مجزرة غزة وسياسة الإنكار!

مجزرة غزة وسياسة الإنكار!

في ظل مجتمع دولي يمارس ازدواجية المعايير والنفاق، لن تكون مجزرة المستشفى الأهلي المعمداني في غزة سوى «خطأ» مجهول الفاعل، ولا يجب أن نقف عنده!
ويخطئ من يعتقد ان سياسة الإنكار التي تعتمدها إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة والغرب عموما، إنما تتعلق بهذه المجزرة حصرا، بل هي سياسة منهجية اعتمدت وستعتمد دائما، ومن خلال خطابات تحولت إلى كليشيهات مقززة.
في سياق عملية «عناقيد الغضب» التي شنتها إسرائيل ضد حزب الله اللبناني 1996، حدث تفجير مروع في قاعدة تابعة للكتيبة الفيجية العاملة ضمن قوات حفظ السلام الدولية في قرية «قانا» جنوب لبنان، تسبب الانفجار في مقتل 106 شخصا، وجرح 129 آخرين، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ كانوا قد لجؤوا إلى القاعدة ظنا منهم أنها «محصنة» من أي قصف.
كتب حينها الصحافي البريطاني باتريك فيسك في صحيفة الأندبندنت:» عندما وصلنا إلى بوابات الأمم المتحدة، كانت الدماء تتدفق من خلالها سيولا، أستطيع أن أشمها، لقد غمرت أحذيتنا والتصقت بها كالغراء، كانت هناك أرجل وأذرع، وأطفال بلا رؤوس».
عبرت الحكومة الإسرائيلية عن «أسفها» وقالت إن المواقع ليست منشآت للأمم المتحدة، بل هي لحزب الله، وهي الهدف المقصود بالقصف، لكنها تعرضت للقصف بسبب «معطيات خاطئة»! وقال نائب رئيس الأركان الإسرائيلي ماتان بيرناي أن القذائف التي أصابت القاعدة لم تخطئ أهدافها، بل جنود المدفعية هم الذين استخدموا خرائط قديمة للمنطقة، وأن المدفعية أخطأت في تقدير مدى القذيفة! أما شمعون بيريز رئيس الوزراء حينها فقد صرح بالقول: «لم نعلم ان عدة مئات من الأشخاص متمركزون في ذلك المعسكر، لقد كانت مفاجأة مريرة لنا»! وقال أيضا: «لقد استخدموا الأمم المتحدة كدرع، والأمم المتحدة اعترفت بذلك»!
لكن رئيس أركان القوات الإسرائيلية أمنون شاحاك كان أكثر صراحة في دفاعه عن القصف حيث قال: «لا أعتقد أن هناك خطأ في القرار… لقد قاتلنا حزب الله هناك، إذا أطلقوا النار علينا، فسنطلق دفاعا عن أنفسنا… لا أعرف القواعد الأخرى للعبة، سواء العسكرية أو المدنية»!
أما الأمريكيون، فقد استخدموا الكليشة التقليدية: «إن حزب الله يستخدم المدنيين كغطاء، إنه عمل حقير وشرير» كما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية حينها نيكولاس بيرنز!
وقد شكل الأمين العام للأمم المتحدة، وكان بطرس غالي حينها، لجنة للتحقيق برئاسة الميجور جنرال الهولندي فرانك فان كابن، وقد انتهى تقرير اللجنة إلى ما يلي:

لم يكن ما حدث في المستشفى المعمداني أول مجزرة تقوم بها إسرائيل، ولن تكون الأخيرة بالتأكيد، وكذلك لن تكون نتيجة التحقيق مفاجئة للعالم لو أثبتت لجنة تحقيق أممية أن إسرائيل هي التي قامت بها عمدا

إن هناك منطقيتين متميزتين لتركيز النيران، تبعد إحداهما عن الأخرى 140 مترا، وليست نقطة رئيسية واحدة كما قالت القوات الإسرائيلية، وأن القصف نفذ بأسلوب تحشيد النيران، وأن ثمة تغييرا في تركيز النيران أثناء عملية القصف، من طلقات فردية على أحد مواقع الهاون لحزب الله، إلى تركيز نيران المدفعية الإسرائيلية على معسكر الأمم المتحدة، وأن القصف تعمد استخدام نوعين من القذائف، تلك التي تنفجر عن الاصطدام بالأرض، وأخرى قذائف زمنية تنفجر في الجو فوق الهدف وهو ما يحالف ما ذكرته القوات الإسرائيلية، وأنه لم يكن هناك اشتباكات، أو قصف لمناطق أخرى، زعمت إسرائيل أنها كانت الهدف الرئيسي لهذا القصف، وإنما كان التركيز في قاعدة القوات الدولية، وأخيرا وعلى النقيض من الإنكار المتكرر، كانت هناك طائرتان عموديتان إسرائيليتان، وطائرة موجهة عن بعد، تحلق في منطقة قانا، عند القصف، يحتمل أنها كانت تدير النيران، وعلى الرغم من عدم إمكانية استبعاد هذا الاحتمال استبعادا تاما، فانه من غير المحتمل أن يكون قصف قاعدة الأمم المتحدة نتيجة أخطاء تقنية.
بعد نشر تقرير اللجنة التحقيقية أصدرت الحكومة الإسرائيلية تقريرا مضادا، زعمت فيه أن قواتها لم تتعمد إطلاق النار على موقع قوات الطوارئ الدولية، وأن التحقيقات أثبتت أن القصف المدفعي «تم بناء على معطيات خاطئة» ووصف الممثل الدائم لإسرائيل في الأمم المتحدة ما جاء في التقرير بأنه يتسم بالسخف!
وقد تطابق الموقف الأمريكي مع الموقف الإسرائيلي كالعادة؛ فقد أكد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون دعمه الكامل للرواية الإسرائيلية قائلا: «إنها خطأ من نوع تلك الأخطاء التي تحدث دائما في الحروب، وليست عملا متعمدا»!
بعد 20 سنة من المجزرة، كتب الكابتن ديفيد ر. وليمز ورقة بحثية على موقع الجيش الأمريكي لإثبات أن قصف قانا كان مجرد «خطأ» عسكري وليس متعمدا، يقول: «إن قسما كبيرا من المجتمع الدولي «يعتقد» إن إسرائيل ارتكبت جريمة إبادة جماعية في قانا بلبنان في نيسان/ أبريل من عام 1996، وفي الدوائر العسكرية يعد هذا الحدث هو أسوأ حادث إطلاق نار مدفعي في القرن العشرين». وكانت سرديته الخاصة عن الحادثة، التي تعتمد بالكامل على السردية الإسرائيلية، كالآتي: «في الساعة 1.52 ظهرا أطلق مقاتلو حزب الله، الذين يرتدون سترات واقية من الرصاص وخوذات فولاذية تابعة للأمم المتحدة، ثماني قذائف عيار 120 ملم على الدورية [الإسرائيلية]، وبمجرد الانتهاء من إطلاق النار، أكد شهود عيان على الأرض في وقت لاحق أن هؤلاء المسلحين أنفسهم فروا واختبأوا في المجمع الذي تتواجد فيه عائلاتهم، وبعد دقائق حددت المواقع الإسرائيلية نقطة الانطلاق على أنها مقبرة بالقرب من تقاطع طرق في قانان على بعد 170 مترا من مقر كتيبة فيجية تابعة لقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) وكان المجمع يؤوي في ذلك الوقت حوالي 800 لاجئ لبناني، قامت الدورية الإسرائيلية بعد ذلك بالاتصال لاسلكيا للحصول على دعم ناري من كتيبة M109A2… متمركزة داخل لبنان مباشرة… من الساعة 2.07 مساء حتى 2.12 أطلقت 36 قذيفة شديدة الانفجار… أخطأت جميع القذائف الـ36 موقع الهاون، سقطت ثلاثة عشر منها… على مجمع اليونيفيل وقتلت 106 لاجئين، تم الانتهاء من التحقيق بعد شهر من اللواء فرانكلين فان كابن، المستشار البلجيكي الهولندي لدى الأمم المتحدة، ولم يستكشف كابن.. تشتت المدفعية، أو إجراءات المدفعية اليدوية او خطأ في موقع الهدف، بل ركز بدلا من ذلك على بيانات الحفر فقط مع افتراض أن تركيز الصمامات VT الأكثر فتكا في المجمع كان دليلا فعليا على التحول المتعمد على إطلاق النار من قبل الإسرائيليين. وخلص تقرير فان كابن «الروتيني» إلى أنه «من غير المرجح أن يكون قصف المجمع (الأمم المتحدة) نتيجة لأخطاء فنية. وعلى مر السنين، وزع أعداء إسرائيل النتائج التي توصل اليها كدليل حقيقي على أن استهداف مجمع اليونيفيل كان متعمدا، وحتى يومنا هذا، يثير التقرير الكثير من الافتراء على الدولة اليهودية»!
لم يكن ما حدث في المستشفى المعمداني أول مجزرة تقوم بها إسرائيل، ولن تكون الأخيرة بالتأكيد، وكذلك لن تكون نتيجة التحقيق مفاجئة للعالم لو أثبتت لجنة تحقيق أممية أن إسرائيل هي التي قامت بها عمدا، وأن هدفها من العملية هو إيقاع أكبر عدد ممكن من المدنيين من خلال استخدام قنابل محددة لهذا الغرض، ما دامت تحظى بدعم أمريكي وغربي مطلقين وغير قابلين للمراجعة!

كاتب عراقي