لم تكن معركة “طوفان الأقصى” هي الأولى ولن تكون المرة الأخيرة التي يجري فيها النقاش بشأن العلاقة بين المقاومة الفلسطينية مع إيران، وتحظى حماس بفعل ثقلها السياسي والعسكري على الأرض الفلسطينية بالنصيب الأكبر من هذا النقاش، الذي يتوزع على ثلاثة اتجاهات: أولها: يرى في العلاقة مع إيران أمرًا طبيعيًّا، فهي دولة إسلامية وحماس في سياستها الخارجية تتوجه إلى كافة دول العالم لحشد الدعم والتأييد، فضلًا عن المواقف الرسمية الإيرانية الثابتة والداعمة للقضية الفلسطينية منذ انتصار الثورة الإسلامية، واتجاه آخر يميل إلى التبرير فهو لديه تحفظات بشأن هذه العلاقة لكنه يأخذ منحى اعتذاريًّا يلتمس لحماس العذر؛ حيث لم تجد الدعم الذي وجدته من إيران من قبل الدول العربية، أما الثالث فهو الذي يرفع راية التخوين ويتهم حماس بأنها ذراع إيرانية، وأنها وكيل، وارتبطت هذه الأصوات في جزء منها بمسعى سياسي حاول أن يضفي صفة الإرهاب على الحركة. تبحث هذه الورقة في الأسئلة المتعلقة بعلاقة حماس وإيران على هذا الصعيد، وهي ورقة مستلة من كتاب للباحثة حول هذه العلاقة ستنشره قريبًا. الفسيفساء الدفاعية لإيران توصف إيران بأنها واحدة من أولى الدول التي أعطت الأولوية للحرب غير المتكافئة باعتبارها ردها الأساسي على التهديدات من الخصوم المتفوقين تقليديًّا. وهو ما أوضحه القيادي في الحرس الثوري، مجتبى ذو النوري، في مقابلة أُجريت معه في عام 2010 في رده على التهديد المحتمل المتمثل في هجوم أميركي/إسرائيلي مشترك على إيران؛ إذ قال: “ستتحول البلاد بأكملها إلى منطقة عمليات بطريقة فسيفسائية، بحيث لا يبقى للعدو حتى نقطة آمنة في قلب الصحراء.. كما أن أيًّا من القواعد الأميركية والإسرائيلية الـ32 في المنطقة لن تكون في مأمن من الصواريخ الإيرانية.. وستكون مصالحهم مهددة ومعرضة للخطر في عشرات الدول حول العالم وفي الوقت نفسه”(1). والفكرة وراء هذه الفسيفساء هي تحقيق قدر أكبر من عدم المركزية في القيادة والعمليات وتفويض القتال إلى وحدات محلية مستقلة نسبيًّا. وتعتمد هذه الفسيفساء على قطاع الدفاع؛ حيث تعمل قوات صغيرة ورشيقة محليًّا بدلًا من المساهمة في التركيز الإستراتيجي للقوات على المستوى الوطني(2) وعلى مدار عقود، قامت طهران ببناء شبكة من العلاقات مستخدمة إستراتيجية إقليمية متعددة الجوانب. وفي عملية تدعيم نفوذ إيران في الخارج برزت عناوين، أهمها: الوحدة الإسلامية والعمق الإستراتيجي ومكافحة الإرهاب والمجموعات التكفيرية(3). وداخل منظومتها الفسيفسائية يمكن لإيران متابعة عدة أهداف في وقت واحد واستخدام هذه المجموعات لأداء العديد من المهام ولعب أدوار متعددة. وبهذا المعنى، فإن المجموعات التي تشكل “شبكة التهديد الإيرانية” متعددة الاستخدامات وتعمل كسكين الجيش السويسري متعددة الوظائف والنصل(4). وهذا التنوع مفيد لإيران لأنه يسمح للنظام بمتابعة وتحقيق أهداف مختلفة، وتخصيص الموارد حسب الحاجة لعملائه، والحفاظ على السرية، وبناء شبكة أكبر. وهناك مستوى من المرونة والابتكار في إستراتيجية الحليف من غير الدول حتى وإن كان ذلك يتم تحت مظلة إرث الشعارات الأولى للثورة الإسلامية(5). وإذا تم تجريد إيران من قدراتها غير المتكافئة وأدواتها في المنطقة الرمادية(6)، بما في ذلك شبكة الحلفاء، فإن ميزان القوى في الشرق الأوسط سيميل بشدة ضد طهران(7). وبهذا المعنى، فإن شبكة الحلفاء الإيرانية من الفاعلين غير الحكوميين، هي التحدي الرئيسي الذي تفرضه إيران على الولايات المتحدة، ولاسيما الجيش الأميركي في المنطقة. بخلاف قوات الصواريخ الباليستية الإيرانية والتطور النووي المحتمل في المستقبل، تعد شبكة الحلفاء من عدد قليل من القدرات الدفاعية الهائلة التي طورتها البلاد منذ عام 1979. تعتبر هذه الشبكة من الجهات الفاعلة غير الحكومية مكونًا أساسيًّا من مكونات عقيدة الدفاع الإيرانية وإحدى الأدوات الرئيسية التي يمتلكها النظام لردع الخصوم وتعزيز دفاعات وطنه وزيادة عمقه الإستراتيجي وتوسيع نفوذه الإقليمي واستعراض قوته خارج نطاق حدوده(8). وبهذا المعنى، تكمل هذه الشبكة القدرات الإيرانية الأخرى غير المتكافئة -بشكل رئيسي، برنامج الصواريخ الباليستية النووية- كمضاعفات للقوة تعوض عن النقص في القدرات التقليدية للبلاد والتي أصابها النقص بفعل العقوبات التي شهدتها إيران على مدار العقود التي أعقبت الثورة الإسلامية. ونشأت قناعة لدى القادة الإيرانيين بأن الولايات المتحدة هي قوة بطش لا يمكنها التصالح مع الدور الطبيعي للجمهورية الإسلامية في المنطقة. ويرون أن واشنطن تسعى إلى علمنة الشرق الأوسط وعرَّضت إستراتيجيتها المنطقة بأكملها للخطر من خلال التسبب في “تفكك دول إسلامية معينة من خلال أعمال الشغب المنظمة وتعزيز الحالة الطائفية”. وفيما يتعلق بفلسطين، فقد أسفر اهتمام إيران بالقضية الفلسطينية عن نتائج أكثر تعقيدًا وتحركه ثلاثة اعتبارات، أولًا: لأن القضية الفلسطينية هي المحور التاريخي لـ “المقاومة” في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، احتاجت إيران لإظهار التزام كاف بالقضية لتعزيز أوراق اعتماد المقاومة الخاصة بها. ثانيًا: في وقت تأسيس الجمهورية الإسلامية، واندلاع الحرب مع العراق كانت سوريا (المتاخمة لإسرائيل وفلسطين) الدولة العربية الوحيدة التي وقفت إلى جانب إيران. وإذ كانت إيران تسعى لنشر رؤيتها لشكل الصراع مع إسرائيل كقوة إقليمية منافسة، أثبتت القضية الفلسطينية أنها مدخل مغر ومؤثر بالنسبة لطهران. ثالثًا: لكي يُنظر إليها على أنها قوة إقليمية، كانت إيران بحاجة إلى تطوير القدرات للتنافس مع ما تعتبره خصمها الإقليمي الرئيسي (إسرائيل)(9). وهذا دفع إيران إلى عدم إعطاء الأولوية للاعتبارات الأيديولوجية من أجل الشراكة مع الجماعات الفلسطينية العربية السنية. ومع ذلك، فإن مواقف إيران تجاه الجماعات الفلسطينية الرئيسية يختلف مقارنة بالحركات الأخرى الحليفة لإيران. وفي حالات التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، وفهم المخاطر المرتبطة بالمواجهة المباشرة مع خصم متفوق عسكريًّا وتقنيًّا، تختار الجمهورية الإسلامية العمل من خلال الوكلاء للحفاظ على إمكانية الإنكار المعقولة ورفع كلفة الرد بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية(10). وكان لابد من التعويض عن الضعف في المجال العسكري التقليدي في ساحة المعركة من خلال إعداد نوعي ومعنويات متفوقة، وهكذا وُلدت إستراتيجية إيران غير المتكافئة. وكان لدى بعض مؤسسي الحرس خبرة بالفعل في الحرب غير المتكافئة؛ حيث قاتلوا إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية وحركات المقاومة اللبنانية ضد إسرائيل في السبعينات(11). يكفي حماس أن تقاتل إسرائيل لقد رأت إيران في حركة حماس حركة قادرة على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومنسجمة في خطوطها العريضة مع موقفها من إسرائيل. وتماشيًا مع رؤيتها الإستراتيجية الكبرى في حماية المستضعفين، استخدمت إيران قوة وإمكانيات فيلق القدس لتقديم التدريب والدعم اللوجستي (الأسلحة والمعدات) والدعم المالي لحماس في عملياتها ضد إسرائيل(12). ويشرح كمال خرازي التركيز الإيراني على العلاقة مع حركة حماس بالقول: “بالتأكيد، لعب موقع حماس في الساحة الفلسطينية دورًا كبيرًا في قرار الجمهورية الإسلامية بإقامة العلاقة وتقويتها مع الحركة، وقد أثبتت أنها حركة مقاومة عميقة الوجود في الداخل الفلسطيني وقادرة على مواجهة الاحتلال الصهيوني؛ ففي حرب ال 22 يومًا التي جرت في 2008 أظهرت حماس قدرة على هزيمة الصهاينة، ولو كانت جميع الفصائل الفلسطينية قادرة على القيام بالدور الذي تضطلع به حماس لكنَّا نقدم لها الدعم ذاته”(13). تحدث كثيرون من بينهم قادة في حماس عن أن إيران تحتاج إلى المشروعية السنِّية في العالم الإسلامي وأن فلسطين والعلاقة مع حماس هي أفضل مدخل لذلك، لكن خرازي يرد على هذه القراءة بالقول: نحنا لسنا بحاجة إلى فلسطين بهذا المعنى، بمعنى أننا لا ننظر إلى فلسطين بشكل وظيفي، بل نعتبرها مدخلًا للدفاع عن مبدأ سام، لا يغادر إطار الدفاع عن المظلومين، ومعارضة لاحتلال أرض المسلمين، فماذا إن كانت هذه الأرض هي فلسطين؟! وهذا أمر واقعي فما حدث في فلسطين أن الصهاينة جاؤوا واحتلوا أرضًا ليست لهم وانتزعوها من أصحابها بالقوة، وأقاموا دولة باطلة على هذه الأرض، ومن واجب جميع المسلمين بصرف النظر عن مذهبهم أن يهبوا للدفاع عن فلسطين(14). وبناء عليه، “ليس لدى الجمهورية الإسلامية انتظارات خاصة تحصل عليها من الفلسطينيين لقاء تقديم الدعم لهم. والحصول هذا ليس من سياستنا تجاه فلسطين بل نعتقد أن من واجبنا أن نقوم بذلك وهم يقاومون الاحتلال”(15). أما بالنسبة للسؤال المتعلق بموقع حماس داخل الفسيفساء الدفاعية الإيرانية وما إذا كانت جزءًا منها، تقدم إجابة مؤسسة الحرس الثوري على سؤال الباحثة بهذا الخصوص توصيفًا مختلفًا، نصه: “قرارنا هو الدفاع عن حماس، وإذا ما حدثت المعركة مع إيران فمن المؤكد أن حزب الله سيشارك والحشد الشعبي سيشارك وكذلك أنصار الله وزينبيون، وهي إستراتيجية دفاعية بنيناها. أما بالنسبة لحماس فيكفي أن تقاتل إسرائيل، وليس مطلوبًا منها أن تقاتل نيابة عن إيران إذا تعرضنا لهجوم، إن المعركة الوحيدة التي يُنتظر من حماس أن تخوضها هي الحرب مع إسرائيل في الساحة الفلسطينية ولتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة لا في أي ساحة أخرى، فهناك عدو واحد هو إسرائيل”(16). حماس: نحن مستقلو القرار مبكرًا أولت الحركة اهتمامًا لعلاقاتها وسياستها الخارجية، وكان واضحًا أن الحركة خطَّت مجموعة من المبادئ والسياسات بوصفها إطارًا ضابطًا لعلاقاتها الخارجية، واستفادت في ذلك من تجربة الفصائل الفلسطينية على وجه الخصوص وقوى التحرر بشكل عام وهو ما نجده في المقابلة المكتوبة التي أجراها محسن صالح مع أسامة حمدان في العام 2014(17)، ويمكن تلخيص هذه المبادئ في النقاط التالية: العلاقات السياسية للحركة لا تنفصل عن منظومة النضال ضد الاحتلال، بل تتكامل مع فعل المقاومة ومن ذلك المقاومة المسلحة. وجوب استناد علاقات الحركة إلى رؤية إستراتيجية واضحة من حيث الأهداف. ضرورة إدارة علاقات الحركة بصورة مؤسسية لضمان سلامة المسار السياسي واستمرارية وحسن أداء العلاقات السياسية، وهو ما يحصِّن القرار السياسي على صعيد العلاقات الخارجية من التأثير السلبي للتغيرات التي تحصل في البيئة الداخلية للحركة وفي قياداتها. قاعدة المصالح في علاقات الحركة السياسية تستند دائمًا إلى مصالح الشعب الفلسطيني. ولذلك تعاملت الحركة مع تجربة العلاقات السياسية الفلسطينية من منطلق نقدي وطني، بحيث استفادت من حسناتها وحاولت تجنب عثراتها. انتماء الشعب الفلسطيني لأمته العربية والإسلامية، وهي تمثل عمقه الإستراتيجي، دون إغفال للبعد الإنساني ودعم أحرار العالم للقضية الفلسطينية. البحث عن المشترك في العلاقات، وتعزيز نقاط الالتقاء، وتباين الرؤى في القضايا غير القضية الفلسطينية يجب ألا يكون مانعًا لبناء العلاقات. استقلالية القرار، ورفض التبعية في أي من علاقات الحركة الخارجية. بقاء قاعدة الأخلاقيات والضوابط الإسلامية هي الحاكمة في أداء الحركة وعلاقاتها. وترتكز الأسس التي تقوم عليها العلاقة بين المقاومة الفلسطينية الإسلامية وإيران على عاملين أساسين، وفق ما يراه محمود الزهار(18): العامل الأول: أصول عقدية دينية وليست مذهبية وهي أن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، وهي قواعد غابت في العالم العربي والإسلامي بسبب سيادة الفكرة العلمانية والمصالح السياسية المتغيرة(19). العامل الثاني: هو المصلحة المنظورة، وهي استهداف الغرب الصهيوني والصليبي للعالم الإسلامي (سُنَّة وشيعة) وحتى العلمانيين ولعل أوضح مثال هو الوجود اليهودي في فلسطين، والنفوذ الغربي في الخليج والوجود المسلح في الدول الإسلامية الآسيوية كما كان في أفغانستان(20). على الرغم من أن علاقة حماس مع إيران، من الناحية الفكرية لا يمكن حسابها كالعلاقة مع حزب الله اللبناني؛ لكن بالنسبة لإيران فإن “موقف حماس من الكيان الصهيوني، والتزامها بقضية فلسطين وموقعها في العالم الإسلامي، جعلها متقاربة مع مواقف وأهداف ومصالح الجمهورية الإسلامية”(21)، ومن هنا جاء الدعم السياسي والمعنوي والمادي الذي تقدمه إيران لحركة حماس. واستطاعت إيران من خلال دعمها لحركة حماس أن تكون مؤثرة في المعادلات السياسية في المنطقة. الدعم: هل من شروط؟ يفتح ذلك الباب للتساؤل حول شروط الدعم الذي قدمته إيران لحماس؟ تجيب حماس على هذا بأنها كانت واضحة منذ بداية العلاقة وكذلك كان الإيرانيون، بأن هذا الدعم مرتبط بالقضية الفلسطينية وبخيار المقاومة، وغير مرتبط بملفات أخرى. وأنه “ورغم الكثير الذي قيل ورغم محاولات التشويش، فالحركة لم تكن مستعدة للقبول بدعم مشروط، وهناك دول تعرف نفسها اقترحت دعمًا مشروطًا ورفضناه”(22). أمام ما تصفه الحركة بـ”محاولة التشويش والقول بأن الدعم الإيراني، هو دعم مشروط لحركة حماس”، كانت الحركة تقول بأن استمرار ذلك قد يدفعها إلى الحديث عن دعم مشروط كان يعرض عليها من دول أخرى(23). والأمر ذاته يؤكده مجتبى أبطحي مشددًا على موقف إيران: نحن ليس لدينا أية شروط لخدمة المجاهدين في فلسطين، ولا نطلب منهم شيئًا، سوى أن تبقى قضية فلسطين هي القضية الأولى(24)؛ ولذلك عندما اتخذ الإخوة في حماس موقفًا مما حدث في سوريا، وأقصد السيد خالد مشعل والسيد أبو مرزوق، قلنا لهم: إن علاقتنا معكم من أجل فلسطين، وإن لم تقفوا معنا في هذه المرحلة فيما يتعلق بسوريا فلن نقطع العلاقة معكم، وقد بقي مكتب حماس في طهران، ويمكن أن تسألوا الحركة عن ذلك. ومن جانبنا، لدينا تعليمات واضحة من القائد الأعلى، السيد خامنئي، بعدم ممارسة أية ضغوط على الأخوة سواء في حزب الله أو في حماس. وبلغة حازمة، يختم أبطحي جوابه بشأن هذه المسألة: “نحن لا نمول أي قضية من قضية فلسطين، بل نحن نضع جميع القضايا في خدمة القضية الفلسطينية، وهو ما يشدد عليه السيد خامنئي في كل مرة يلتقي فيها قادة المقاومة وآخرها في هذا الصيف عندما التقى بجميع أطياف المقاومة الفلسطينية وأكد أن القضية الأولى هي قضية فلسطين”(25). اجتماع عبداللهيان وهنية في الدوحة (رويترز) تؤكد الحركة أن: “الإيرانيين لم يشترطوا يومًا، أي شروط خاصة بهم مقابل دعم حماس، و”إيران تعلم أنها لو اشترطت لما قبلت حركة حماس ذلك”(26) ، فهي لم تفرض شروطًا وكانت تعرف أن حماس ترفض الدعم المشروط. والدعم الذي تتلقاه حركة حماس من إيران وغيرها ليس مشروطًا، وفق تأكيدات خالد مشعل، رئيس الحركة في الخارج، والذي يسوِّق خروج حماس من سوريا بقرار من قيادة الحركة نفسها على أنه دليل على غياب الاشتراط في الدعم(27)، كما أن “العلاقة مع أي طرف لا تعني أن نتطابق بالرؤى”(28). يعطي مشعل ميزة لإيران عن غيرها من الدول في مجال الدعم: “إيران تتميز عن الدول التي تدعم شعبنا ومقاومتنا بأن لديها هامشًا في الدعم العسكري، إسنادًا وتصنيعًا”(29)، ولعل ذلك مرده إلى أن إيران أطَّرت دعم المقاومة والقضية الفلسطينية برؤية إستراتيجية تتعلق بدور إيران في المنطقة وموقعها في العالم الإسلامي، وعرَّفت مصالحها الإستراتيجية من خلال دعم القضية الفلسطينية. ويرى الزهار أن أهم عامل حكم العلاقة بين الحركة وإيران هو “درجة المصداقية التي حققتها حماس كحركة مناهضة للصهيونية وحركة تحرر وطني من الاحتلال الإسرائيلي وأيضًا درجة الثبات في الموقف الإيراني الداعم للقضية الفلسطينية، إضافة إلى صدق قيادة حماس في مواقفها وعلاقاتها الرسمية مع الحلفاء”(30). وهناك عامل يتعلق بما يطلق عليه الزهار “وضوح العدو”، إذ يرى: “لاشك أن وضوح العدو لحماس ولإيران ولسورية ولبنان وكل الأمة العربية الرافضة للتدخلات الأجنبية في شأن فلسطين وغيرها هي التي ثبتت العلاقة وعمقتها كما أن إيمان الجميع بمعركة “وعد الأخرة” وبخاصة بعد معركة سيف القدس التي جسدت نموذجّا عمليا لكيفية التحرير لفلسطين وهزيمة العدو الصهيوني لمصلحة المنطقة كلها”(31). يميل البعض إلى قراءة المواقف الإيرانية الداعمة للقضية الفلسطينية على أنها استثمار إيراني في الفراغ العربي وتخلي الدول العربية عن دعم القضية الفلسطينية، وهناك من يرى أن ذلك يصب في خانة المصالح السياسية، لكن الشيخ صالح العاروري لا يعتقد بهذا الرأي، بل يعتقد بأن “علاقة إيران بالقضية الفلسطينية مبدئية وأصيلة وكانت محورًا أساسيًّا في خطاب الثورة والنظرة إلى المشروع الصهيوني، فالعلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل كانت في لب الخلاف بين الخميني والشاه، وقد أعقب انتصار الثورة خطوات عملية صبَّت في باب دعم القضية الفلسطينية”(32) ويشرح الشيخ العاروري رؤيته تجاه هذه المسألة بالقول: “كانت إيران حريصة دائمًا على الحضور في الموضوع الفلسطيني، وهذا الحرص ليس موسميًّا ولا انتهازيًّا، ولا يقوم على ردة الفعل، بل يرتبط بروح الثورة، ولذلك لا علاقة للحضور العربي من عدمه بموضوع العلاقة مع إيران”(33). ومع ذلك، هناك خصائص يمتاز بها الموقف الإيراني وفق ما يشرحه العاروري: “التجربة في العلاقة أكدت أن سقف التأييد الإيراني لا يبلغه أحد من دول المنطقة سواء سياسيًّا أو تنفيذيًّا ماديًّا”.(34). طوفان الأقصى: هل تخوض حماس المعركة منفردة؟ باغتت حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، في فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، الجيش الإسرائيلي في غلاف قطاع غزة، وتمكنت من السيطرة على قاعدة عسكرية كبيرة وعدد من المواقع ونقاط المراقبة الإسرائيلية المنتشرة على حدود القطاع. كما سيطرت وحدات كوماندوز تابعة للحركة على نحو 20 مستوطنة إسرائيلية داخل ما يسمى “الخط الأخضر”. وأسفرت هذه العملية، غير المسبوقة وفق المعطيات التي أعلنها الجيش الإسرائيلي حتى الآن، عن مقتل أكثر من 1200 عسكري ومدني إسرائيلي، وإصابة نحو 3000 جريح، بينهم العديد من كبار الضباط، كما أسرت حماس وفصائل أخرى أكثر من 130 إسرائيليًّا. شهدت معركة طوفان الأقصى مفاجآت غير مسبوقة، تمثلت أولاها في التوقيت حيث اختارت يوم السبت في ختام الأعياد اليهودية وفي ذروة الاعتداءات على المسجد الأقصى، فكان توقيتًا غير متوقع بالنسبة لجيش الاحتلال. كشفت المعركة أيضا الفشل الاستخباري والعسكري للاحتلال؛ ذلك أن معركة بهذا الحجم والأهمية والتخطيط كان يُعدُّ لها منذ شهور طويلة على أقل تقدير، ورغم ذلك فقد فشلت الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” في توقعها رغم التسريبات التي تحدثت عن أن مصر قد حذرت إسرائيل من عملية يجري التخطيط لها قبل أيام من هذه المعركة. وأبرزت العملية قدرة المقاومين الفلسطينيين على الاختراق والتسلل نحو مستوطنات غلاف غزة والداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، بعد تحييد عدد من القواعد والنقاط العسكرية على الحدود وإخراج بعض منظومات التواصل من الخدمة. وقاوم المقاومون باستخدام البر والبحر والجو بما في ذلك الطائرات الشراعية التي استُخدمت بحرفية فائقة في الساعات الأولى للهجوم واستطاعت تضليل الرادارات. ويذكر تحقيق استقصائي لنيويورك تايمز، أن مسلحي حماس دخلوا في عملية منظمة للغاية ومخطط لها بدقة، مما يشير إلى فهم عميق لنقاط ضعف إسرائيل. ولإعادة بناء أحداث ذلك اليوم (السبت، 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، أجرى الصحفيون مقابلات مع أكثر من 20 ناج وجندي ومسؤول عسكري ومخابرات، كما راجعوا وثائق تخطيط حماس ولقطات فيديو للهجمات.كان المسلحون من غزة يعرفون بالضبط كيفية العثور على الأهداف والدخول إليها، وتقدم الروايات تفاصيل عن كيفية تمكن حماس، من مفاجأة أقوى جيش في الشرق الأوسط والتغلب عليه؛ حيث اقتحمت الحدود واجتاحت أكثر من 30 ميلًا مربعًا واحتجزت أكثر من 150 رهينة مما أسفر عن مقتل أكثر من 1300 شخص في اليوم الأكثر دموية لإسرائيل في تاريخها الممتد 75 عامًا. ويشير التحقيق إلى أنه وبفضل التخطيط الدقيق والوعي غير العادي بأسرار إسرائيل ونقاط ضعفها، تمكنت حماس وحلفاؤها من اجتياح جبهة إسرائيل مع غزة بعد وقت قصير من الفجر؛ الأمر الذي صدم احتلالًا طالما اعتبر تفوق جيشه عقيدة لديه. وباستخدام الطائرات بدون طيار، دمرت حماس أبراج المراقبة والاتصالات الرئيسية على طول الحدود مع غزة؛ مما أدى إلى فرض نقاط عمياء واسعة على الجيش الإسرائيلي. لقد كان لمجموعة حماس فهم متطور بشكل مدهش لكيفية عمل الجيش الإسرائيلي، وأين تتمركز وحدات معينة، وحتى الوقت الذي سيستغرقه وصول التعزيزات. لقد حطمت معركة طوفان الاقصى هالة إسرائيل التي لا تقهر، كما أدى ذلك إلى قلب الافتراضات القائلة بأن حماس، التي صنفتها إسرائيل والعديد من الدول الغربية منذ فترة طويلة مجموعة إرهابية، أصبحت تدريجيًّا مهتمة بإدارة غزة أكثر من استخدامها لشن هجمات كبيرة على إسرائيل. وأظهرت وثيقة تخطيط تابعة لحماس، عثر عليها مستجيبو الطوارئ الإسرائيليون في إحدى القرى، أن المهاجمين تم تنظيمهم في وحدات محددة جيدًا ذات أهداف وخطط معركة واضحة. الوثيقة مؤرخة في أكتوبر/تشرين الأول 2022، مما يشير إلى أنه تم التخطيط للهجوم منذ عام على الأقل. بدأت معركة “طوفان الأقصى” من حيث انتهت معركة “سيف القدس” عام 2021، وفق ما أكده “أبو عبيدة” في رسالة مصورة، الذي وصف ما تم تحقيقه بأنه “يعتبر إنجازًا مشرفًا في تاريخ الصراع، سيظل محفورًا في ذاكرة الأجيال، وسيكون له أثر عظيم في مقاومة شعبنا وأمتنا”. وتحدث تقرير “وول ستريت جورنال” عن قيام مسؤولين أمنيين إيرانيين بمساعدة حماس في التخطيط للهجوم غير المسبوق الذي نفذته، ولكن الإدارة الأميركية لم تجد دليلًا على دور مباشر لإيران في “طوفان الأقصى”. في طهران، يقدم قائد الثورة في إيران، آية الله علي خامنئي، دعمًا متواصلًا للمقاومة الفلسطينية، وأثر موقفه منها على نوعية ومستوى الدعم الذي قدم لها حتى العسكري منه، ولا يكاد يخلو خطاب له من الإتيان على القضية الفلسطينية، ويحرص بشكل دوري على لقاء قادتها، لكنه في تعليقه على “طوفان الأقصى” أكد أنها “فعل فلسطيني” خالص واصفًا إياها بأنها مبادرة الفلسطينيّين الشجاعة والمضحِّية في الوقت عينه. كانت ردًّا على جرائم العدو الغاصب التي تواصلت أعوامًا. ووصف خامنئي -في كلمة نقلها التليفزيون الإيراني الرسمي- الهجوم الذي شنته حماس بالزلزال المدمر، وقال: “نُقبل أيادي الذين خططوا للهجوم على النظام الصهيوني”. وأضاف أن “هذا الزلزال المدمر دمر بعض الهياكل الحيوية -في إسرائيل- التي لن يكون من السهل جبرها. وتصرفات النظام الصهيوني هي المسؤولة عن هذه الكارثة”. وقال خامنئي، في كلمته التي ألقاها خلال حفل تخرج ضباط بكلية عسكرية إيرانية: إن “أنصار النظام الصهيوني نشروا إشاعات الأيام الثلاثة الماضية تقول: إن إيران تقف وراء عملية حماس، لكنهم مخطئون”. وفُسِّر ذلك على أنه إغلاق لباب الضغط على إيران واستدراجها لمواجهة، وفسره آخرون على أنه تأكيد على استقلال قرار حركة حماس التي طالما اتهمها خصومها بالارتهان للقرار الإيراني. يتحدث القيادي السابق في الحرس الثوري، حسين كنعاني مقدم، للجزيرة نت ويرى أن حركة حماس استفادت في المعركة الجارية من تجارب المقاومة في المعارك السابقة، ويمكن القول: إن الإستراتيجية العسكرية للمقاومة الفلسطينية قد تم بناؤها وتطويرها في غرفة عمليات مشتركة بمشاركة قوى محور المقاومة. وانطلقت بعد دراسة التكتيكات المستخدمة في الحروب الأخرى، لكنه يستدرك أن طهران تعلن بصراحة أنها تدعم كل الجهات التي تقارع كيان الاحتلال، وهي على اتصال وتنسيق مع حلفائها في محور المقاومة، وإن كانت حاليًّا لا تخوض المعركة. ويميل مقدم إلى أن احتمالات شن الاحتلال عملية برية على غزة -في سياق سياسة الأرض المحروقة الرامية للقضاء على المقاومة في القطاع- واردة، لكنها ضئيلة بسبب تداعياتها الوخيمة، خاصة على الاحتلال، كما أن إيران وإن كانت لم تشارك مباشرة حتى الآن في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن هذا لا يعني قرارًا نهائيًّا بعدم المشاركة في حال تجاوزت إسرائيل الخطوط الحمر. تقرير موقع والا وأكسيوس: لقد أرسلت إيران رسالة إلى إسرائيل عبر الأمم المتحدة: سيتعين علينا التدخل إذا استمرت الهجمات في غزة، خلال لقاء جمع وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، في بيروت مبعوث الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط. وتقول الرسالة الإيرانية: إن إيران غير مهتمة بتحويل الصراع في غزة إلى حرب إقليمية، إلا أنه أكد أن إيران لديها خطوط حمراء وسوف تضطر إلى الرد إذا استمرت عملية الجيش الإسرائيلي في غزة. إن الرد الإيراني بشكل غير مباشر سواء من خلال الميليشيات في سوريا والعراق أو عبر تقديم الدعم لدخول حزب الله إلى القتال، سيحول الأزمة الحالية في غزة إلى حرب إقليمية. وتحدثت إيران عن سيناريوهات تصعيدية لدى حزب الله من شأنها إحداث زلزال في إسرائيل. خلاصة التعاون والتنسيق وتلقي الدعم أمر لا تنكره حركة حماس كما لا تنكره الجمهورية الإسلامية، وهي جزء من محور المقاومة، لكنها ذات خصوصية مقارنة بأعضاء المحور الآخرين. هناك تأكيدات من قبل حركة حماس وكذلك من إيران على انتفاء الشرط في مسألة الدعم، على الرغم من خلافات حدثت بشأن بعض القضايا منها ما تعلق بالساحة الداخلية الفلسطينية، مثل مشاركة حماس في الانتخابات، ومنها ما تعلق بقضايا إقليمية كان أشدها الخلاف بشأن سوريا، وهو الخلاف الذي أثَّر بصورة جوهرية على مستوى العلاقة دون أن يقود إلى القطيعة الكاملة، وبقي الخط الساخن بين الجسم العسكري للحركة والحرس الثوري قائمًا بإصرار من الجانبين. قد تكون الخطوط الحمراء التي تحدث عنها التحذير الإيراني متعددة، لكن واحدًا منها يتقدم هذه الخطوط وهو تهجير سكان غزة وتصفية حركة حماس، لأن ذلك يعني فقدان المكون الأبرز والأكثر تأثيرًا في مواجهة إسرائيل خاصة مع ما قدمته الحركة من تضحية ومهارة في الأداء بشكل أثبت للإيرانيين أن المساعدة التي قدموها لم تذهب هباء. وحتى من زاوية ميزان القوى فإن ذلك سيقلص من قدرة إيران على التأثير في ملفات الإقليم وسيرفع من إمكانيات تقليص نفوذها في الإقليم. كما أنه سيضر بسمعتها لدى حلفائها الذين تحاول إسرائيل جعل تحالفهم مع إيران مكلفًا. كثيرًا ما اتُّهمت إيران بأنها تستثمر سياسيًّا في القضية الفلسطينية، فإن كان استثمارها مجديًا فذلك يمثل دعوة للدول العربية بأن تدخل هي الأخرى وتستثمر في هذه القضية، أما إن كان هذا الاستثمار مكلفًا فهو دليل على مركزية القضية الفلسطينية في الخطاب الإيراني الذي ساد في الجمهورية الإسلامية عقب الثورة، وفي كلتا الحالتين فهو حجة على الدول العربية التي كثيرًا ما سعت حركة حماس لإقامة علاقات قوية معها، والبعض منها وضع شروطًا صعبة لذلك.