لماذا لم يخرُج الأميركيون من العراق بعد؟ على الرغم من تسليم أمن البلاد إلى الجيش العراقي وباقي القوى الأمنية، وضمناً فصائل “الحشد الشعبي”؟ لماذا التركيز على أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يبقى خطراً داهماً على بغداد وجوارها الإقليمي، وفقاً للمنطق الذي ساد خلال الاتفاق على تجديد التعاون الدفاعي بين بغداد وواشنطن الأسبوع الماضي؟
للأميركيين حسابات متصلة بكل بلد، تتفاوت باختلاف الموقع الجغرافي للبلد المعني وحيّزه الجيوبوليتيكي وموارده الطبيعية، وأيضاً بحسب النظرة السياسية المعتمدة لدى النظام الأميركي في التعاطي مع الملفات. في أفغانستان مثلاً، انسحب الأميركيون وسط فوضى عارمة في أغسطس/ آب 2021، وفسّره كثيرون بأنه انسحاب بفعل ضربات حركة طالبان. لكن الواقع يشي، بأنه وبعد عامين على الانسحاب، تحولت كابول إلى قنبلةٍ موقوتةٍ في قلب الوسط الآسيوي، ولا يمكن، وفقاً لمسارات الأمور، نزع فتيل تلك القنبلة، ما لم يتم التواصل بين الحركة وواشنطن. ولم تتأخّر “طالبان” نفسها في المطالبة بعودة الأميركيين، على شكل وفود اقتصادية واستثمارات متنوّعة. ومعروف أنه بعد انتهاء أي حرب بين طرفين، ينعدم التعاون بينهما ما لم يتغيّر نظام واحدهما. وهو أمر لم يحصل في الحالة الأميركية ـ الطالبانية.
تبقى الأمور في العراق مغايرة. إيران في الشرق، سورية والأردن في الغرب، شبه الجزيرة العربية في الجنوب، وتركيا في الشمال. صحيحٌ أن النفط ركيزة أساسية لاستمرار النفوذ الأميركي في بغداد، لكنه أيضاً ليس السبب الوحيد للبقاء. قد يكون الأمر مرتبطاً بتفعيل الانتشار الأميركي العسكري في البحر الأحمر والخليج، وهو ما يتطلّب تمركزاً في المواقع البرّية بالنسبة لواشنطن. التحدّيات الإيرانية هائلة، وإن تميّزت بإيجابية تبادل سجناء بين واشنطن وطهران والإفراج عن أموال إيرانية، لكنه تحدّ مستمرّ، ولن ينتهي سوى بانتهاء الملف النووي الإيراني بشكل تامّ. وفي الواقع، سيبقى هذا الملفّ ومفاوضاته معلّقاً حتى إشعار آخر. إلا أن للولايات المتحدة هدفا أساسيا في بقائها في العراق، وأيضاً في سورية، مرتبطا بشكل خاص بالغزو الروسي أوكرانيا، وإفرازاته، سواء بالتوترات البيلاروسية ـ البولندية، أو بانقلاب النيجر، أو بتطوير العلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية. وهو ما يستلزم، وفقاً للرؤية الأميركية، المحافظة على مواقع الانتشار العسكري في بقاع محدّدة في الكوكب، بصورة شبيهة نسبياً لحقبة الحرب الباردة (1947 ـ 1991).
ومن الطبيعي أن مثل هذا الانتشار، يستلزم تمويلاً مستديماً، بما قد يدفع إلى تشديد الضغط على الاقتصاد الأميركي خصوصاً، الذي يعاني من ديونٍ متنامية، لكنه أيضاً يدفع القوى المناوئة للأميركيين إلى القيام بالمثل. وهنا يظهر تباين الأوضاع. تعاني روسيا فعلياً من العقوبات الغربية، ويفقد الروبل قيمته بصورة متزايدة، ما يحدّ من إمكانية تمويل موسكو أي نشاط استثنائي، ما لم يتم فرض ضرائب متصاعدة على الشركات الكبرى، التي تملكها الطبقة الأوليغارشية. وهذا الأمر سيف ذو حدّين، لأن الكرملين قد يخسر دعم الأوليغارشيين، إن كثّف الضغط عليهم، ما يهدّد وجوده بحد ذاته. أما الصين، فإن ديونها المتراكمة، وعجزها عن تصدير بضائعها إلى الغرب بفعل ضعف القدرة الشرائية عموماً، قياساً على سنوات ما قبل تفشّي وباء كورونا في عام 2020، لن يتركا مجالاً لها سوى في فرض مزيدٍ من الضرائب الداخلية، لتمويل أي تطوير عسكري يشدّد عليه الرئيس شي جين بينغ.
انطلاقاً من تلك النظرة، لن يغادر الأميركيون العراق، بل على العكس سيسعون إما إلى زيادة نفوذهم الأمني فيه، أو في الدول المجاورة. وهو عكس السردية التي عكف مراقبون عديدون على تردادها في مرحلة ما بعد اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في 3 يناير/ كانون الثاني 2020. ولا علاقة لسياسات أيّ من الحزبين الجمهوري أو الديمقراطي هنا، بل إن الانتشار الأميركي يتعلق أكثر بجوهر ديمومة دور الولايات المتحدة شرطي العالم الأبدي.
العربي الجديد