يعد الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي الصراع الرئيسي بمنطقة الشرق الأوسط، وأحد حلقات “أحزمة التحطم” (Shatterbelts)(*) التي تشكلت بمنطقة الشرق الأوسط، ضمن حلقات صراع أخرى -مزاحمة لهذا الصراع- ذات طابع سياسي ومذهبي. ورغم حالة التحول والانشغال الإقليمي والدولي بهذه الصراعات الأخرى، إلا أن الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي أثبت عبر العملية العسكرية الأخيرة وتوابعها أنه لايزال يتمتع بمقومات الصراع الرئيسي، نظرًا لموجات تأثيره على العديد من دول الإقليم واستقرار المنطقة بشكل عام على النحو الذي نشهده في اللحظة الراهنة.
ووفقًا للأنماط الصراعية التي تحفزها هذه الهياكل الجيوسياسية المحورية “أحزمة التحطم”، بحسب ما أوضحه “فيليب كيلي – Philip L. Kelly”، في كتاباته بشأن تصاعد الصراع الإقليمي من المنظور الجيوبوليتيكي[1]، وكذلك “كولن غراي –Colin Gray” أحد البارزين في إثارة موضوع الصراع باعتباره متأصلًا في علم الجيوبوليتيك أو الجغرافيا السياسية[2]، فإنها تشكل إغراءات جذب لتدخل القوى الخارجية الأكبر حجمًا لصالح المتصارعين المحليين، في إطار توازنات القوى بين الدول الكبرى المتنافسة على المستوى الدولي، وتتشكل مثل هذه التحالفات للأطراف المتصارعة مع/ضد أصدقائها/خصومها المحليين والاستراتيجيين من خلال خيارات سياسية، وليس من خلال خصائص إقليمية محددة.
وبإسقاط هذا التنميط الصراعي على حالة الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي نجد أنه متلبس بهذه الحالة النمطية من حيث توفر حواضن دعم إقليمية ودولية للأطراف المتصارعة. فمن ناحية، يوفر العالم الغربي (الأمريكي-الأوروبي) الدعم غير المحدود لإسرائيل في مواجهاتها العسكرية والسياسية. وفي المقابل، كانت هناك حواضن دعم تاريخية للجانب الفلسطيني من الدول العربية المجاورة، وكذلك الدول الإقليمية. بيد أن هذه الحواضن تعرضت لتأثيرات تراجع ملحوظ خلال السنوات الماضية، تحت وطأة ضغط المشروعات الإقليمية التي صاغتها واشنطن على غرار ما عُرف وقتها بمشروع “صفقة القرن”، ومؤخرًا مشروع “السلام الإبراهيمي” الذي تستهدف تل أبيب من وراءه تحييد حالة الخصومة مع الأطراف العربية الداعمة للقضية الفلسطينية، في مقابل تطبيع العلاقات معها وجني مكاسب ذلك على مستوى العلاقات الثنائية بين الطرفين دون أن ينسحب إلى المستوى الاستراتيجي المتعلق بالقضية الفلسطينية.
“طوفان الأقصى” والتداعي الجيوبوليتيكي
كشفت معطيات المشهد الراهن، وما خلفته العملية العسكرية الفلسطينية “طوفان الأقصى”، من توابع وتداعيات جيوبوليتيكية، عن أن قراءة هذه التداعيات غير ممكنة بالمنظور الضيق للأدبيات التقليدية للصراع، خاصة وأنها لاتنفك عن التحولات الجيوبوليتيكية للسياق الدولي والإقليمي، من ناحية احتدام التنافس الدولي بين القوى الكبرى، وكذلك المشروعات الإقليمية المُشار إليها سلفًا، والتي سعت إلى إنهاء الصراع دون حلول تشمل الأطراف الرئيسية للنزاع، في إغفال تام لقدرة أطرافه (الطرف الفلسطيني) على تجديده وبث الروح فيه من جديد في إطار أعمال المقاومة المسلحة.
ومع انطلاق عملية “طوفان الأقصى” التي باغتت جميع الأطراف الإقليمية والدولية، فقد أوجدت معطيات جديدة للصراع جعلت حسابات الطرف الفلسطيني حاضرة كرقم مهم في أية معادلات إقليمية ودولية خاصة بمنطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى تشكيلها نقاط جذب لتحفيز مشاركة خصوم الولايات المتحدة على غرار روسيا التي برز حضورها خلال التعامل مع تداعيات العملية العسكرية الفلسطينية، على نحو عكس إشارات محتملة بالتدخل لاستغلال ما يحدث من أجل موازنة نفوذ واشنطن وتضييق الخناق عليها في المناطق الجيوسياسية لمصالحها ومصالح حلفاءها الاستراتيجيين على النحو الذي يسهم في تخفيف الضغط الغربي في الفضاءات الحيوية لموسكو، وهو المنظور ذاته الذي تتعامل من منطلقه إيران، وإن كانت بقدرة تأثير أكبر من تلك التي تملكها موسكو نظرًا لمراكز نفوذها المنتشرة عبر الوكلاء المحليين في مناطق التماس الجغرافي لإسرائيل.
استراتيجية اللعبة الكبرى
تتجاوز تداعيات العملية العسكرية الفلسطينية “طوفان الأقصى” وما يستتبعها من آثار أبعاد الصراع في ذاته إلى الصورة الأوسع التي ترسم إطارها حالة احتدام التنافس بين القوى الكبرى وتحولات النسق الدولى بين القوى المتنافسة على غرار الولايات المتحدة والصين وروسيا، فتحركات الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية لمواجهة الصعود الصيني–الروسي في مناطق الإندوباسيفيك، والبلقان وآسيا الوسطى، يجعل منطقة الشرق الأوسط -رغم تراجع أهميتها بالنسبة لواشنطن- أحد مسارح توازن القوى العكسية التي تستخدمها خصوم هذه الأخيرة لتقويض وموازنة نفوذها المتزايد في مناطق التماس الاستراتيجي لهذه القوى، وذلك عبر خريطة “أحزمة التحطم” التي أوجدت مناطق نفوذ ومواطئ قدم استراتيجية للقوى المناوئة لواشنطن وحليفتها الاستراتيجية تل أبيب، على نحو مكّنها من تطويق هذه الأخيرة عبر “حزام تحطم” بؤر الصراعات بمنطقة الشرق الأوسط بكل من سوريا ولبنان والعراق، فيما بات يُعرف بـ “الهلال الشيعي” الذي تنشط فيه إيران وبشكل جزئي روسيا في المناطق السورية.
ويمكن الاستدلال على ذلك بمؤشرات التحرك الأمريكية في المنطقة، على سبيل المثال، يبرز التفاعل غير المسبوق الذي تقوم به الولايات المتحدة في اللحظة الراهنة لدعم حليفتها تل أبيب بتحريك بعض القطع الحربية لأسطولها البحري مثل حاملة الطائرات “جيرالد آر. فورد” من أجل إيصال رسائل ردع للأطراف المنخرطة في مناطق التطويق الاستراتيجي لإسرائيل[3]، وذلك ضمن تفاعلات استراتيجية اللعبة الكبرى لموازنة نفوذ خصومها، وعبّر عن ذلك بوضوح الرئيس الأمريكي جو بايدن في كلمته في 10 أكتوبر 2023، بتحذيره للأطراف الدولية باستغلال التصعيد الراهن، قائلاً: “أحذر أي بلد أو منظمة من استغلال هذا الوضع، وبشكل عام أقول لأي شخص يفكر في استغلال هذا الوضع، لا تفعل ذلك”[4].
أيضًا، عكست الفترة الماضية تحركات ملحوظة للولايات المتحدة في مناطق التطويق الاستراتيجي لتل أبيب، في كل من سوريا والعراق، وبرز ذلك من خلال تداول بعض التقارير في شهر أغسطس 2023، عن تحركات القوات الأمريكية الموجودة في قاعدة “عين الأسد” في محافظة الأنبار غرب العراق، ونيتها غلق الشريط الحدودي مع سوريا، وهو ما تزامن مع وصول تعزيزات حربية للقوات الأمريكية المتمركزة داخل العمق السوري[5]. هذا فضلاً عن اتجاه الكونجرس الأمريكي في يوليو 2023، لمناقشة تزويد سلطات كردستان العراق بأنظمة مضادة للصواريخ وبدفاع جوي من أجل حماية الإقليم من القصف الإيراني[6]. بالإضافة إلى خروج بعض التقارير تتحدث عن وجود تحركات عسكرية أمريكية في المحافظات الشرقية والجنوبية اليمنية[7]، وذلك تزامنًا مع وصول عدد من القطع البحرية الأمريكية البريطانية إلى البحر الأحمر[8].
ماذا بعد؟
تفرض اللحظة الراهنة وفقًا لحسابات المصلحة العربية وحالة التداعي الجيوبوليتيكي التي أشير إلى ملامحها بشكل مقتضب خلال السطور السابقة، ضرورة تطوير سرديات الخطاب العربي وكذلك التحركات العربية في التعامل مع القضية الفلسطينية وفقًا للمعطيات الجديدة التي أوجدتها العملية العسكرية “طوفان الأقصى”، وكذلك معطيات المشهد الإقليمي والدولي، واستغلال مساحة الحركة التي تتيحها هذه التحولات، لفتح قنوات اتصال تقودها مصر والمملكة العربية السعودية لتنسيق حركة مشتركة مع الأطراف الإقليمية الفاعلة على غرار إيران وتركيا، استنادًا للتفاهمات الإقليمية التي حدثت خلال الفترة الماضية بشأن الانفتاح العربي وتحسين العلاقات مع كلا البلدين. ومن ثم، بحث فرص تطوير صيغة مشتركة للتعاون بشأن القضية الفلسطينية على غرار “المجموعة الرباعية الدولية” من أجل تنسيق الجهود على المستوى الإقليمي لموازنة التحركات (الأمريكية–الإسرائيلية) فيما يتعلق بمسارات معادلة الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
بالإضافة أيضًا إلى العمل على توفير غطاء دعم دولي من جانب كل من الصين وروسيا، بدافع تجنيب المنطقة حالة عدم الاستقرار التي يمكن أن تحدثها عملية التصعيد الإسرائيلي في الوقت الراهن، والتي ترغب في اتساعها لإحداث بعض التغيرات الجيوسياسية في معادلة صراعها على الجبهات المختلفة، وهو ما عكسه تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 9 أكتوبر 2023، والتي توعد خلالها بـ”تغيير منطقة الشرق الأوسط” خلال رده على العملية العسكرية الفلسطينية “طوفان الأقصى”.