ينفتح العقل على منارة القيم والحضارة والتطور حين يدرك أن بناء الدولة والارتقاء بها إلى القمة يأتيان من خلال ثروة العقل. وربما نستمد من التجربة الناجحة لإقليم كردستان في مسيرته السياسية والاقتصادية والثقافية البرهان على أن ثروة العقل هي الأساس لبناء مستقبل مشرق للأجيال، فرغم كل الحصار الجائر بحقهم من قبل الحكومة الاتحادية في بغداد منذ سنوات ومحاولة هدم الإقليم اقتصاديا للنيل من الشعب الكردي وكيان وجوده، ظل الإقليم قويا ومتماسكا مستندا إلى ثروة العقل والفكر الناضج التي تتسم بها القيادة البارزانية، وكانت الأساس والدافع لاستمرار شريان الحياة في كردستان وتطورها وازدهارها. في حين أن بغداد الغنية بثروة المال والتي تفتقد قيادتها لثروة العقل ما زالت تتراجع للوراء وكأن عجلة الحياة للخلف هي الوحيدة السارية للعمل.
بكل تأكيد هناك دول أخرى أيضاً تمتلك أغنى الثروات ذهبت كلها سدى، بل أصبحت تلك الثروات هي بحد ذاتها الوسيلة لانهيار الكثير منها وتفتتها نتيجة الأنظمة الشمولية التي قادت شعوبها إلى الهاوية، وكان الحكام الشموليون أدوات خارجية على داخلهم، كانوا أغنياء المال وفقراء العقل، وتلك كارثة كبرى.
إن ثروة العقل أساس متين لفتح آفاق ورؤية ناجحة للمستقبل، وهي منبر تستمد منه نوافذ الأمل والسلام ثقتها بأن الغد سيكون أفضل، بدونها جميع المشاريع تكون مفككة من الداخل وعلى حافة الانهيار، الثقافة والأخلاق والمحبة والمبادئ الثابتة سد منيع أمام أي عاصفة من عواصف الزمن القديمة المتجددة. وإذا ما نظرنا إلى التاريخ الذي كتبه الأعداء والحلفاء على حد سواء، ورغم كل إشكالات المصداقية في إثبات حقيقته من زيفه واعتماد الأساس منه، مجمله كان يتحدث عن الظلم الذي لحق بالشعب الكردي من مخططات التقسيم والغزوات والحروب، والتي جاءت آنذاك نتيجة الفوضى العارمة في العالم والمطامع وجنون العظمة وغياب الإنسانية التي هي الركيزة الأساسية لاستمرار الحياة بين جميع البشر بمختلف انتماءاتهم العرقية وأديانهم ومذاهبهم، وقد عانت شعوب أخرى أيضاً ذات المصير.
ثروة العقل أساس متين لفتح آفاق ورؤية ناجحة للمستقبل، وهي منبر تستمد منه نوافذ الأمل والسلام ثقتها بأن الغد سيكون أفضل
ومن منطلق أن الأرض كادت تصبح غابة يمتلك فيها القوي الحق في قتل الضعيف، والمبادرة لاحتكام العقل والمنطق والمساواة في مسيرة الحياة بادرت الكثير من الدول فيما بعد لتأسيس عصبة الأمم عام 1920 – 1946 ضمن وثيقة موقعة لإنشاء أول مؤسسة رسمية تقوم بتحقيق السلم والأمن الدوليين. وجاءت تلك الوثيقة من خلال مفاوضات السلام في نهاية الحرب العالمية الأولى، ومع ذلك حدثت الحرب العالمية الثانية ومازال العالم مليئا بالحروب لكن بأدوات مختلفة، حرب الوكالات، ويتم متعمداً تهميش القوانين والدساتير دون حسيب أو رقيب.
رغم الكوارث والدمار والحروب، تطور العقل البشري عبر الطبيعة وجيناتها لينموا معاً إلى أن وصل إلى التكنولوجيا، التي وضعت خارطة العالم بين متناول الأيدي دون عناء وجهد، ليتمكن الإنسان من تحديد خياراته، في الخير أو الشر، الحياة أو الموت، الحب أو الحقد، وكان الأكراد كباقي الشعوب الأخرى يواكبون هذه التطورات تماشياً مع الحياة التي تسير ولا تتوقف مهما كان الثمن، وقد حدد هذا الشعب خياراته دوما حتى ما قبل التطور وسن القوانين، كان دوما يسعى للسلام والحرية، وحتى في ثورات الربيع العربي التي بدأت شرارتها في تونس أواخر عام 2010 ظل الكرد متضامنين مع أشقائهم العرب لسعيهم وتضحيتهم من أجل الحرية والكرامة.
إن مجمل التطورات والأحداث في الشرق الأوسط وما آلت إليه الأمور، تضعنا أمام مرحلة مصيرية وتاريخية، مرحلة تدفعنا إلى الإسراع في المطالبة بتفعيل دور الأمم المتحدة ومؤسساتها وإنهاء كل أشكال العنصرية والحقد والكراهية التي تتبعها بعض الأنظمة، ولا بد من إجراء حراك دبلوماسي مع دول الغرب والشرق، وإيجاد قاسم مشترك نحو مشروع السلام وتحقيقه وفق الشرعية الدولية والقوانين وإظهاره للرأي العام لتعلم شعوب العالم برمتها مدى مصداقية كل نظام حاكم، والتمييز بين النظام الصالح المضحي للشعب والنظام العاطل الذي يضحي بالشعب، لقد تضامنا مع أصدقائنا وإخوتنا الصحافيين والسياسيين أصحاب قضية والمستقلين والمثقفين ونشطاء حقوق الإنسان في غالبية دول الشرق الأوسط لسعيهم للسلام، وحان دورهم لمساندة قضية الشعب الكردي لأنها قضية الحرية والكرامة.