تاريخياً لا تلعب الأزمات والشؤون الخارجية دوراً مؤثراً في حسم الفوز بانتخابات الرئاسة الأمريكية، ما لم تكن أمريكا تخوض حربا مكلفة، كفيتنام وأفغانستان والعراق، التي تسببت بخسارة الرئيس والحزب في السلطة! وساهمت بخسارة مرشحي الحزب الجمهوري للرئاسة جون ماكين عام 2008 ضد باراك أوباما، والسناتور مِيت رومني عام 2012 ضد باراك أوباما أيضاً. ضحيتان لكلفة حروب بوش الابن الاستباقية الكارثية ودفع حزبه ثمن حساباته الخاطئة والمكلفة!
القضايا الداخلية هي التي تحسم انتخابات الرئاسة الأمريكية: الاقتصاد ـ الضرائب ـ التوظيف ـ الصحة ـ الإجهاض ـ التعليم والهجرة. وهذا ما نشهده اليوم تمهيدا لانتخابات نوفمبر القادم بين الرئيس بايدن الطامح لرئاسة ثانية، وترامب بعد انتزاعه ترشيح حزبه الجمهوري. وذلك برغم حصاره وتوجيه القضاء الأمريكي 88 تهمة جنائية ومدنية، فيما يفشل بتأجيلها بشتى الطرق خشية إدانته وقطع الطريق لاستعادته الرئاسة، إذا حوكم وأدين وقد يُسجن!
تشكل جماعة الإنجيليين المتشددين الداعم والعامود الفقري لقاعدة ترامب الانتخابية ـ لإيمانهم بحكومات اليمين المتشدد وحكومة نتنياهو التي ترتكب جرائم حرب للشهر السابع على التوالي.
بناء على هذه العقيدة المترسخة لدى المحافظين الإنجيليين الأمريكيين، يرون أن من واجبهم دعم المرشحين اليمينيين في الحزب الجمهوري ـ لأنهم يشاركونهم تلك العقيدة، ولتسريع وقوع تلك المواجهة الأخيرة، لذلك يوظف ويستغل عدد من المرشحين الجمهوريين هوس المسيحيين المتطرفين للتكسب السياسي والوصول للسلطة بدعم إسرائيل. وعلى رأسهم دونالد ترامب الذي قدم أكبر تنازلات لإسرائيل في رئاسته بالاعتراف بالقدس عاصمة أبدية ونقل السفارة الأمريكية للقدس والاعتراف بالجولان السوري المحتل ضمن أراضيها!
دأب ترامب منذ ترشحه للرئاسة عام 2015 ـ بتكرار دعمه المطلق لحقوق إسرائيل. ويفاخر أنه الرئيس الأمريكي الأكثر دعماً، وأنه قدم لإسرائيل أكثر من أي رئيس أمريكي آخر! أبرز هذا الدعم اعترافه بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل ـ ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس عام 2018. واعترافه بالجولان السوري المحتل جزءا من إسرائيل، ودعم بناء وتوسيع المستوطنات غير الشرعية.
بعد تهديد وتلويح بايدن بوقف إمدادات السلاح، تجرأ ترامب بشن هجوم لاذع على بايدن واتهمه بفشل إدارة الحرب على حماس
والواقع أن جميع تلك المواقف تشكل مخالفة صريحة للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن وخاصة قراري 242 و338-اللذين يؤكدان: القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة والجولان مناطق محتلة وتخضع لمفاوضات الوضع النهائي، والقدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين. كما يفاخر ترامب بأنه من رعى وقدم مبادرة «الاتفاق الإبراهيمي» ـ لدمج إسرائيل في محيطها العربي ـ بتوقيع اتفاقيات وإقامة علاقات دبلوماسية وتبادلات تجارية واستثمارية وسياحية واسعة عام 2020 في سنة ترامب الأخيرة في البيت الأبيض، خاصة مع دولة الإمارات العربية المتحدة. وتم الترويج والتوقيع للاتفاق الإبراهيمي بإشراف الثلاثي: جاريد كوشنير اليهودي الملتزم ـ مستشار ترامب ـ وزوج ابنته ايفانكا التي اعتنقت اليهودية، ومبعوثه لعملية السلام اليهودي جيسون غيرنبلات وسفيره في إسرائيل اليهودي جورج فريدمان.
بتحقيق اختراق تاريخي وإقامة علاقات دبلوماسية مع دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين ولاحقاً مع السودان والمغرب. في مخالفة واضحة للمبادرة للسلام العربية التي اُعتمدت في القمة العربية في بيروت عام 2002 ـ التي تؤكد بإجماع عربي للمرة الأولى: الانسحاب الإسرائيلي العسكري الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة بما فيها القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السوري المحتل ومزارع شبعا في جنوب لبنان، وإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967 ـ وعاصمتها القدس الشرقية، مقابل اعتراف الدول العربية جماعياً بإسرائيل. أكسب ذلك كله، ترامب ثقة الصهاينة واللوبي الأمريكي ـ الإسرائيلي ـ AIPAC ـ الأكثر نفوذا وتأثيراً في دعم المرشحين للمناصب العليا في الرئاسة والكونغرس وحتى على مستوى المناصب العليا على كونغرس الولايات.
تقليدياً أغلبية الناخبين اليهود الأمريكيين هم ليبراليون، ويصوتون لمرشحي الحزب الديمقراطي. حوالي 70في المئة صوتوا لهيلاري كلينتون ضد ترامب عام 2016-و60٪ صوتوا لبايدن مقابل 40٪ لترامب عام 2020. بينما يؤكد استطلاع رأي قبل عام ـ 66٪ من الناخبين اليهود يدعمون بايدن مقابل حوالي الثلث يدعمون ترامب. بينما تدعم غالبية الناخبين اليهود الأرثوذكس المتشددين ترامب ضمن قاعدته الرئيسية.
لكن موقف بايدن من حرب غزة وبدء هجومه وانتقاده الناعم لنتنياهو وحكومته اليمينية الأكثر تطرفاً ـ تزامناً مع استمرار ارتفاع حدة الضغط الكبير من الجناح التقدمي من حزب بايدن الديمقراطي والناشطين والناخبين العرب والمسلمين وتراجع شعبيته بسبب حجم الكارثة الإنسانية والحصار وتفشي المجاعة والوضع الإنساني ومنع دخول المساعدات ومقتل 7 متطوعي أجانب ـ عمال إغاثة (المطبخ المركزي العالمي) ومعارضة بايدن شن حرب برية على رفح قبل تأمين المدنيين والتلويح باستخدام السلاح لإجبار نتنياهو على وقف إطلاق النار. بينما يصر نتنياهو على رفض الانصياع لمطالب بايدن وقيادات إدارته. ويصر على تحدي وإهانة بايدن علناً برفض مطالبه، ووقف الإبادة والعقاب الجماعي في رمضان والعيد، وزيادة المساعدات! يؤدي لتراجع شعبية بايدن بشكل عام عند الناخبين اليهود.
بعد تهديد وتلويح بايدن بوقف إمدادات السلاح، تجرأ ترامب بشن هجوم لاذع على بايدن واتهمه بفشل إدارة الحرب على حماس، بالتخلي عن إسرائيل. وعلّق ترامب متهكماً «يجب فحص عقل أي ناخب يهودي يصوّت للديمقراطيين وبايدن»!
بايدن في ورطة حقيقية من صنعه، وهو بين نارين: الجناح التقدمي والناشطين والناخبين العرب والمسلمين من جهة واللوبي الأمريكي ـ الإسرائيلي والناخبين اليهود الأرثوذكس وجناح ترامب الجمهوري من جهة ثانية! بينما يستمر النزف والشهداء ومعاناة سكان غزة النازفين والنازحين والجائعين! ما قد يكلف بايدن الكثير!!