يَجْمَعُ هذه التقرير، الصادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، خلاصة ما تداولته معاهدُ ومراكز التفكير الإستراتيجي المناصرة لإسرائيل حول “مستقبل قطاع غزة”، بناءً على ما هو أفضل بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي. وينوّه “مدار”، بدايةً، إلى أن السيناريوهات المعروضة أدناه لا تُعبّر بالضرورة عن مآلات الحرب ونتاجها؛ وإنما تُسلط الضوء على أبرز التوصيات التي يتم تقديمها للمستوى السياسي الإسرائيلي.
وبعيداً عن المجريات العسكرية للحرب، فإن النقاشات الدائرة في هذه المراكز تدعو إسرائيل إلى: إخراج حركة “حماس” من المشهد السياسي للمنطقة؛ إدخال قطاع غزة في مرحلة سياسية جديدة شبيهة بسياق أوسلو، ووفقاً لهذه المراكز؛ قد يكون للأمر تبعات مهمة على خارطة الشرق الأوسط، التي يمكن تسميتها، بـ “خارطة ما بعد 07.10.2023.
خيارات إسرائيل السياسية في الحرب وبعدها
من خلال مراجعة مستفيضة لكتابات أبرز سبعة مراكز أبحاث أمن قومي وتفكير إستراتيجي في إسرائيل والولايات المتحدة، يمكن القول إنها تجمع على أنإسقاط حكم “حماس” وإنهاء قدراتها العسكرية لا يجب أن يكون هدفاً بالنسبة لإسرائيل، وإنما وسيلة ضرورية لتحقيق ثلاث غايات إستراتيجية هي:
على المستوى الإسرائيلي الداخلي، إعادة ثقة الإسرائيليين بالأمن والاستقرار، والإيمان بأن إسرائيل لا تزال وجهة مستقطبة للاستيطان اليهودي. وهذا قد يعتبر هدفاً ملحاً، لا سيّما أن يوسي كلاين هليفي، من “معهد شالوم هارتمان”، يرى أن إسرائيل قد “أصبحت أخطر دولة في العالم بالنسبة لليهود”، وهو ما ينذر بخلخلة الفكرة الأساسية من وراء إنشاء إسرائيل حسب القادة الصهيونيين.
هليفي يرى أن إسرائيل “أصبحت أخطر دولة في العالم بالنسبة لليهود”، ما ينذر بخلخلة الفكرة الأساسية من إنشاء إسرائيل
على المستوى الخارجي؛ على إسرائيل أن تستعيد قوتها العسكرية والاستخباراتية، وبالتالي ليس المطلوب هو فقط ترميم “قوة الردع”، وإنما إعادة فرضها بشكل ملموس باعتبارها من أهم رؤوس أموال إسرائيل للاحتفاظ بمكانتها المهيمنة في الشرق الأوسط.
على مستوى المسألة الفلسطينية، فإن إسقاط حركة “حماس” قد لا يجب أن ينحصر في إضعافها أو الإجهاز على جناحها العسكري، بل العمل على المدى الطويل على إسقاطها كلاعب أساس في الساحتين الفلسطينية، والفلسطينية- الإسرائيلية. وهذا الهدف من شأنه، وهذا ربما الأهم، أن يفتح المجال لإحداث تغييرات حقيقية على صعيد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي فإسرائيل تدرك جيداً أن عدم حل القضية الفلسطينية هو سبب رئيس في استمرار “حالة العنف”، فمن جهة؛ وصلت العملية التفاوضية إلى طريق مسدود، ومن جهة ثانية؛ فإن إسرائيل التي طغى داخلها التيار اليميني الاستيطاني لا تريد أن تنسحب من الأرض المحتلة، ومن جهة ثالثة؛ لا يمكن الاستمرار في حالة “المرحلة الانتقالية” التي تستمر فيها هجمات الفلسطينيين المسلحة. وبالتالي، قد تنظر إسرائيل إلى “وضع الحرب” الحالي على أنه يوفر “حالة لزجة” قد ترشح عنها العديد من السيناريوهات السياسية المرغوبة أو غير المرغوبة، وإن شكل العملية العسكرية وأهدافها وقدرة إسرائيل على السيطرة على مسارها قد يرجح أحد هذه السيناريوهات على غيره.
الفشل الذريع
وترى معاهد التفكير الإستراتيجي أن هذه الأهداف الثلاثة تعتبر ملحة بالنسبة لإسرائيل، خصوصاً بسبب اتساع نطاق الهجمة التي شنتها حركة “حماس”، والفشل العسكري والاستخباراتي في درئها أو التعامل معها في ساعاتها الأولى، بالإضافة إلى الخسائر البشرية والاقتصادية، وتلك المتعلقة بصورتها؛ وهنا تكمن معضلة إسرائيل، فبعيداً عن قدرتها العسكرية المتقدمة، لا توجد إستراتيجية جيدة لدى إسرائيل لإسقاط حركة “حماس”. وتدرك إسرائيل، كما يرى صموئيل هيلفونت، أن “حماس” لها قاعدة اجتماعية كبيرة بين سكان القطاع، وحسب تسفي يحزكيلي، مراسل القناة 13، والمقرب من الزمرة العسكرية الأمنية الإسرائيلية، فإنه يؤكد حسابات المؤسسة العسكرية التي ترى أن “حماس” ليست مجرد “مجموعة من الملثمين” الذين يمكن اغتيالهم، وإنما هي تنظيم له امتداد جماهيري واسع ليس فقط في غزة، وإنما في الضفة الغربية، والداخل الإسرائيلي، ودول الجوار، ودول أخرى في العالم.
وبالتالي، أحد أهم التكتيكات (وهو ربما ما تقوم به إسرائيل حالياً)، يكمن في تدمير حياة سكان القطاع لحثّهم على طرد “حماس” من تلقاء أنفسهم. لكن هذا أيضاً سيتطلب من إسرائيل حرباً طويلة الأمد، وغزواً برياً مكلفاً قد لا تكون قادرة على تحمله، ناهيك عن تضرّر ملموس قد يطاول صورة إسرائيل في العالم، ويقلص إلى أبعد الحدود التفاف العالم الغربي حول عدوانها على القطاع.
وحسب هذه المراكز الفكرية، فإن كل هذه الخيارات الصعبة تعزز معضلة إسرائيل في تحقيق أهدافها، لكن هذا لم يمنع، في المقابل، من أن تتفق القيادة العسكرية والسياسية في إسرائيل، وفئات واسعة من الإسرائيليين، بالإضافة إلى لاعبين إقليميين محوريين، على أنه لا يمكن لـ “حماس” البقاء كما كانت عليه قبل 7 تشرين الأول. وإن هذا التوافق ليس مجرد شعار قد ينتهي برسم “صورة انتصار”، كما حصل في جولات القتال السابقة بين إسرائيل وقطاع غزة، وإنما ينبغي أن يترجم إلى برنامج عمل واضح، وذي إطار زمني أيضاً واضح.
المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ترى أن “حماس” ليست مجرد “مجموعة من الملثمين” الذين يمكن اغتيالهم، وإنما هي تنظيم له امتداد جماهيري واسع ليس فقط في غزة
إسقاط المقاومة
في صلب هذه الدائرة المغلقة (“يجب إسقاط حماس” مقابل “قد لا يمكن إسقاط حماس”) تدور أهم النقاشات الإستراتيجية المتعلقة بأمن إسرائيل القومي في وقت الحرب. وأحد النقاشات الذي بدأ يحظى باهتمام مؤخراً يكمن في نقل النقاش من سؤال “ما هي أهداف الحرب” إلى سؤال “ما هو شكل القطاع في اليوم التالي للحرب”. وطبقاً لهذه المراكز الفكرية، فإن معرفة إسرائيل لما هو الشكل المطلوب لقطاع غزة بعد الانتهاء من الحرب قد يساعدها في رسم خططها الحربية والسياسية، والحصول على دعم دولي لها، وتقدير المدة الزمنية المطلوبة لتحقيقها.
غزة في اليوم التالي للحرب: سيناريوهات إسرائيلية
يرى مايكل كوبلو، كبير الباحثين في “منتدى السياسة الإسرائيلية”، بأنه على قادة إسرائيل أن يتعاملوا مع ثلاث قضايا أساسية، الآن وليس بعد حين، وتتعلق بمستقبل قطاع غزة بغض النظر عن المجريات العسكرية للحرب:
أولاً، قضية المساعدات الإنسانية إلى القطاع هي قضية لا تتعلق بالقانون الدولي أو جرائم الحرب، ولا تتعلق أيضاً بـ”الوجه الإنساني” للغرب، الذي يدعو إسرائيل إلى الاهتمام بالمدنيين من سكان القطاع، بل تتعلق، بالدرجة الأولى، بالمستقبل السياسي للقطاع حيث تجويع الفلسطينيين وترهيبهم تحت القصف، والاستمرار في تدمير منشآتهم، قد لا يساهم بتاتاً في التقليل من شعبية حركة “حماس” داخل القطاع، بل قد يعززه. في المقابل، إن إحداثَ أكبر قدر من الدمار في البنى التحتية، وتدمير الوحدات السكنية بشكل شبه شامل، وإدخال القطاع في أزمة إنسانية مستفحلة، قد يعني، في المستقبل القريب جداً، بأن القطاع قد يصل إلى حافة هاوية لن تتمكن “حماس” من انتشاله منها. هذا يعني أن “بديل حماس” هو المخرج الوحيد أمام سكان القطاع وأمام المجتمع الدولي لـ “تصويب” حياة مليوني نسمة في القطاع. تكمن المعضلة في “مسألة الوقت”، حسب ما يراه الباحثون الإستراتيجيون؛ فإسرائيل تحتاج إلى وقت أطول لتدمير قطاع غزة بشكل يدفع سكانه إلى رفض عودة حركة “حماس”، والسؤال الذي على الكابينيت أن يجيب عليه: إلى متى تستطيع إسرائيل الاستمرار في تدمير القطاع للوصول إلى هذا الهدف قبل أن ينقلب العالم عليها من هول الدمار الذي ستحدثه؟ الأمر يتعلق بحسن الاستفادة من الوقت الذي ينفد. وعليه، يرى كوبلو أنه في حال أرادت إسرائيل إسقاط حركة “حماس” فعليها أن تحسن من حساباتها المتعلقة بتدمير قطاع غزة على ساكنيه.
ثانياً، هناك سؤال: من سيدير قطاع غزة في اليوم التالي للحرب؟ ثمة خمسة بدائل: أولاً أن تحكم إسرائيل القطاع بشكل مباشر (وإسرائيل لديها تجربة حية، إذ يمكن أن تستفيد من تجربتها في إدارة الأراضي “ج” داخل الضفة الغربية). والثاني أن تظل حركة “حماس” هي الحاكم الأساس. كلا الخيارين مرفوضان من قبل الكابينيت الإسرائيلي. وحسب دينيس روس، الذي عمل سابقاً مسؤولاً عن عملية السلام الإسرائيلية- الفلسطينية في الولايات المتحدة، فإنه من وجهة نظر البيت الأبيض، كلا الخيارين مرفوضان باعتبارهما خطأ إستراتيجياً. الخيار الثالث هو أن تدير القطاع دول عربية مجاورة، بشكل مشترك، وضمن برتوكول خاص بذلك (هو أمر مرفوض من قبل هذه الدول). الخياران الرابع والخامس يتعلقان بوجود قيادة فلسطينية. بالنسبة لروس، من جهة ثمة خيار رابع يكمن في ظهور مجموعة محلية جديدة تحكم قطاع غزة. ومن جهة ثانية، الخيار الخامس يكمن في عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، وهو أمر مستبعد في اليوم التالي للحرب لأن هذا قد يعطي تصوراً بأن السلطة الفلسطينية ستدخل القطاع “على ظهر دبابة”، حسب تعبير دينيس روس.
ثالثاً، تحتاج إسرائيل إلى إعادة تقييم جدي لمكانة الضفة الغربية على المدى الطويل؛ وهو أمر يدخل في حسابات كابينيت الحرب حالياً. بالنسبة لإسرائيل، فإن الحديث عن الضفة الغربية لا يشمل حالياً سيناريوهات الانسحاب أو إقامة دولة فلسطينية. بل إن المقصود هنا هو إعادة النظر في الظروف التي تستوجب وجود أكثر من 70% من عناصر الجيش الإسرائيلي المتمركزين بشكل شبه دائم في الضفة الغربية. ببساطة، لا يمكن الاستمرار بهذه الظروف ولا معنى لإسقاط حكم “حماس” في القطاع في الوقت الذي تتكاثر فيه جيوب المقاومين في الضفة الغربية.
عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة أمر مستبعد لأن هذا قد يعطي تصوراً بأنها ستدخل القطاع “على ظهر دبابة”
وللتأكيد، فإن النقاش حول مستقبل الضفة الغربية داخل مراكز التفكير الإستراتيجي الإسرائيلية (وهو نقاش قد يكون مطروحاً على طاولة كابينيت الحرب) لا يتعلق بالتراجع عن “حق” الإسرائيليين التوراتيين بالاستيطان في القدس أو جبال الضفة الغربية، ولا يتعلق أيضاً بقانونية/أخلاقية الاحتلال، بل إن الأمر يتعلق بعدم جدوى وجود قوات إسرائيلية كبيرة، والاستمرار بالتكاليف الأمنية الباهظة لحماية حوالي مئة ألف من المستوطنين (المقصود حوالي خُمس المستوطنين الذين يستوطنون لدواع توراتية خلاصية) والذين اختاروا العيش بين الفلسطينيين، وعلى حساب أمن ملايين الإسرائيليين وضرائبهم.
الآن وليس غداً
من بين هذه القضايا الثلاث، التي ترى مراكز التفكير الإستراتيجي بأن على إسرائيل البدء بالتفكير بها “الآن الآن وليس غداً”، يبرز موضوع “من يحكم قطاع غزة مستقبلاً؟” وأحد أهم الأخطاء الإستراتيجية التي نجمت عن سياسة نتنياهو خلال العقد ونيف الأخيرين (من العام 2009)، يتمثل في دعمه المحموم لإدامة الانقسام الفلسطيني. كانت هذه سياسة ناجحة على المدى المنظور، لكنها حملت في طياتها نقيضها.
ويوضح “مدار” أن هذه السياسة الإسرائيلية كانت تهدف إلى قتل العملية السلمية، وإرجاء أي مشروع تفاوضي، بحجة أن البيت الفلسطيني منقسم، وأنه لا يوجد من يمثل كل الشعب الفلسطيني. وبالتالي، كان الافتراض الإسرائيلي يقوم على مبدأ “الاطمئنان” لحركة “حماس” وتركها لتعزز نفوذها في قطاع غزة، الأمر الذي يساهم بشكل فعّال في إضعاف السلطة الفلسطينية. في المقابل، توجيه ضربات عسكرية بين فترة وأخرى لردع “حماس” الأمر الذي يعزز من مكانة السلطة الفلسطينية التي تحظى بحكم أكثر استقراراً مقارنة بغزة.
وحسب المراكز التفكيرية هذه، فقد نجم عن هذه السياسة، خلال 15 عاماً، بأن “حماس” كانت تقوى أكثر فأكثر، بينما السلطة الفلسطينية تضعف أكثر فأكثر.
ويوضح “مدار” أن اليوم، وغداة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وبعد الوصول إلى خلاصة بضرورة إسقاط “حماس”، فإن المحللين الإسرائيليين يرون أنه لا يمكن للسلطة أن تنقل قواتها إلى غزة بشكل مباشر، بسبب وجود حاجة ملحة لانتشارهم في مدن الضفة، كما أن من الصعب لسكان غزة تقبل عودة السلطة الفلسطينية بلمح البصر.
في حال كان الهدف الإستراتيجي لإسرائيل هو تمكين السلطة من العودة إلى قطاع غزة، فإن الأمر قد يتطلب إعادة ترميم صورتها أمام الفلسطينيين، وهو أمر قد يسير بالتوازي مع انشغال إسرائيل بملف قطاع غزة أثناء الحرب، لكنه لن يتقاطع معه على المدى المنظور.
في المقابل، يقترح معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إنشاء “إدارة وضع انتقالي لإدارة القطاع حتى تتمكن السلطة الفلسطينية من تولي هذا الدور، على الأقل بعد ثلاث سنوات من انتهاء الحرب. موضحاً أن إنشاء إدارة وضع انتقالي في غزة، قد يحتاج إلى مسار سياسي محلي- إقليمي- دولي يشبه إلى حد ما مسار أوسلو.
مثلاً، على الإدارة المؤقتة في غزة أن تشمل ثلاثة مكونات رئيسة: (1) إدارة مدنية لتنظيم حياة سكان القطاع، (2) جهاز للسلامة العامة/ إنفاذ القانون تلعب فيه وحدات الدول العربية دوراً مركزياً. ومفهوم “جهاز إنفاذ القانون” شبيه بالمفهوم الذي ورد في اتفاق أوسلو حول دور الأجهزة الأمنية الفلسطينية في السلطة الفلسطينية، و(3) تحالف دولي لإعادة الإعمار والتنمية، وهو أيضاً ما ترافق وبشكل عضوي، مع اتفاق أوسلو وشمل المركب المتعلق بالتمويل الغربي السخي، والمنح الدولية، ومشاريع الإعمار.
وتقول المراكز البحثية هذه إن هذا السيناريو قد يكون الأنسب بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي، خصوصاً وأنه يتطلب “شرعية” دولية وعربية بهدف تقسيم السلطة الفلسطينية إلى سلطتين: واحدة في رام الله والثانية في القطاع، بحيث يشترط واضعو هذا السيناريو ألا تكون هناك صلات عضوية بين السلطتين في الوقت الحالي، وإنما تتبع كل واحدة منهما إلى الإدارة المدنية الإسرائيلية (مكتب المنسق). ويرى واضعو هذا المشروع، أن على الإدارة الجديدة للقطاع أن تكون إدارة انتقالية لمدة ثلاث سنوات قبل أن تعود السلطة الفلسطينية- ولا يذكر واضعو هذا التصور ما إذا كانت هذه الفترة الانتقالية قد تستمر إلى عقود طويلة، كما حصل مع “أوسلو” الذي كان إطاراً انتقالياً لمدة محدودة (1999-1993).
لا معنى لإسقاط حكم “حماس” في القطاع في الوقت الذي تتكاثر فيه جيوب المقاومين في الضفة الغربية
كيف يمكن لإسرائيل أن تحقق أهدافها؟
في الوقت الذي يترقب فيه العالم الكيفية التي ستتدحرج فيها المعارك الميدانية، فإن التفكير الإستراتيجي- السياسي الذي يحيط بالحرب ينقل نقاش “النصر الإسرائيلي” من ساحة الحرب إلى “اليوم التالي للحرب”.
إن الإعلان المستمر من قبل المسؤولين الإسرائيليين بأن الحرب قد تستمر لأشهر، وقد تطول إلى ما هو أكثر من ذلك، إنما يعني بأن أهداف إسرائيل يجب أن تشمل تغييراً سياسياً، وليس حسماً عسكرياً فقط.
من قراءة في منشورات مراكز التفكير الإستراتيجي، تبرز قضيتان أساسيتان على هذا الصعيد:
أولاً، التغيير السياسي يشترط إخراج حركة “حماس” من المشهد السياسي. هذا يبدأ من إعادة صياغة الخطاب العالمي حول نشاط حركة “حماس” ليتحول إلى:
1) حركة “حماس” هي تنظيم ظلامي متعطش للدماء ولا مكان له بين الأمم.
2) حركة “حماس” لا تمثل كل الفلسطينيين، وهي في صراع مستمر مع “القيادة الشرعية” الفلسطينية والمقبولة دوليا.
3) هجوم “حماس” هو بمثابة 11 سبتمبر بالنسبة لإسرائيل، وبالتالي ستتصرف إسرائيل كما تصرف “العالم الحر” مع هجمات بن لادن، مع الاستمرار بالتذكير (في خلفية هذا النقاش) بأن الهولوكوست هو ليس حدثاً بل حالة مستمرة.
إغناتيوس: الهزيمة العسكرية لإسرائيل تترافق مع نصر سياسي لها. في أعقاب حرب 1973، استطاعت أن تحقق انتصاراً سياسياً من خلال كامب ديفيد
في هذا السياق، كتب مايكل ماكوفسكي، وهو مسؤول سابق في البنتاغون، والمدير التنفيذي للمعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي، بأنه: “من الآن فصاعداً، يمكن فصل العالم بين أولئك الذين يدينون هذا العمل الشرير الحقيقي، وهو أسوأ هجوم ضد اليهود منذ المحرقة، وبين من يؤيدونه”. أحد أهم الإستراتيجيات للوصول إلى إسقاط “حماس”، لا يكمن فقط بمحاربتها عسكرياً من الداخل، وإنما بمحاصرتها من الخارج. ويرى ماكوفسكي أن على الولايات المتحدة أن تتحرك، وبشكل فوري، أمام كل من تركيا وقطر. وعليه، من غير المقبول بالنسبة لإسرائيل أن تستمر في سماع عبارات تركية من قبيل “من مسؤوليتنا الوقوف مع المظلومين”. وعلى إدارة بايدن فرض عواقب واضحة على مثل هذا الخطاب الصادر عن عضو حليف في الناتو. كما يقول إنه قد آن الأوان لعودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط وبقوة، بحيث أن العديد من الإصلاحات والتعديلات لا بد أن تمر من خلال الدبلوماسية الأميركية الحاسمة.
ثانياً، كتب طوني بلير، رئيس الرباعية الدولية، وأحد أبرز السياسيين الأكثر انحيازاً لإسرائيل، ومن الذين لعبوا دوراً في الملف الإسرائيلي- الفلسطيني في فترة ما بعد أوسلو، بأنه “من الواضح أن عقوداً من الدبلوماسية الغربية التقليدية حول القضية الإسرائيلية- الفلسطينية ستحتاج إلى إعادة التفكير بشكل أساس”.
ويرى بلير أن هزيمة حركة “حماس” تتطلب إعادة ضخ دماء جديدة (كما حصل في اتفاق أوسلو عام 1993) في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، بالطبع، قد لا يعني الأمر حلاً للقضية الفلسطينية أو القيام بخطوات جدية تجاه حل الدولتين، وإنما قد يعني إدخال الساحة الفلسطينية في مرحلة جديدة تطوي سنوات من “الطرق المسدودة”، شريطة ألا تكون حركة “حماس” جزءاً من هذا المستقبل الجديد.
في هذا السياق، تنظر مراكز التفكير الإستراتيجي إلى التاريخ على أنه “يعيد نفسه”، وأنه في كل جولات الحروب أو الانتفاضات التي أرهقت إسرائيل، كانت الهزيمة العسكرية لإسرائيل تترافق مع نصر سياسي لها. حسب ديفيد إغناتيوس، وهو محلل سياسي مرموق في “واشنطن بوست”. في أعقاب هزيمة إسرائيل في حرب العام 1973، استطاعت أن تحقق انتصاراً سياسياً من خلال اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، وبالتالي وقعت اتفاق سلام مع “جارتها العملاقة من الجنوب”. كما أن الإرهاق الذي أصاب إسرائيل إبان الانتفاضة الأولى، تم اتباعه بنصر سياسي مهم من خلال توقيع اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، بحيث أن “الكفاح المسلح” الفلسطيني بات مركباً خارجياً بالنسبة للخط الرسمي للقيادة الفلسطينية. أما اليوم، فإن الهزيمة التي منيت بها إسرائيل في 7 تشرين الأول، يجب أن تترافق مع إعادة ترتيب المشهد الفلسطيني- الإسرائيلي بشكل يحقق انتصاراً إستراتيجياً لإسرائيل، على الرغم من إمكانية هزيمتها عسكرياً. وبالنسبة لإغناتيوس فهو يرى أن السعودية قد تلعب دور العراب في تحديد معالم المستقبل الجديد الذي من شأنه أن يعيد تشكيل المشهد السياسي الإسرائيلي- الفلسطيني. وتتردد هذه التوقعات أيضاً في الصحافة السعودية مؤخراً، والتي ترى أن هناك مصالح متقاطعة بين العديد من الأطراف:
1) السعودية ترى أن خطتها الإصلاحية المسماة 2030 تتطلب تطبيعاً مع إسرائيل وأجواء من السلام لا مكان فيها للعنف.
2) إسرائيل تطمح إلى تطبيع العلاقات مع السعودية.
3) الولايات المتحدة ترى أن التطبيع بين البلدين قد يشكل اللحد الذي ستوضع فيها “جثة” محور الممانعة.
4) بينما السلطة الفلسطينية تنتظر سياقاً غير متوقع لإعادة ضخ دماء جديدة فيها، وإصلاحها، ودعمها بشكل جدي عربياً ودولياً.