيانات أن القادة الاستبداديين الذين حكموا لمدة طويلة يواجهون خطر انقلابات ضئيل. ومن بين القادة الاستبداديين في فترة ما بعد الحرب الباردة الذين حكموا لمدة 20 عاماً أو أكثر، لا تبلغ نسبة أولئك الذين خلعوا نتيجة انقلاب إلا 10 في المئة. ومن اللافت في هذه الفترة أنه ما من انقلاب أدى إلى إسقاط زعيم استبدادي تفردي دام حكمه فترة طويلة وتجاوز عمره 65 سنة (مثل بوتين).

لكن القوى الناشئة خارج النظام يمكن أن تطيح ببوتين وتغير بشكل هادف نهج روسيا تجاه العالم. بالنظر إلى الافتقار إلى مؤسسات فعالة توجه المعارضة في روسيا اليوم، يمكن أن تمتد المعارضة ضد بوتين وتنتشر، فتؤدي إلى حركة جماعية قد تطيح به.

في الواقع، في الحالات التي لا يموت فيها القادة الاستبداديون المتفردون أصحاب الحكم الطويل وهم لا يزالون في السلطة، فإن الطريقة الأكثر شيوعاً لإزاحتهم هي الضغط من خارج النظام. منذ نهاية الحرب الباردة، أطيح بثلث الطغاة المتفردين الذين حكموا 20 عاماً أو أكثر من خلال الاحتجاجات الشعبية أو الثورات المسلحة.

والجدير بالذكر أن تصرفات بوتين منذ الغزو تثير إمكان ممارسة ضغط مماثل. تقليدياً، يسعى المستبدون إلى خلق مواطنين غير مبالين ومجردين من حس المواطنة يمكن السيطرة عليهم بسهولة. قبل الغزو، حكم بوتين روسيا بهذه الطريقة. لكن منذ أن شن الحرب، اضطر إلى إعلان “تعبئة جزئية”، واستدعى 300 ألف روسي للقتال في أوكرانيا. لقد وضع روسيا في حال حرب.

وكما ذكر المؤلف الروسي أندريه كوليسنيكوف، لم يعد بإمكان الروس أن يستمروا في عدم التفاعل. وأشار في هذه الصفحات “فورين أفيرز” إلى أن “المواطنين الروس الذين يعتمدون على الدولة اقتصادياً يجدون أنفسهم مضطرين، أكثر فأكثر، إلى أن يكونوا ’بوتينيين‘ فاعلين”.

لقد أصبحت أعمال الدعم العلنية للنظام أكثر شيوعاً، كما الحال بالنسبة إلى الحوادث التي يبلغ فيها الروس عن الأنشطة “المعادية للوطن” التي يقوم بها زملاؤهم في الوطن. لكن قد يكون من الصعب على النظام في نهاية المطاف أن يسيطر على مجتمع أكثر حراكاً.

مطالبة جماهيرية

إن تحدي حكم بوتين من القاعدة إلى القمة من شأنه أن يخلق إمكان حدوث تغيير سياسي في روسيا، لكنه لا يخلو من المخاطر. فالضغط من الأسفل يحمل معه احتمال اندلاع الفوضى والعنف إذا تفاقم وتحول إلى تمرد مسلح، على سبيل المثال. في روسيا، يمكن للجهود التي تبذلها الأقليات العرقية للضغط من أجل التمتع بقدر أكبر من السيادة، كما فعلت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أن تؤدي إلى نزع الشرعية أكثر عن بوتين لا بل حتى إلى الإطاحة به. وثمة عوامل عدة تعرقل هكذا قوى.

في الواقع، لقد زاد بوتين من نفوذه وتأثيره في القادة الإقليميين من خلال جعلهم أكثر اعتماداً على موسكو، ولا يزال الفخر الوطني بالدولة الروسية قوياً في الجمهوريات، كما أن مشاعر الانفصالية لا تحظى بشعبية خاصة في أي مكان في جمهوريات روسيا الاتحادية.

وعلى رغم ذلك، تشير البيانات المبنية على المقارنة إلى ضرورة عدم استبعادها. أظهر العالم السياسي ألكسندر تانينغ غروندهولم أنه على رغم أن إضفاء الطابع التفردي على الأوتوقراطية يجعل القائد أقل عرضة لتهديدات داخلية على غرار الانقلابات، إلا أنه يفعل ذلك على حساب زيادة مخاطر الحرب الأهلية. في حقبة ما بعد الحرب الباردة، أطاحت الحروب الأهلية بـ13 في المئة من القادة المتفردين الذين ظلوا في الحكم لفترة طويلة.

لقد بدأت مناطق روسيا تتحمل بالفعل الوطأة الأكبر من تكاليف حرب بوتين في أوكرانيا. في الواقع، اعتمد الكرملين بشكل غير متكافئ على مقاتلين من أفقر المناطق في روسيا التي تتألف من مجموعات كبيرة من الأقليات العرقية، بما في ذلك الجمهوريات المتمردة سابقاً مثل الشيشان ومقاطعات مثل بورياتيا وتوفا.

في توفا، على سبيل المثال، توفي واحد من كل 3300 شخص بالغ في القتال في أوكرانيا. (في المقابل توفي في موسكو واحد من بين 480 ألف بالغ). في مناطق أخرى مثل خاباروفسك، شعر الناس بالإحباط من موسكو لبعض الوقت، كما يتضح من الاحتجاجات المناهضة للحكومة هناك في عام 2020 بعد أن اعتقل الكرملين الحاكم المحبوب للمنطقة. وتجدر الإشارة إلى أن جولة أخرى من التعبئة تكون مركزة في المناطق، إلى جانب الصعوبات الاقتصادية المتزايدة، يمكن أن تغذي المشاعر الانفصالية.

نجاح تمرد مسلح في الإطاحة ببوتين قد يؤدي إلى وصول ديكتاتورية جديدة إلى السلطة

ومن الممكن أن تكون الهزيمة العسكرية الروسية هي العامل المحفز لبدء هذه العملية، إذ قد يشير انتصار أوكرانيا إلى مزيد من الضعف في السلطة المركزية الروسية وفي الجيش الروسي، مما يزيد من احتمالية أن ترى الجماعات الانفصالية أن هذه اللحظة مواتية لحمل السلاح. كما أن عودة المقاتلين المخضرمين الحاليين للمناطق الروسية مع إمكان الوصول إلى الأسلحة ولكن مع فرص اقتصادية ضئيلة من شأنه أن يسهل هذه التحركات أكثر.

واستكمالاً، يمكن لرجال الأعمال السياسيين، مثل بريغوجين، أن يأخذوا أيضاً في الاعتبار هذه الديناميكيات. وقد تؤدي جهود بريغوجين الرامية إلى إخلال توازن القوى في نظام بوتين إلى إشعال الصراع بين شركة فاغنر شبه العسكرية والقوات المسلحة الروسية وأجهزة الأمن، وتتحول إلى تمرد صريح.

وبطبيعة الحال، فإن الكرملين سيواجه أية محاولات انفصالية بالعنف، كما حدث خلال حربي روسيا مع الشيشان. من المستحيل التكهن ما إذا كانت تحركات مماثلة في سبيل الاستقلال قد تنجح أو ما إذا كان تغيير القيادة في القمة، الذي فرضته هذه الكارثة المتزايدة، قد يشجع على تصفية حسابات وطنية ويدفع الروس إلى التخلي عن مخططات بلدهم الإمبريالية في ما يتعلق بجيرانهم.

ولكن ما هو مؤكد أكثر، هو أن الاضطرابات العنيفة تميل إلى توليد مزيد من العنف. عندما أطيح بالحكام المستبدين نتيجة للحرب الأهلية في فترة ما بعد الحرب الباردة، فإن رحيلهم ضمن فعلياً إنشاء ديكتاتوريات جديدة، أو الأسوأ من ذلك، فشل الدولة التام.

ومن بين الأمثلة على ذلك ظهور نظام عائلة كابيلا في زائير (التي أصبحت الآن جمهورية الكونغو الديمقراطية) بعد الإطاحة بموبوتو سيسي سيكو في عام 1997 وانهيار الدولة في ليبيا بعد الإطاحة بمعمر القذافي في عام 2011. إذا نجح التمرد المسلح في الإطاحة ببوتين، لن تكون العواقب عنيفة فحسب، بل ستكون احتمالات وصول ديكتاتورية جديدة إلى السلطة مرتفعة أيضاً.

ولكن هناك شكل آخر أقل دموية من الضغط التصاعدي يمكن أن يؤدي إلى روسيا أكثر ليبرالية: الاحتجاجات الشعبية. في حقبة ما بعد الحرب الباردة، تمت الإطاحة بـ20 في المئة من القادة الاستبداديين المتفردين الذين ظلوا في الحكم لفترة طويلة من خلال الاحتجاجات الجماهيرية.

بالطبع، يواجه مثل هذا التحرك عقبات هائلة في روسيا اليوم: مستويات عالية من القمع، وتفكيك الكرملين للمعارضة، ونزوح مئات الآلاف من الروس (معظمهم من الليبراليين) منذ الغزو، ولولا مغادرتهم لخرجوا إلى الشوارع ربما.

ولكن حتى لو تمكن المعارضون من الاحتشاد في الساحات العامة بأعداد كبيرة، فإن الاحتجاجات الواسعة النطاق لن تضمن بأية حال من الأحوال الإطاحة ببوتين، بالنظر إلى أن الأنظمة الاستبدادية يمكنها عموماً التغلب على مثل هذه التحركات. لنأخذ، على سبيل المثال، تجربة إيران هذا العام، وبيلاروس في عام 2020 (وفي عام 2010)، وروسيا نفسها بعد انتخابات مثيرة للجدل في عامي 2011 و2012. في كل حالة، بدا النظام الاستبدادي فجأة ضعيفاً في مواجهة الاحتجاجات الجماهيرية، لكنه عاد لتأكيد سيطرته، من خلال استخدام العنف في كثير من الأحيان.

الاحتجاجات الجماهيرية الناجحة لا تضمن بشكل مؤكد ولادة روسيا أفضل

كما أنه بمجرد أن يتخلى الرجل القوي عن دفة القيادة، يمكن لاستراتيجياته القائمة على مبدأ فرق تسد أن تمهد الطريق أمام اندلاع الصراع بين الفصائل المختلفة. من المؤكد أن قوات الأمن في روسيا قوية بما يكفي لتشن تحدياً هائلاً لأي زعيم يهدد مصالحها. ويساهم انقسام عناصرها إلى مجموعات منفصلة في زيادة احتمال أن يتشاجروا بين بعضهم بعضاً. بعبارة أخرى، فإن الاحتجاجات الجماهيرية الناجحة لا تضمن بشكل مؤكد ولادة روسيا أفضل.

على رغم ذلك، توفر الاحتجاجات الشعبية المسار الأكثر تبشيراً بالخير نحو روسيا أكثر ليبرالية. منذ نهاية الحرب الباردة، كانت هناك سبع حالات أدت فيها الاحتجاجات إلى الإطاحة بزعيم استبدادي بقي في السلطة لمدة 20 عاماً أو أكثر. في ثلاثة من هذه البلدان، إندونيسيا في عام 1998، وتونس في عام 2011، وبوركينا فاسو في عام 2014، أجرت البلدان انتخابات ديمقراطية في غضون عامين. قد تبدو هذه الاحتمالات ضئيلة (ويمكن للديمقراطيات الناشئة أن تعود للشمولية) لكن ضع في اعتبارك أنه لا توجد أمثلة على حدوث تحول ديمقراطي بعد رحيل مستبدين مشابهين ماتوا وهم في السلطة أو أطيح بهم عن طريق انقلاب أو حرب أهلية. ولا وجود لطرق أخرى تؤدي إلى مستقبل ديمقراطي أفضل. ببساطة، يتمتع الروس أنفسهم بأفضل فرصة لتحقيق روسيا أفضل.

الاستعداد لروسيا ما بعد بوتين

بغض النظر عن الطريقة التي يترك فيها منصبه، فمن المرجح أن يغادر بوتين من دون سابق إنذار. وسيثير رحيله جدلاً مهماً حول أفضل السبل للتعامل مع روسيا ما بعد بوتين، ليس داخل دوائر صنع السياسة في واشنطن فحسب بل أيضاً على نطاق أوسع داخل التحالف العابر للأطلسي. وسيرى بعض الحلفاء في رحيل بوتين فرصة لإعادة ضبط العلاقات مع موسكو.

في المقابل، سيظل آخرون مصرين على وجهة نظرهم بأن روسيا غير قادرة على التغير. لذلك يجب على الولايات المتحدة استشارة الحلفاء الآن بشأن أفضل نهج يمكن استخدامه مع روسيا ما بعد بوتين من أجل تجنب احتمال أن يصبح رحيله مثيراً للانقسام. وستظل وحدة التحالف العابر للأطلسي حاسمة في إدارة العلاقات مع روسيا المستقبل.

في جميع السيناريوهات، سيكون من الصعب تمييز نوايا زعيم روسي جديد، حتى لو تولى السلطة بدعم من الشعب الروسي. عوضاً عن السعي إلى سبر نوايا الكرملين، التي سيكون لدى الزعيم الجديد حافز لإخفائها من أجل الحصول على تنازلات من الغرب، يجب أن تكون الولايات المتحدة والدول الأوروبية مستعدة للتعبير بوضوح عن شروطها لتحسين العلاقة. وينبغي أن تشمل تلك الشروط، كحد أدنى، انسحاب روسيا الكامل من أوكرانيا، والتعويضات عن الأضرار التي حصلت في زمن الحرب، والمساءلة عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان. وبقدر ما سترغب الولايات المتحدة والدول الأوروبية في استقرار العلاقات مع روسيا ما بعد بوتين، يجب أن تكون موسكو أيضاً مهتمة بهذا الاقتراح.

يجب أن تكون توقعات المسؤولين الأميركيين والأوروبيين أن روسيا ستظل استبدادية حتى بعد رحيل بوتين

نظراً إلى التوقعات القاتمة لأي احتجاجات مستقبلية والنتيجة غير المؤكدة التي ستحققها، يجب أن تكون توقعات المسؤولين الأميركيين والأوروبيين أن روسيا ستظل استبدادية حتى بعد رحيل بوتين. منذ نهاية الحرب الباردة، استمر الحكم السلطوي في 76 في المئة من الحالات إلى ما بعد رحيل زعيم استبدادي دام حكمه فترة طويلة. عندما يكون هؤلاء القادة أيضاً حكاماً مستبدين متفردين أكبر سناً، يستمر الاستبداد (أو تنهار الدول) 92 في المئة من الوقت، إذ إن أولئك القادة يرسخون المؤسسات والممارسات الاستبدادية بعمق، ويلقون بظلالهم [يبقى تأثيرهم لفترة طويلة] على البلدان التي يحكمونها.

لذلك تتطلب إدارة العلاقات مع موسكو استراتيجية طويلة الأمد ومستدامة ترمي إلى تقييد روسيا وقدرتها على شن عدوان خارج حدودها. ويجب أن تهدف مثل هذه الاستراتيجية أيضاً إلى إضعاف قبضة الاستبداد في روسيا بمرور الوقت.

كذلك، كان الفساد عاملاً رئيساً في تمكين نظام بوتين. فالشبكات غير المشروعة ترسخ مصالح النظام وتمنع الأفراد من خارج النظام من اكتساب النفوذ داخل النظام. ومن أجل إضعاف هذه الحواجز، يتعين على واشنطن فرض عقوبات بطريقة مناسبة على أصدقاء الكرملين في عالم الأعمال، ومكافحة غسيل الأموال، وجعل الأسواق المالية والعقارية في الولايات المتحدة وأوروبا أكثر شفافية، ودعم الصحافيين الاستقصائيين في محاولتهم للكشف عن مثل هذا الفساد.

ويمكن للولايات المتحدة أيضاً مساندة المجتمع المدني في روسيا، إذ يُعد قوة مهمة في تشكيل بلد أكثر ليبرالية وديمقراطية، بدءاً من دعم عمل عدد من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني الروسي، بما في ذلك الصحافيون وأعضاء المعارضة الذين فروا من البلاد منذ بداية الحرب في فبراير 2022.

في الواقع، إن دعمهم الآن سيساعد في إرساء الأساس لعلاقة أفضل بين الولايات المتحدة وروسيا ما بعد بوتين.

لكن في النهاية، لا تستطيع واشنطن وحلفاؤها أن يفعلوا سوى قليل في سبيل تشكيل مسار روسيا السياسي بشكل مباشر. ولا يمكن خلق روسيا أفضل إلا من خلال انتصار أوكراني واضح وصارخ، وهو الحافز الأنسب لتوليد تحد شعبي في وجه بوتين. هذه الهزيمة المدوية مطلوبة أيضاً لتمكين الروس من التخلص من طموحاتهم الإمبريالية وتعليم النخب المستقبلية في البلاد درساً قيماً حول حدود القوة العسكرية.

إن دعم أوكرانيا، في شكل مساعدة عسكرية مستمرة وجهود ترمي إلى إرساء البلاد في الغرب من خلال العضوية في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، سيمهد الطريق لتحسين العلاقات مع روسيا الجديدة. وسيكون تحقيق ذلك صعباً. لكن كلما كانت هزيمة روسيا حاسمة في أوكرانيا، زاد احتمال أن تشهد روسيا تغييراً سياسياً عميقاً، والآمال معقودة على غد أفضل.

*أندريا كيندال تايلور زميلة بارزة ومديرة برنامج الأمن عبر الأطلسي في مركز “الأمن الأميركي الجديد”. عملت بين عامي 2015 و2018 “نائبة ضابط الاستخبارات الوطنية لشؤون روسيا وأوراسيا” ضمن “مجلس الاستخبارات الوطني في مكتب مدير الاستخبارات الوطنية.

*إيريكا فرانتز هي بروفيسورة مشاركة في العلوم السياسية في “جامعة ولاية ميشيغان”.