تشير الدلائل إلى أن الجيش الصهيوني، عند نهاية هذا العام 2023، سوف يغير مجرى العدوان الذي شنّه على قطاع غزة وينتقل إلى طور جديد في حربه. فبعد مرحلة أولى تمهيدية من القصف الجنوني المركّز أعقبت عملية «طوفان الأقصى» تلت مرحلة ثانية من الاجتياح البرّي استهدفت شمال القطاع، ثم مرحلة ثالثة انتقل فيها الاجتياح إلى جنوب القطاع مع التركيز على خان يونس واستثناء رفح نسبياً، كي تكون هذه الأخيرة ملاذاً للغزاويين والغزاويات إلى أن يقرر القادة الصهاينة في ضوء المعطيات الميدانية والدولية أي مصير يسعون إلى فرضه على القطاع المنكوب.
وقد كان واضحاً منذ البداية إزاء العدوان الراهن ما أشرنا إليه على هذه الصفحات، عشرة أيام قبل بدء الاجتياح البرّي، عندما أكدنا على أن مصير القطاع «ستحدده السرعة التي يستطيع بها الجيش الصهيوني التقدّم في الاستيلاء على القطاع مقابل الضغط الدولي الذي سوف يتصاعد كلّما زاد طغيان مشاهد ما يحلّ بأهل غزّة…» («غزّة… بين فصل النكبة الثاني وإحياء أسطورة أوسلو» «القدس العربي» 17/10/2023). وقد دامت مرحلة القصف التمهيدي ثلاثة أسابيع لسببين، أولهما البغتة التي أصابت القيادة العسكرية الصهيونية التي لم تكن مهيأة لحرب اجتياح كالتي تَقرَّر شنُّها رداً على «طوفان الأقصى» وقد احتاجت بالتالي إلى استعداد وتخطيط جديدين للعدوان الراهن. أما السبب الثاني فهو أن الجيش الإسرائيلي بات جيشاً جباناً («ما بعد البطولي» على حد تعبير أحد كبار المعلقين العسكريين الإسرائيليين) على غرار معظم جيوش الدول الغنية، لاسيما أنه يواجه مقاومة لا يردعها رادع. لذا يسعى جيش الاحتلال إلى خوض الحروب بأدنى كلفة بشرية ممكنة في صفوفه، وذلك من خلال استخدام مكثّف جداً لوسائط الحرب الموجّهة من بُعد.
سوف يضطر جيش الاحتلال إلى وقف الاجتياح والقصف الكثيف بعد بضعة أيام من الآن، والانتقال إلى مرحلة رابعة تكون الغاية منها إحكام السيطرة على معظم أراضي القطاع التي وقعت تحت هيمنته
أما نتيجة هذا العامل الأخير عندما يتعلق الأمر باجتياح مناطق مدينية كما الحال في غزة، فهي كثافة تدميرية هائلة وكلفة باهظة بأرواح السكان المدنيين، أخذت في العدوان الراهن طابع حرب إبادة أسفرت حتى الآن عن سقوط حوالي عشرين ألف قتيل فلسطيني أغلبيتهم الساحقة من المدنيين، فضلاً عن بضعة آلاف من المفقودين تحت الأنقاض. ولم يسقط للجيش الإسرائيلي مقابل ذلك سوى حوالي 125 قتيلاً من الجنود حسب مصادره. وحتى لو زاد رقم الخسائر الإسرائيلية عن العدد الرسمي الراهن، لاسيما أن عدد الجرحى أكبر بكثير من عدد القتلى وبينهم العديد من الإصابات الخطيرة، فإن الأمر ذاته ينطبق على الجرحى الفلسطينيين، ناهيكم من عدد الضحايا غير المباشرة للعدوان والحصار القاتل الذي يرافقه. لذا تبقى هذه الحرب حالة قياسية في تاريخ الحروب من حيث عدم تناسب الأموات لدى طرفيها، أقرب ما تكون إلى استخدام وحيد الجانب لسلاح دمار شامل على منطقة مأهولة.
وقد تمكن الجيش الصهيوني من أن يستولي على القسم الأعظم من شطر القطاع الشمالي إثر تدمير معظم مبانيه وتهجير معظم أهاليه وقتل نسبة مرعبة منهم، وهو يركّز جهده الآن على إحكام سيطرته على شطر غزة الجنوبي بشماله وشرقه على الأخص. هذا بينما يتصاعد الاحتجاج الدولي على حجم القتل والتدمير اللذين ارتكبهما الجيش الصهيوني، ويَضعف تدريجياً التعاطف مع الإسرائيليين والإسرائيليات الذي عقب «طوفان الأقصى» على الرغم من المساعي المبذولة لإعادة تسعيره بشتى أساليب الدعاية. وقد أدى الأمر كما كان متوقعاً إلى تصاعد الضغط الدولي على الدولة الصهيونية كي تضع حداً لعمليات القتل والتدمير واسعي النطاق، وشمل هذا الضغط الطرف الوحيد الذي لا تستطيع إسرائيل تجاهل موقفه، ألا وهو الولايات المتحدة، شريكتها في العدوان على غزة التي لولا دعمها العسكري والسياسي لما كان في إمكان إسرائيل خوض عدوان بمثل هذه الكثافة ممتداً على مثل هذه المدة من الزمن.
لذا، سوف يضطر جيش الاحتلال إلى وقف الاجتياح والقصف الكثيف بعد بضعة أيام من الآن، والانتقال إلى مرحلة رابعة تكون الغاية منها إحكام السيطرة على معظم أراضي القطاع التي وقعت تحت هيمنته، وذلك من خلال «حرب متدنية الشدة» تهدف إلى استئصال من بقي في هذه المناطق من مقاومين وتدمير ما لا يزال تحت سطح الأرض فيها من شبكة أنفاق. وتدرك إسرائيل أن الولايات المتحدة وسائر الدول الغربية سوف تواصل دعمها لها في هذه المرحلة الرابعة إذا انتقلت إلى «حرب متدنية الشدة» وذلك بناء على تأييد حكام تلك الدول منذ البداية لهدف استئصال «حماس» التي أخذوا يشبهونها بتنظيم داعش منذ «طوفان الأقصى». أما الغاية الأبعد، التي ترتهن بها طبيعة المرحلة الخامسة التي ستعقب، فسوف يحددها بدورها مدى نجاح الجيش الصهيوني في إحكام سيطرته على الأراضي التي استولى عليها وقدرة إسرائيل على مواصلة تنفيذ «النكبة الثانية» من خلال الحؤول دون عودة قسم كبير من السكان الفلسطينيين إلى تلك الأراضي بحيث لا تتحول من جديد إلى بؤر مقاومة تُنهك جيش الاحتلال.
وقد باتت الآفاق من وجهة النظر الإسرائيلية تتراوح بين سيناريو أقصى اليمين الصهيوني الذي يدعو إلى الاستيلاء النهائي على القطاع مع تطوير الاستعمار الاستيطاني فيه، والسيناريو الذي يفرضه ميزان القوى على قيادة الدولة الصهيونية وهو يقوم على ما يمكن أن نصفه بأنه تكرارٌ لمعطيات الضفة الغربية في قطاع غزة. هذا معناه أن يسيطر الجيش الصهيوني على حزام استراتيجي عريض داخل القطاع على امتداد حدوده، على غرار سيطرته على وادي الأردن، ويحتفظ بمواقع أخرى عازلة بين المناطق المأهولة بغية إتاحة الفرصة أمام قيام حركة استيطانية على غرار تلك القائمة في «المنطقة ج» في الضفة، بينما يتم إيلاء الحكم المباشر في باقي أراضي القطاع إلى جماعة فلسطينية لا يزال ثمة خلافٌ على هويتها بين الحكومة الإسرائيلية من جهة، وواشنطن وحلفائها من الجهة الأخرى.
ذلك أن إدارة بايدن تودّ إعادة تسليم الحكم في قطاع غزة إلى «سلطة» رام الله، بعد «إعادة إحيائها» على حد قول الرئيس الأمريكي (أما كيف يتم ذلك، فهو أمرٌ ما يزال مبهماً للجميع بمن فيهم بايدن عينه وإدارته) بينما يرفض ذلك نتنياهو وحلفاؤه في أقصى اليمين الصهيوني، الذين يأبون قيام سلطة واحدة في الضفة والقطاع كي لا يجري الضغط عليهم في سبيل فسح المجال أمام إعلان «دولة فلسطينية» على الرغم من أن مثل هذه الدولة لو قامت لا يمكن أن تتعدّى في الحقيقة حالة دويلة منزوعة السيادة في الأمور الأساسية وبالتالي استمراراً للاحتلال من حيث الجوهر.