من على الحدود اللبنانية الفلسطينية، وفي مقطع قصير من ثوانٍ معدودة، ظهر “أيوب فالح الربيعي”، القائد الميداني في فصيل “كتائب الإمام علي” المنضوية تحت لواء “الحشد الشعبي” العراقي الشيعي، مُتوعِّدا الإسرائيليين بحرب ضروس بمجرد منح الضوء الأخضر لقواته للمشاركة في الحرب الدائرة حاليا في قطاع غزة.
حصد الفيديو أكثر من مليونَيْ مشاهدة، كما حصد فيديو آخر للمقاتل نفسه وهو يُجهِّز عدته وعتاده للتوجه إلى فلسطين أكثر من 1.7 مليون مشاهدة. لكن بعد مرور أيام طوال دون وصول أوامر التدخُّل، عاد الربيعي، الملقب بـ”أبو عزرائيل”، إلى العراق، وخرج في تسجيل صوتي ردا على الانتقادات والاستفسارات، وقال إن الدخول إلى المعركة ليس بالأمر السهل، وإنه يتطلب التنسيق مع حزب الله اللبناني.
عاد الربيعي إلى العراق، لكن الأسئلة ما زالت تَطرح نفسها هناك حيث كان، في الجنوب اللبناني المحاذي لغزة. فمنذ اشتعال المعارك، توجهت الأنظار إلى ما يُسمى بـ”محور المقاومة” بقيادة إيران، وهو المحور الذي طالما كان يردد أن القدس هي الهدف الرئيسي الذي يرمي الوصول إليه عاجلا أم آجلا. ولكن لفهم المشهد بدقة، وللاطلاع على طبيعة علاقة إيران بالقضية الفلسطينية وموقفها من دولة الاحتلال الإسرائيلي، علينا العودة إلى صفحات التاريخ، تحديدا إلى ما قبل قيام الثورة الإسلامية نهاية السبعينيات.
“الشاه يحب إسرائيل والخميني يكرهها”
تعود (1) العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية إلى عهد الشاه محمد رضا بهلوي الذي جلس على كرسي الحكم عام 1941، أي قبل 7 سنوات من تأسيس دولة الاحتلال. كان الشاه من أوائل مَن تحالفوا مع “إسرائيل” في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وانخرط في إستراتيجية رسمها “ديفيد بن غوريون”، أول رئيس لدولة الاحتلال، هدفت إلى مواجهة الدول العربية المتأثرة والمتحالفة مع الاتحاد السوفيتي عبر إنشاء تحالف يُحيط بالعالم العربي مع كل من تركيا وإيران، ومن هنا كان المحرّك الأساسي لعلاقات إيران المبكرة مع إسرائيل نابعا من قاعدة التوازنات الإقليمية.
وفقا لدراسة الباحث مصطفى اللباد بعنوان “إيران والقضية الفلسطينية.. مشاعر التضامن وحسابات المصالح” فقد وجدت (1) كلٌّ من إيران وإسرائيل ضالّتها في هذا التحالف، إذ إن الأخيرة سَعَت لتطويق الدول العربية المعادية لها، أما طهران فشعرت بالقلق من الاتحاد السوفيتي ومن تحالفه مع الدول العربية الكُبرى، خصوصا أن السوفييت أقدموا على احتلال مناطق في شمال إيران عام 1945، علاوة على تخوُّف إيران من العراق، التي توترت العلاقات معها بسبب نزاع حدودي حول منطقة شط العرب. ولذا، كان التحالف مع تل أبيب ضرورة جيوسياسية في نظر الشاه، وزاد من أهميتها وجود الولايات المتحدة راعية لهذا التقارب بين البلدين الأقرب للغرب في الشرق الأوسط آنذاك
تعود العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية إلى عهد الشاه محمد رضا بهلوي، فكان من أوائل من تحالفوا مع “إسرائيل” في خمسينيات وستينيات القرن الماضي (مواقع التواصل)
بقي التحالف محوريا للجانبين حتى عام 1967، عندما ألحقت إسرائيل الهزيمة بالجيوش العربية، ومنذئذ لم تعد تل أبيب في حاجة ماسة إلى إيران البهلوية، إذ أثبتت قوتها للجميع وبالأخص للولايات المتحدة، وكسرت شوكة المشروع القومي العربي الذي تزعَّمه الرئيس المصري جمال عبد الناصر. بدورها رأت إيران أن هذا التفاوت الكبير في ميزان القوى بين العرب والإسرائيليين صار يُشكِّل خطورة عليها، فخرج الشاه للتنيد باحتلال إسرائيل للأراضي العربية، مطالبا إياها بالعودة إلى حدود سنة 1967. في السياق نفسه، عملت إيران على تحسين علاقاتها بالعرب، وتحديدا مصر وسوريا، وأبدت حُسن النية عبر التصويت عدة مرات في الأمم المتحدة ضد دولة الاحتلال وممارساتها.
ثم جاءت حرب أكتوبر 1973، وتغيَّرت الحسابات الإيرانية من جديد. يشير اللباد إلى أنه رغم ما أظهرته حكومة الشاه من تعاطف مع العرب، وإرسالها إمدادات طبية للأردن مع السماح لطائرات النقل السوفيتية بالمرور عبر أجوائها، فإنها رفضت في الوقت نفسه الدخول في حلف منع تصدير النفط العربي للغرب، وذلك بسبب العلاقة المهمة التي ربطتها بواشنطن والأسواق الغربية. وبعد الحرب لعب الشاه دورا مهما في “اتفاقية كامب ديفيد” عام 1978 التي جمعت بين مصر برئاسة محمد أنور السادات وإسرائيل ممثلةً برئيس الوزراء مناحيم بيغن، مستفيدا من الاتفاقية لتحقيق وجود أكبر على المستوى الإقليمي. لكن مكاسب الشاه لم تدُم طويلا، إذ انهار نظامه بعد أشهر قليلة من الاتفاقية على يد الخميني ورفاقه.
جلب توجُّه الشاه البراغماتي مع إسرائيل انتقادات حادة من علماء الدين في إيران، الذين دعموا القضية الفلسطينية حتى قبل الإعلان عن قيام دولة الاحتلال. على سبيل المثال، دعا (3) آية الله “محمد حسين كاشف الغطاء” عام 1938 (أي قبل 10 سنوات من تأسيس دولة الاحتلال) إلى أن تكون الأراضي الفلسطينية أرض جهاد للعرب والمسلمين، مُفتِيا بخروج كل مَن يبيع الأراضي لليهود عن مِلَّة الإسلام، وبقيت هذه الروح حاضرة لدى معارضة نظام الشاه.
الدفاع عن فلسطين
“كيف نكون مسلمين ومسلمو فلسطين تحت ضغط الاستعمار الصهيوني، وفي كل لحظة تنصب فوق رؤوسهم قنابل النابالم، وآلاف المسلمين في السجون الإسرائيلية.. في حين يرسل يهود إيران مساعدات لإسرائيل”.
(الرئيس الإيراني السابق أكبر هاشمي رفسنجاني)
لم يكن تقارب الشاه مع دولة الاحتلال مسنودا بقبول شعبيّ عريض، إذ حضر الدفاع عن فلسطين وحقوق شعبها ضمن المطالب الثورية التي كانت ترفعها المعارضة الإيرانية في مظاهراتها ضد الشاه، وزادت حِدَّة هذا المطلب بعد وصول الدكتور “محمد مصدق” إلى رئاسة الوزراء في مطلع الخمسينيات، إذ طالب المحتجون بإنهاء العلاقة مع تل أبيب. وقد حاولت (4) الدول العربية حينها إغراء إيران بسحب اعترافها بالكيان المحتل، حيث وعَد مسؤولون عرب نظراءهم الإيرانيين بمساندتهم في حالة وصل الخلاف بين بلادهم وبريطانيا إلى الأمم المتحدة، كما يشير اللباد في دراسته.
محمد مصدق رئيس وزراء إيراني سابق في الخمسينيات (غيتي)
على إثر هذه التغيرات، أعاد رئيس الوزراء الإيراني سفير إيران في إسرائيل إلى البلاد مبررا ذلك بـ”سياسة التقشف” في الكلفة المالية، ثم بعد ذلك خرج حسين فاطمي الذي سيُعيَّن لاحقا وزيرا للخارجية في خطاب ضد إسرائيل في البرلمان الإيراني. كان هذا على المستوى السياسي، لكن اقتصاديا، كانت الصورة مختلفة، فقد ظلت العلاقات التجارية مستمرة بين البلدين، كما أبرم البنك الوطني الإيراني اتفاقا مع بنك لئومي الإسرائيلي في آخر فترات مصدق. ستعود العلاقات الإيرانية الإسرائيلية إلى بداياتها بعد أن أسقط الانقلاب الذي قادته الولايات المتحدة مصدق وحكومته فيما ُعرف بالعملية أجاكس، وأعاد الصلاحيات كاملةً إلى الشاه. بيد أن اختفاء مصدق من المشهد السياسي سرعان ما أفضى إلى ظهور معارض أشد شراسة، وهو آية الله الخميني.
حظيت القضية الفلسطينية باهتمام كبير من آية الله الخميني، زعيم الثورة الإسلامية في إيران فيما بعد، فقد اعتبر أثناء حرب 1967 أن العدو ليس إسرائيل وحدها، بل والولايات المتحدة والغرب جُملة واحدة، نتيجة دعمهم دولة الاحتلال، كما أصدر الخميني فتوى اعتبر فيها أن العلاقات مع إسرائيل وبيع الأسلحة والنفط لها “حرام شرعا ومخالفة صريحة للإسلام” (5). لقد نظر الخميني للوضع في فلسطين على أنه حرب دينية، ودلَّل على ذلك بجريمة إحراق المسجد الأقصى عام 1969. وبعد ثلاثة أعوام على الحادثة، وجَّه الخميني رسالة من النجف دعما للمجاهدين في فلسطين، كما أكَّد غير ما مرة أن الشاه وإسرائيل يقفان في صف واحد، وأن معاداة أحدهما تعني بالضرورة العداء للآخر.
وحينما جاءت الثورة الإيرانية، غيَّرت من موقع طهران في الشرق الأوسط جذريا. فما إن سقط الشاه وتولَّى الخميني مقاليد الحكم، حتى أعلنت (6) طهران جملة من الخطوات الإستراتيجية أهمها قطع العلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة، ومنح الفلسطينيين مقر السفارة الإسرائيلية السابق من أجل افتتاح سفارة لهم، كما كان الراحل “ياسر عرفات”، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، أول شخصية عالمية تزور إيران بعد نجاح الثورة للقاء الخميني وتهنئته على الانتصار، ثم أعلنت إيران آخر جمعة من شهر رمضان كل عام يوما “للقدس”، ما زالت تُحيي ذكراه حتى يومنا.
كان الرئيس الفلسطيني الراحل “ياسر عرفات”، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، أول شخصية عالمية تزور إيران بعد نجاح الثورة للقاء الخميني وتهنئته على الانتصار. (مواقع التواصل)
لم يطُل شهر العسل بين الخميني وعرفات طويلا، فبعد فترة من الاتصالات دبَّ الفتور في العلاقة بين منظمة التحرير وإيران، وليست هناك معلومات قاطعة عن الأسباب، إلا بعض التحليلات التي تناقلها (7) صحفيون مقربون من إيران، أفادت أن عرفات العروبي لم ينسجم مع التصور الإيراني للقضية الفلسطينية بوصفها إسلامية في المقام الأول، ولم يعُد مرتاحا لإعطاء إيران أوراق القضية بشكل يجعلها تحصد المكاسب الإقليمية التي تريد. ثم تعقّدت العلاقات أكثر عقب دعم عرفات لصدام حسين في حربه الطويلة مع إيران، فازدادت العلاقات برودا. وقد غابت إيران عن القضية الفلسطينية في فترة توقيع اتفاقية أوسلو، لكنها سرعان ما عادت بقوة في التسعينيات.
إيران والمقاومة الفلسطينية
بعد انتهاء حرب الخليج الثانية عام 1991، عملت الولايات المتحدة على رسم ما سمَّته بـ”خطة السلام في الشرق الأوسط”. بطبيعة الحال، أتت البداية بمحاولة الوصول إلى اتفاق مباشر يربط الفلسطينيين والإسرائيليين. لم تكن إيران متحمسة لهذا النوع من التسوية، وزاد هذا الأمر من تراجع العلاقة بين إيران ومنظمة التحرير الفلسطينية، في الوقت الذي ظهرت فيه حركات مقاومة جديدة ذات مرجعية إسلامية ممثلة في حماس والجهاد الإسلامي.
ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 لتضع ضغوطها الخاصة على إيران (8)، ما جعلها تتبع سياسة أكثر مرونة تجاه إسرائيل، ولذلك دعمت طهران مبادرة ولى العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز إبان مؤتمر القمة العربية في بيروت 2002. لكن هذه السياسة المرنة التي أوجدت موطئ قدم لإيران في المشهد الدولي لم تستمر طويلا، وسرعان ما عاد الأمر إلى التصعيد مع أميركا وإسرائيل بوصول “محمود أحمدي نجاد” إلى الرئاسة عام 2005. وقد حرصت إيران على تدعيم علاقتها مع فصائل المقاومة واستقبال قادتهم في طهران غير ما مرة، لكن الربيع العربي بعثر الأوراق مجددا، وهدد الدور المهم الذي حرصت إيران على لعبه فيما يخص القضية الفلسطينية.
أشار مشعل إلى أن الدعم الإيراني لا يؤثر إطلاقا في قرار حماس السياسي، وأن ما تناله إيران في المقابل فقط هو الاستفادة من رمزية دعم المقاومة الفلسطينية. (غيتي)
ورغم التوتر الكبير الذي أصاب العلاقة بين الطرفين، فقد بقيت قنوات الاتصال فاعلة في حدودها الدنيا دون قطع تام للعلاقات. وكما قال “حسن نصر الله”، الأمين العام لحزب الله اللبناني، إنه رغم غضب الأسد من موقف المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس، فإنه يوجد سعي حثيث لتقريب وجهات النظر وتجاوز الخلافات. وقد رأت طهران في دعمها للأسد ضرورة براغماتية وجيوسياسية، لكنها في الوقت نفسه لم ترغب في الانسحاب من المشهد الفلسطيني بأي ثمن، رغم قيامها بتقليل الدعم المادي والعسكري لحماس في أعقاب رفض الحركة الاستجابة لطلبات النظام السوري وخروج قياداتها من دمشق. وهو ما يقودنا للحديث عن التوازن الجيوسياسي الدقيق الذي يحكم موقف إيران من القضية الفلسطينية.
بداية، تعلم طهران أن لعب أي دور ريادي في القضية الفلسطينية يعني بالضرورة لعب دور كبير في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يتلاءم مع رغباتها وأهدافها الجيوسياسية الأوسع في إطار صراع القوى في الإقليم. ليس هذا فحسب، بل ستتمكن إيران أيضا من خلال دعم القضية الفلسطينية من تكوين منظومة تحالفات تربط طهران بالعراق وسوريا ثم لبنان واليمن، وأخيرا فلسطين المحتلة. وتعلم طهران أيضا أن تحقيق الشرعية في العالم الإسلامي لا يمكن أن يمر إلا من خلال القضية الفلسطينية، وهو ما يعني تجاوز العائق المذهبي في العالم الإسلامي ذي الأغلبية السُّنية.
ومع ذلك، لا يمكن تفسير مقاربة إيران للقضية الفلسطينية بالأهداف البراغماتية وحدها، وإن كانت محددا مهما، إذ إن فلسطين تُعَدُّ أحد الشعارات الكبرى للثورة الإيرانية التي قادها الخميني، التي ترى أن ما يحدث في الأراضي المقدسة أهم ما يجب أن يجذب نظر المسلمين في العالم، وأن “محو إسرائيل من خريطة الشرق الأوسط” هو “واجب إسلامي مقدس” يجب أن يتم عبر دعم المقاومة بالمال والسلاح والعتاد، ومن ثمَّ فإن التخلي عن القضية الفلسطينية يعني ببساطة نزع أهم أركان الشرعية عن النظام السياسي في إيران.
اعلان
على الجانب الآخر، وبالنسبة لقادة المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، فهم ينظرون إلى الدعم الدولي والإقليمي، كما جاء على لسان رئيس حركة حماس في الخارج خالد مشعل غير ما مرة في مقابلاته (10)، وفق قاعدة أنهم يرحِّبون بالدعم أيًّا كان مصدره، ويعدونه أمرا مهما للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني لكن بشرط ألا يمس هذا الدعم القرار السيادي للحركة واستقلالية توجهاتها على حد وصف مشعل. وتأتي إيران في هذا السياق باعتبارها داعما ماليا وعسكريا برز حضوره وتضخّم بسبب قلة الداعمين العرب على مستوى السلاح والتدريب العسكري تحديدا. وقد أشار مشعل إلى أن الدعم الإيراني لا يؤثر إطلاقا في قرار حماس السياسي، وأن ما تناله إيران في المقابل فقط هو الاستفادة من رمزية دعم المقاومة الفلسطينية، وهو أمر كان بإمكان بقية الدول العربية الاستثمار فيه والبناء عليه، وفق قوله.
نحو توسيع دائرة المواجهة
ترى الصمادي أن طهران عملت طيلة عقود على بناء شبكة من العلاقات الإقليمية بهدف تدعيم نفوذها خارج حدودها، وقد سمحت هذه الاستراتيجية لإيران ميزة التحالف مع جماعات تفوق قوتها قوة الدولة المركزية نفسها، كما هو حال حزب الله في لبنان. (الصورة: الفرنسية)
تشير (11) الباحثة فاطمة الصمادي في دراسة لها تحمل عنوان “طوفان الأقصى: حماس والفسيفساء الدفاعية الإيرانية: مَن يخدم مَن؟” إلى حوار صحفي مع “مجتبى ذو النوري”، القيادي في الحرس الثوري، تحدث فيه عام 2010 عن التهديد المحتمل الذي تعيشه إيران في حال قررت الولايات المتحدة وإسرائيل الهجوم عليها. وكان رد القيادي الإيراني على هذا السؤال بالقول: “ستتحول البلاد بأكملها إلى منطقة عمليات بطريقة فسيفسائية، بحيث لا يبقى للعدو حتى نقطة آمنة في قلب الصحراء.. كما أن أيًّا من القواعد الأميركية والإسرائيلية الـ32 في المنطقة لن تكون في مأمن من الصواريخ الإيرانية.. وستكون مصالحهم مهددة ومعرضة للخطر في عشرات الدول حول العالم في الوقت نفسه”.
لا تُعَدُّ إيران مجرد بلد ونظام سياسي بالمعنى التقليدي للكلمة، فهي تتجاوز ذلك إلى ما يشبه “الفيسيفاء” العسكرية والسياسية، التي تجعل أي مواجهة مع الغرب مواجهة مع مجموعة وحدات مستقلة نسبيا، وقوات صغيرة وخفيفة التنقل. عملت طهران طيلة عقود على بناء شبكة من العلاقات الإقليمية بهدف تدعيم نفوذها خارج حدودها، وذلك لتحقيق أهدافها المعلنة التي هي الوحدة الإسلامية، وامتلاك عمق إستراتيجي. وقد سمحت هذه الإستراتيجية لإيران بتوسيع المساحة الرمادية الغامضة التي تستثمر فيها قوتها، كما منحتها ميزة التحالف مع جماعات تفوق قوتها قوة الدولة المركزية نفسها، كما هو حال حزب الله في لبنان، كما تشير الصمادي.
قطعا لا يمكن بحال مقارنة العلاقة بين الفصائل الفلسطينية وإيران بعلاقة طهران مع حزب الله اللبناني أو الحوثيين في اليمن أو الحشد الشعبي العراقي، لأنها (المقاومة الفلسطينية) مختلفة وأكثر استقلالية في منطلقاتها الفكرية ورؤاها الإستراتيجية. لكن إيران تتفق مع هذه الفصائل حول هدف أوسع، وهو إنهاك إسرائيل، وفي حال أظهرت فصائل فلسطينية أخرى قدرة كقدرة هذه الفصائل على مجابهة جيش الاحتلال عسكريا، فلن تتخلف طهران عن دعمها في الغالب أيًّا كان خطها الأيديولوجي. فقد قبلت إيران تقديم دعم واضح للمقاومة الفلسطينية حتى مع رفض (12) الأخيرة لأي دعم مشروط، إذ سبق أن رفضت حماس عروض دعم مشروطة بمواقف معينة قُدمت لها من دول أخرى.
يمكن فهم موقف الجانب الإيراني من خلال ما صرَّح به “مجتبى أبطحي”، معاون رئيس مجلس الشورى الإيراني، قائلا (13): “عندما اتخذ الإخوة في حماس موقفا مما حدث في سوريا، وأقصد السيد خالد مشعل والسيد أبو مرزوق، قلنا لهم: إن علاقتنا معكم من أجل فلسطين، وإن لم تقفوا معنا في هذه المرحلة فيما يتعلق بسوريا فلن نقطع العلاقة معكم، وقد بقي مكتب حماس في طهران، ويمكن أن تسألوا الحركة عن ذلك. ومن جانبنا، لدينا تعليمات واضحة من القائد الأعلى، السيد خامنئي، بعدم ممارسة أي ضغوط على الإخوة سواء في حزب الله أو حماس.. نحن نضع جميع القضايا في خدمة القضية الفلسطينية، وهو ما يشدد عليه السيد خامنئي”.
طوفان الأقصى.. هل تدخل إيران المعركة؟
في كلمة ألقاها أثناء حفل تخرج ضباط بكلية عسكرية إيرانية وبثها التلفزيون الإيراني الرسمي، وصف (14) “آية الله خامنئي”، المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، ما حدث يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول بـ”الزلزال المدمر الذي يجب تقبيل أيادي مَن خططوا له”. ومع تصاعد الأحداث، وشن إسرائيل ما يصفه مراقبون بحرب إبادة بكل ما تحمله الكلمة من معنى على قطاع غزة، بدأت إيران التلميح إلى إمكانية التدخل، حيث أرسلت رسالة إلى إسرائيل عبر الأمم المتحدة تقول إنه سيتعيّن عليها التدخل في حال استمرت الهجمات على غزة، وهو ما عبَّر (15) عنه “حسين أمير عبد اللهيان”، وزير الخارجية الإيراني في لقاء مع مبعوث الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط، قائلا إن إيران غير مهتمة بتحويل الصراع في غزة إلى حرب إقليمية، لكن في حال واصلت إسرائيل حربها على القطاع فإنها ستتدخل.
هنا يأتي السؤال: كيف سيكون شكل هذا التدخل؟ والإجابة فيمكن استقراؤها من تصريحات عبد اللهيان التي ألمحت أن رد “المقاومة” سيأتي بشكل غير مباشر، سواء من خلال الميليشيات في سوريا والعراق، أو لبنان (16). بسبب هذه الإستراتيجية، اهتم العالم بأسره بخطاب حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، الذي سبقته مجموعة من الإعلانات التشويقية التي لمَّحت إلى مسألة التدخل العسكري في الحرب الدائرة حاليا في فلسطين. لكن الخطاب أتى ليؤكد الأُطر ذاتها التي حوتها التصريحات الإيرانية، وهي أن توسيع دائرة النار وارد للغاية إذا لم تتوقف إسرائيل عن مجازرها، وأن الحزب لن يسمح بالقضاء على حركة حماس، وأنه -أي الحزب- مشارك في القتال على جبهة الشمال منذ بداية الحرب.
اعلان
اختلفت ردود الفعل حول خطاب نصر الله، لكن الفكرة الواضحة هي أن إيران لم تقرر بعد الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل. ورغم مطالب بعض قواعد حزب الله والحشد الشعبي العراقي بإعطاء الضوء الأخضر للتحرك ضد دولة الاحتلال، فالأمور تبدو أكثر تعقيدا في طهران، وبالأخص مع تحرك الأساطيل الأميركية لتأمين إسرائيل من أي هجوم خارجي. لا يمكن لأحد أن يتكهّن أبدا بما سيحدث في قادم الأيام بعد شهر من بداية المعارك، لكنَّ شيئا واحدا يبدو مؤكدا، وهو أن أي تحرك إيراني واسع قد يُشعِل حربا إقليمية كاملة، وهي حرب يبدو صانع القرار الإيراني ما زال يحسب عواقبها وأبعادها وتأثيراتها على نظامه، وعلى شكل المنطقة والنظام الدولي في المستقبل.