تزداد التعقيدات على الأرض السورية يوميا. لا يمرّ يوم إلّا ويظهر عنصر جديد يضاف إلى معادلة قائمة منذ اندلاع الثورة الشعبية في آذار – مارس من العام 2011 على نظام أقلوي اعتمد شعار “الأسد أو نحرق البلد”. لا يمكن أن تفضي هذه المعادلة سوى إلى انهيار كامل لبلد يعيش في ظلّ خمسة احتلالات ويواجه انتفاضات شعبية بدءا من السويداء ذات الأكثرية الدرزية… وصولا إلى الساحل حيث الكثافة العلويّة.
لم يعد سرّا أن الوضع السوري دخل مرحلة جديدة في ضوء إفلاسين مالي وعسكري لنظام رفض دائما، وما زال يرفض الدخول في تسوية سياسيّة استنادا إلى القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في أواخر العام 2015. أدّى رفض النظام الخروج بسلام من السلطة إلى تدهور مستمرّ لم يعد ينفع معه التدخل الإيراني ولا سلاح الجو الروسي الذي انتقم من المدنيين السوريين. حال سلاح الجوّ الروسي دون سقوط الساحل السوري ودمشق في يد المعارضة خريف العام 2015. بات الوجود العسكري الروسي في سوريا من الماضي بعدما غرق الرئيس فلاديمير بوتين، وأغرق معه روسيا، في الوحول الأوكرانيّة.
ليست “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران في وضع أفضل من وضع روسيا. يتبيّن كلّما مرّ يوم أنّ إيران مرفوضة في سوريا على الرغم من كلّ الجهود التي بذلتها طوال سنوات من أجل تغيير التركيبة السكانية للبلد والتخلص من الأكثريّة السنّية فيها. لم تعد إيران في وضع مريح على الأرض السورية. لم يعد لديها من رهان سوى على دعم العشائر العربيّة في المواجهة مع الأكراد (قسد) في دير الزور والمنطقة المحيطة بها.
◙ بات النظام السوري عاجزا عن دعم المواد الأساسية. خلق ذلك تململا شعبيا لا سابق له في التاريخ الحديث لسوريا. لم يعرف النظام يوما بناء اقتصاد قابل للحياة
ثمة إحساس عميق في طهران بأنّ سوريا يمكن أن تفلت من يد “الجمهوريّة الإسلاميّة”. تكتشف إيران أن لبنان، الواقع تحت سيطرة “حزب الله”، يشكلّ ضمانة حقيقية لها وورقة ثابتة أكثر بكثير من سوريا حيث هبت رياح الثورة الشعبية مجددا. هبّت مجدّدا رياح الثورة التي اندلعت في 2011 بشكل مختلف من السويداء ذات الأكثريّة الدرزية ومن الساحل السوري حيث توجد كثافة علويّة. هناك أقليتان ترفضان لأسباب خاصة بكلّ منهما، استمرار النظام السوري القائم منذ العام 1970. يعني ذلك، بكلّ بساطة، أن النظام الذي كان في مواجهة دائمة مع السنّة، الذين كانوا يمثلون نسبة 75 في المئة من السكّان، فقد أحد المبررات الأساسية لوجوده. فقد، مع انتفاضة الدروز والعلويين، في ما يمكن وصفه بالثورة السوريّة الثانية، حلف الأقلّيات الذي عمل من أجله على أن يضمّ العلويين والمسيحيين والدروز والشيعة (في سوريا ولبنان). صارت هناك نقمة بين من بقي من المسيحيين السوريين على النظام الذي قضى على النسيج الاجتماعي للبلد وهمّش الوجود التاريخي لهؤلاء ولم يعودوا سوى أهل ذمّة.
نعم، هناك ضعف إيراني في سوريا، على العكس مما يحدث في العراق حيث تزداد سطوة “الحشد الشعبي” الذي ليس سوى مجموعة ميليشيات عراقيّة تابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني. يعكس الموقف الإيراني تجاه الوضع السوري المأزق الذي يعاني منه نظام بشّار الأسد الذي لا يتجرأ على اقتحام السويداء الدرزيّة، إضافة إلى فقدانه السيطرة على درعا السنّية، في معظمها، حيث تجري عملية تصفية حسابات بين جماعة النظام وخصومهم.
يبدو مستقبل الجنوب السوري كلّه مطروحا على بساط البحث. هذا ما تعرفه إيران قبل غيرها. تعرف إيران أن الميليشيات التابعة لها لم يعد مرغوبا بها في الجنوب السوري، بما في ذلك تلك التي تستخدم الفرقة الرابعة غطاء لها. قبل أيّام طردت عناصر مسلّحة الفرقة الرابعة من مواقع في الزاكية القريبة من القنيطرة. لم تعد تنفع الأساليب التي كان يستخدمها النظام في الماضي بالتنسيق مع الميليشيات التابعة لإيران. على سبيل المثال، لا يستطيع النظام الاستعانة بـ”داعش” كما فعل في العام 2018 لتهديد الدروز في السويداء وابتزازهم. يعرف النظام، قبل غيره أن الاستعانة بـ”داعش”، للضغط على أهل السويداء، سيوفّر ذريعة للأميركيين الموجودين في المنطقة كي يتدخّلوا في الجنوب السوري بحجة ضرب “الإرهاب”.
◙ لم يعد سرّا أن الوضع السوري دخل مرحلة جديدة في ضوء إفلاسين مالي وعسكري لنظام رفض دائما، وما زال يرفض الدخول في تسوية سياسيّة
بات النظام السوري عاجزا عن دعم المواد الأساسية. خلق ذلك تململا شعبيا لا سابق له في التاريخ الحديث لسوريا. لم يعرف النظام يوما بناء اقتصاد قابل للحياة. لم تكن لديه في يوم من الأيّام علاقة بالاقتصاد وما يدور في العالم وبكيفية الاستفادة من الطاقات المتميزة للسوريين في كلّ القطاعات، بما في ذلك مجالات الصناعة والزراعة والخدمات.
في النهاية، يدفع بشّار الأسد ثمن خياراته الخاطئة منذ خلف والده في العام 2000. سيبقى يدفع ثمن هذه الخيارات بعدما اكتشف أهل المنطقة، بما في ذلك تركيا، أنّه غير قادر على التزام أي تعهّد قطعه للعرب الآخرين الذين كان لديهم حرص على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا. أعاد العرب الذين يهمّم مستقبل سوريا والسوريين النظام إلى جامعة الدول العربيّة. حضر الأسد الابن القمّة العربيّة التي انعقدت في جدّة في أيّار – مايو الماضي. كانت النتيجة أن حضوره كان مثل غيابه.
لم يستوعب النظام السوري قبل كلّ شيء معنى العودة إلى جامعة الدول العربيّة. ردّ على العودة برفض لعودة السوريين اللاجئين إلى لبنان والأردن وتركيا إلى أرضهم التي أخرجوا منها. ترافق ذلك مع رفض لوقف تصنيع المخدرات، خصوصا الكبتاغون، وتهريبها عبر الأردن وغير الأردن، إلى دول الخليج العربي. هناك، فوق ذلك كلّه، إصرار على تهريب السلاح إلى الأردن… وهناك أخيرا رفض لأي تعامل جدّي مع القرار 2254 الذي يدعو إلى فترة انتقالية تليها انتخابات حرّة بإشراف الأمم المتحدة.
يمكن الكلام عن مزيد من التعقيدات السورية وعن نتيجة واحدة لهذه التعقيدات. سوريا تتجه إلى مزيد من التفتت وباتت مثل كرة نار في يد “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران!