قام الرئيس السورى بشار الأسد بزيارة رسمية إلى الصين فى 21 سبتمبر الجارى (2023)، تلبية لدعوة الرئيس الصينى شى جينبينج لحضور افتتاح دورة الألعاب الآسيوية التاسعة عشرة فى مدينة هانغتشو يومى 22 و23 سبتمبر. وتعد تلك الزيارة أول زيارة يقوم بها الأسد للصين منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، وهى الثانية من نوعها؛ حيث سبق له زيارة الصين خلال عام 2004.
تأتى الزيارة وسط تفاعلات دولية وإقليمية متغيرة ناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على حالة الاستقرار والأمن الدولى من ناحية، وما نتج عنها من اصطفافات دولية تدعم طرفى الصراع من ناحية ثانية، فضلاً عن حالة التعاطى الأمريكى مع القضايا الأمنية فى منطقة الإندوباسيفيك وإعلان الولايات المتحدة اعتبار الصين “مصدر قلق” يهدد بصورة مباشرة المصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية الأمريكية فى المنطقة من ناحية ثالثة، هذا إلى جانب ما تشهده سوريا على مدار العامين الماضيين من محاولات لكسر العزلة عبر حالة التقارب الإقليمى مع النظام السورى بعد 12 عاماً من اندلاع الأزمة السورية.
وقد أعلنت الرئاسة الصينية أن الزيارة، فى مضامينها العامة، تأتى انعكاساً لرغبة الدولتين فى إقامة شراكة استراتيجية، ومواصلة الدعم فى القضايا المتعلقة بمصالح الدولتين وتثير قلقهما، والعمل الثنائى على تعزيز قدرة سوريا بشأن إعادة الإعمار ومكافحة الإرهاب.
دعم مستمر
يشار هنا إلى أهمية الدعم الدولى الذى حظى به النظام السورى من قبل الصين منذ اندلاع الأزمة السورية، وتمثل فى امتناع بكين عن التصويت لقرارات من شأنها إدانته فى المحافل الدولية، فضلاً عن استخدام “الفيتو” تجاه العديد من مشاريع القرارات فى الشأن نفسه داخل أروقة مجلس الأمن الدولى، ما يضع هذه الزيارة تحديداً فى سياق يشى بأن الصين ذات الثقل الاستراتيجى الدولى تعمل على التقارب مع الدول التى تعتبرها الولايات المتحدة وأوروبا – خصوم الصين – “دولاً معزولة” بحكم ما تفرضه من عقوبات اقتصادية عليها، ومن بين تلك الدول سوريا التى لايزال نظامها الحاكم- رغم محاولات التقارب معه على مدار العامين الماضيين- يخضع لعدة عقوبات اقتصادية ساهمت بقوة فى عزله دولياً من الناحيتين الدبلوماسية والسياسية، فضلاً عن تطويقه بعقوبات اقتصادية.
من هنا، تصبح زيارة الأسد للصين فى هذا السياق مرتبطة كلية بثلاثة محددات: الأول، يتعلق برغبة النظام السورى فى دعوة الصين للاستثمار فى البنية التحتية السورية تحت مسميات إعادة الإعمار، وهى العملية التى تربطها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بمستقبل التسوية السياسية للأزمة السورية وفقاً لمشروطية “التسوية مقابل إعادة الإعمار”. والثانى، يتعلق بمدى تقييم الصين لمستقبل النظام السورى فى ظل حالة عدم الاستقرار السياسى فى سوريا نتيجة لغياب أية محاولة من قبل النظام لتسوية الأزمة سياسيا. والثالث، يتعلق بمدى توظيف الصين لحالة الشراكة الاستراتيجية مع نظام الأسد فى مواجهة الأطراف الأخرى التى تناوئ كلاً من الصين والنظام السورى على حد سواء؛ وهى الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
دلالات ورسائل
العديد من الدلالات والرسائل عكستها زيارة الأسد الأخيرة للصين، والتى يمكن توضيحها فيما يلى:
الأولى، تتعلق بطبيعة الرسائل السياسية التى وجهتها الصين للولايات المتحدة والتى قد تحمل طابع “التحدى”، وعكستها حفاوة الاستقبال الضخم الذى استقبلت به بكين الرئيس السورى على كافة المستويات السياسية والإعلامية، والذى يخضع نظامه لعقوبات أمريكية. هذا بخلاف المضامين العامة التى احتوتها كلمة الرئيس الصينى والتى ألقاها خلال استقباله لنظيره السورى؛ حيث ركز فيها على ما أسماه بـ”التعاون المشترك للدفاع عن العدالة والسلم الدوليين”، ما يعنى أن ثمة دولاً تسعى لكسر حالة “الاحتكار” بشأن قيادة بعض الدول للنظام العالمى وفعالياته، وأنها تسعى بذلك إلى نظام جديد يقوم على إدارة “متعددة الأقطاب” للنظام العالمى، وهذا يعنى أن الصين “توظف” بخطوات محسوبة ورقة التقارب مع الأنظمة المعزولة دولياً – وغير الصديقة للولايات المتحدة – بفعل العقوبات الأمريكية كورقة ضغط فى مسار تفاعلاتها على المستوى الدولى عامة، وعلى مستوى العلاقات مع الولايات المتحدة خاصة.
والثانية، تنصرف إلى تصنيف الزيارة على كونها إحدى محاولات النظام السورى لاستكمال مساعى “كسر العزلة” التى بدأتها عدد من الدول العربية وبعض القوى الإقليمية تجاهه، على مدار العامين الماضيين. ويلاحظ أن كلاً من روسيا وإيران – خصوم الولايات المتحدة الرئيسيين – قد ساهما بفعالية فى محاولات كسر عزلة النظام السورى والتقريب بينه وبين العديد من الدول العربية والإقليمية، على الرغم من أن مردود هذا التقارب لم يعكس حتى اللحظة النتائج المرجوة منه بصورة كاملة، ويعود سبب ذلك إلى استمرارية العقوبات التى تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا على النظام السورى؛ باعتبارها ساهمت فى إبقاء حالة العزلة السياسية الدولية المفروضة عليه كما هى إلى حد كبير، بالرغم من مسارات التطبيع التى تمت خلال العامين الماضيين.
والثالثة، ترتبط بمحاولة الصين تنويع نمط علاقتها بدول الشرق الأوسط لتشمل الأبعاد السياسية بدلاً من قصرها ولسنوات طويلة على العلاقات الاقتصادية والتجارية فقط، حيث بات واضحاً أن ثمة مساراً تحاول الصين تفعيله فى منطقة الشرق الاوسط مؤداه السعى إلى لعب دور سياسى جديد فى المنطقة التى كانت لعقود طويلة “حكراً” على تفاعلات الولايات المتحدة، إما استغلالاً لحالة الانشغال الأمريكى الروسى بالحرب فى أوكرانيا، وبالتالى وجود فرص مواتية أمام الصين لشغل الفراغ الذى خلفته الدولتان فى المنطقة. وإما رغبة فى الإعلان المباشر والقوى بأنها ستفعل دورها السياسى والدبلوماسى فى المنطقة كقوى دولية بإمكانها”موازنة” وفى الوقت نفسه “مواجهة” الدور الأمريكى فيها، والدليل الأكبر على ذلك، هو الدور الدبلوماسى المتميز الذى لعبته الصين فى إنجاز المصالحة السعودية الإيرانية مؤخراً، ومؤتمرات الشراكة مع الدول العربية (القمة العربية الصينية الأولى بالرياض)، وحتى مع الدول الأفريقية. وكلا التصورين يؤشران على دور متنامى ومتزايد للدبلوماسية الصينية فى الشرق الأوسط خلال المرحلة المقبلة.
والرابعة، تتمثل في مدى نجاعة الاتفاقات الاقتصادية والتعاون المشترك بشأن مشاركة الصين فى مجال إعادة الإعمار فى سوريا، والقيود والعقبات التى تواجهها، ليس فقط بسبب العقوبات الدولية المفروضة على النظام – والتى تؤثر بالفعل على عملية الإعمار – ولكن أيضاً بسبب مدى جهوزية الوضع الاقتصادى والأمنى فى سوريا لاستقبال الشركات الصينية العملاقة، والتى بالضرورة تستثمر من أجل العائد الربحى. فعدم توافر قدر يعتد به من الاستقرار الأمنى فى سوريا من شأنه إثارة مخاوف الشركات الصينية العملاقة ودفعها إلى عدم الاستثمار فى الاقتصاد السورى، حتى وإن كان عبر بوابة إعادة الإعمار.
والخامسة، تتعلق بسعى نظام الأسد إلى الانتقال بمستوى أعلى بشأن الحصول على الدعم من مستوى “الدعم الإقليمى” إلى مستوى “الدعم الدولى”؛ وذلك بالحصول على شراكة استراتيجية مع “شريك دولى” يثق به، والدليل على ذلك هو دخول سوريا ضمن نطاق اتفاقات التعاون مع مبادرة” الحزام والطريق الصينية” منذ مطلع عام 2022. بمعنى أن التقارب العربى والإقليمى مع نظام الأسد وعودة سوريا إلى مقعدها فى الجامعة العربية، كان دافعاً للنظام للانتقال من مستوى الدعم الاقليمى إلى الدولى والهدف من هذا السعى، هو بحث النظام عن “شرعية دولية” لازال يفتقدها، ومن غير المتوقع الحصول عليها فى المدى المنظور.
شراكة استراتيجية متبادلة
وفقاً للمعطيات والدلالات السابقة بشأن زيارة الرئيس السورى بشار الأسد للصين،فإن ثمة مجموعة من الأهداف المتبادلة التى تسعى الدولتان لتحقيقها، ومنها:
1- رغبة الصين فى الاستفادة من موقع سوريا الاستراتيجى فى مبادرة الحزام والطريق الصينية والتى انضمت سوريا إليها فى عام 2022 الماضى. فثمة تطلعات صينية تستهدف الاستثمار فى مينائى طرطوس واللاذقية، على الرغم من التمركز الروسى التجارى والعسكرى فيهما. ولكن وبالنظر للعلاقات المتوازنة بين روسيا والصين فمن المحتمل أن تسمح روسيا للاستثمارات الصينية الدخول إلى المينائين. هذا إلى جانب الأهمية الاستراتيجية بالنسبة لمباردة الحزام والطريق التى يعسكها مسار الربط السككى بين إيران والعراق وصولاً إلى ميناء اللاذقية فى سوريا، حيث سيلعب هذا المسار دوراً كبيراً فى عملية نقل البضائع الصينية إلى أوروبا، لاسيما بعد الاعلان عن تدشين مشروع الممر الاقتصادى الهندى الأوروبى عبر منطقة الشرق الأوسط خلال قمة العشرين الأخيرة، باعتباره مساراً مهدداً لمبادرة الحزام والطريق الصينية، وذلك على الرغم من محدودية النتائج الاقتصادية العائدة على انضمام سوريا لمبادرة الحزم والطريق منذ انضمامها إليها خلال العام الماضى.
2- سعى الصين للاستثمار فى قطاع النفط السورى؛ حيث أعادت الشركة الصينية الوطنية للطاقة والكيماويات هيكلة نظمها الإدارى لفرعها الموجود فى سوريا، بخلاف المباحثات التى تتم من وقت لآخر بين الشركة وبين الإدارة الذاتية الكردية فى شمال سوريا بشأن إدارة آبار النفط فى شمال شرق سوريا. ويلاحظ هنا أن أى تطوير فى دور الشركة الصينية فى هذا الشأن يتوقف على حالة الوجود الأمريكى فى شمال سوريا، والعلاقة المتميزة التى تربط واشنطن بالإدارة الذاتية الكردية هناك.
3- محاولة الصين لعب دور أكثر فعالية على مستوى التسوية السياسية للأزمة السورية التى لازالت وبعد 12 عاماً من الصراع عصية على الحل، حيث أن سعى الصين إلى تغيير نمط إدارة النظام الدولى من شأنه أن يغير بالتبعية فى نمط “إدارة التسوية” للأزمات الكبرى، لاسيما التى تجمع بين البعدين الإقليمى والدولى على حد سواء كالأزمة السورية على سبيل المثال.
4- محاولة النظام السورى الوصول إلى شراكات استثمارية وتجارية جديدة وسريعة مع الصين من شأنها مساعدته على مواجهة أعباء وتداعيات الأزمة الاقتصادية المستحكمة، خاصة مع بوادر جديدة لتظاهرات شعبية فى بعض المناطق احتجاجاً على تردى الأوضاع المعيشية بها.
5- محاولة النظام السورى الحصول على مزيد من الدعم من قوى دولية فى مثل الوزن السياسى والاقتصادى للصين، لاسيما بعد عدة تطورات طرأت خلال الأسابيع الماضية على خريطة التفاعلات الخاصة بالأزمة السورية، ومنها؛ عودة حركات الاحتجاج الشعبية للظهور مجدداً كما يحدث فى محافظة السويداء فى الجنوب السورى، واندلاع مواجهات مسلحة بين العشائر العربية وقوات سوريا الديمقراطية فى الشمال، وقيام الولايات المتحدة بنشر مزيد من قواتها فى شمال شرق سوريا؛ بما يعنى إعادة الشمال السورى إلى واجهة الأحداث مجدداً بعد فترة من الهدوء والاستقرار النسبى فى معادلة التفاعلات الدولية فيه.
وفى النهاية، يبدو أن زيارة الرئيس السورى للصين “قد” تحقق بعض الأهداف فى المدى القصير، وتضع أخرى فى قائمة الأهداف بعيدة المدى. إلا أن النتيجة الأخيرة لهذه الزيارة تقول بأن الصين تعلن رسمياً تحديها للعقوبات الأمريكية المفروضة على عدد من الدول التى تجمعها وبكين علاقات تعاون استراتيجية، كإيران وسوريا على سبيل المثال، بدليل استقبالها الرسمى لرؤساء تلك الدول. وأنها بصدد ربط أهدافها الاقتصادية فى منطقة الشرق الأوسط عامة وسوريا خاصة بدور سياسى أكثر فعالية وطموحاً خلال المرحلة القادمة، وأن زيارة الرئيس السورى للصين من شأنها تقليل حدة الضغوط التى تمارسها الولايات المتحدة والدول الأوروبية على الاقتصاد السورى المنهك بفعل العقوبات المفروضة من قبلهما، وأن سوريا “قد” تصبح بوابة العبور الصينى الجديد إلى منطقة الشرق الأوسط مستقبلاً.