أذربيجان تزاحم أرمينيا على شراكة روسيا في جنوب القوقاز

أذربيجان تزاحم أرمينيا على شراكة روسيا في جنوب القوقاز

بعد انسحاب قوات حفظ السلام الروسية من الجيب الأرميني سابقاً، ناغورنو كاراباخ، في أذربيجان، والذي أحكمت باكو السيطرة عليه في سبتمبر/أيلول الماضي، تتجلى شيئاً فشيئاً ملامح الدور الروسي الجديد في منطقة جنوب القوقاز وسط ترجيحات بتحول أذربيجان إلى شريك موسكو الرئيسي في المنطقة. وفي الوقت الذي أصدرت فيه باكو مجموعة من الإشارات الإيجابية لموسكو بعد انسحاب قواتها من كاراباخ (أعلن الكرملين عن الانسحاب في 17 إبريل/نيسان الماضي)، بما فيها قيام الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف بزيارة إلى العاصمة الروسية ثم تأكيده رفض تزويد أوكرانيا بالأسلحة، إلا أن ثمة تساؤلات حول حدود الشراكة بين البلدين في ظل انحياز أذربيجان سياسياً لكييف ودعمها وحدة الأراضي الأوكرانية.

ومن اللافت أن زيارة علييف إلى موسكو في 22 إبريل الماضي، تزامنت مع ذكرى مرور 50 عاماً على بدء بناء خط السكة الحديدية بايكال – آمور تحت إشراف والده، الرئيس الأذربيجاني الراحل حيدر علييف (وهو الخط الذي بناه الاتحاد السوفييتي ويمتد من سيبيريا الشرقية إلى الشرق الأقصى الروسي)، وانسحاب قوات حفظ السلام الروسية من كاراباخ، وبدء عملية ترسيم الحدود الأرمينية الأذربيجانية وفقاً لـ”بيان ألما آتا حول أهداف ومبادئ رابطة الدول المستقلة لعام 1991″.

أندريه أريشيف: لن يشكل موقف باكو من الملف الأوكراني عقبة أمام تطوير العلاقات مع موسكو

يذكر أن رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف، أعلن أول من أمس، أن بلاده ستستضيف مفاوضات “اتفاق السلام” بين أذربيجان وأرمينيا، في مدينة ألماتي، مرحباً عبر منصة “إكس”، بالتوافق بين البلدين بشأن إجراء مفاوضات على مستوى وزراء الخارجية بشأن إعداد اتفاق سلام بين البلدين. وقال إن “هذا الاجتماع المهم سيعقد في ألماتي، ولهذا يحمل رمزية نسبة إلى إعلان ألما آتا التاريخي الذي وقع في ديسمبر/كانون الأول 1991، الذي يشكل أساس التنمية المستقلة لبلدان رابطة الدول المستقلة والمبادئ المتعلقة بتحديد الحدود بين البلدان الأعضاء”.

أرمينيا وأذربيجان
زوايا
أرمينيا وأذربيجان .. كأنها حربٌ عربية
ومنذ توليه الرئاسة في أذربيجان في عام 2003، زار علييف روسيا أكثر من 50 مرة، وكانت أغلب الزيارات متعلقة بالفعاليات في إطار رابطة الدول المستقلة وتسوية النزاع الأرميني الأذربيجاني، ناهيك عن إجرائه اتصالات هاتفية منتظمة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. وفي فبراير/شباط ومارس/آذار الماضيين، تبادل علييف وبوتين التهاني بمناسبة فوزيهما في الانتخابات الرئاسية. وفي نهاية مارس، أعرب علييف لبوتين عن تعازيه على خلفية الهجوم الإرهابي على قاعة العروض “كروكوس سيتي هول” على أطراف موسكو. وفي موازاة تطور العلاقات الروسية الأذربيجانية، تشهد الاتصالات بين موسكو ويريفان حالة من الجمود، وسط غياب أرمينيا عن اجتماع أمني رفيع عُقد في سانت بطرسبرغ في نهاية الأسبوع الماضي، وحظر بثّ عدد من البرامج التلفزيونية الروسية في أرمينيا، وسط ترقب ما إذا كان رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، سيحضر إلى موسكو للمشاركة في قمة الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في 8 مايو/أيار الحالي.

تقارب متوقع بين روسيا وأذربيجان
واعتبر المحلل السياسي المتخصص في شؤون جنوب القوقاز، أندريه أريشيف، أن التقارب الروسي الأذربيجاني الأخير لا يشكل مفاجأة من العيار الثقيل، بل يأتي امتداداً لتوجهات سائدة منذ فترة طويلة، متوقعاً ألا يشكل موقف باكو من الملف الأوكراني عقبة أمام تطوير العلاقات مع موسكو. وقال أريشيف في حديث لـ”العربي الجديد”: “لا يمكن وصف التقارب الروسي الأذربيجاني بأنه مفاجئ، بل هو امتداد خرج إلى العلن لتوجه سائد منذ فترة طويلة، وهو مدعوم بأسس أيديولوجية متعلقة بتوجه أرمينيا نحو التكامل مع العالم التركي وخسارتها إقليم كاراباخ”. وفي معرض حديثه عن آفاق تطور العلاقات الروسية الأذربيجانية، اعتبر المحلّل السياسي أن باكو قد تؤدي مجتمعة مع حليفتها الرئيسية أنقرة دوراً في إيصال موارد الطاقة الروسية إلى أوروبا والالتفاف على العقوبات الغربية، مقرّاً في الوقت ذاته بأن أذربيجان تتبنى على مستوى رسمي مواقف منحازة انحيازاً صريحاً لأوكرانيا.

كيريل سيميونوف: أرمينيا لا تزال ضمن مجال المصالح الروسية، والحديث عن قطيعة نهائية بينهما سابق لأوانه

ومع ذلك، جزم أريشيف بأن مواقف باكو أكثر براغماتية مقارنة مع يريفان التي قد أفسدت علاقاتها مع موسكو وقد تدفع فاتورة كبيرة مقابل تحسن العلاقات مع تركيا وأذربيجان. وبرأيه، فإن أرمينيا “تعيش حالة من الانقسام الداخلي حيال هذه المسألة، وقد تشهد موجة من الهجرة، وتراجع الصلات مع جالياتها في الخارج التي تندد بمواقف السلطات الحالية في الداخل”.

بدوره، رأى الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، كيريل سيميونوف، أن العلاقات بين روسيا وأرمينيا لم تصل إلى مرحلة القطيعة، مقرّاً في الوقت ذاته بأن الشراكة مع أذربيجان باتت تتصدر الأجندة. وقال سيميونوف في حديث لـ”العربي الجديد”: “تسعى روسيا للحفاظ على مواقعها في جنوب القوقاز، وإن كانت تركز على أوكرانيا في الفترة الأخيرة، وأصبح تطوير العلاقات مع أذربيجان تحديداً يتصدر الأجندة سعياً من موسكو لتعويض الخسائر الناجمة عن توجه باشينيان غرباً”. رغم ذلك، أكد أن أرمينيا لا تزال تقع ضمن مجال المصالح الروسية، خالصاً إلى أن الحديث عن القطيعة النهائية بين موسكو ويريفان سابق لأوانه.

موقف أذربيجان من حرب أوكرانيا
بعد أيام على زيارته إلى موسكو، جدّد علييف في نهاية إبريل الماضي، تأكيده أن أذربيجان لم ولن تورد أسلحة إلى أوكرانيا. وقال حول ذلك: “رغم أنهم يطلبون منا، إلا أننا لا نستطيع”. وأضاف الرئيس الأذربيجاني خلال لقائه مع مشاركين في منتدى بيئي: “نعم للمساعدات الإنسانية، لا للأسلحة”. وقدّر المساعدات الإنسانية والمالية المقدمة من بلاده لكييف بأكثر من 30 مليون يورو، إذ تشارك باكو في إعادة إعمار مدينة إربين الواقعة في مقاطعة كييف والتي تقطنها جالية أذربيجانية كبيرة كما تقوم بإعادة إعمار كثير من منشآت البنية التحتية الاجتماعية. ووصف علييف الحرب في أوكرانيا بأنها مأساة كبيرة كان يمكن تجنبها لشعبين قريبين أحدهما من الآخر من وجهتي النظر الإثنية والدينية، متسائلا: “هل كانت لدى القادة الأوكرانيين في السنوات السابقة فرصة لبناء علاقات طبيعية مع روسيا؟ أثق في أنه كانت”. ومع ذلك، أكد أن باكو تدعم وحدة الأراضي الأوكرانية، وأن هذا الموقف لا يتم إخفاؤه، ويجب ألا يؤثر على العلاقات مع روسيا، موضحاً أن موقف بلاده يستند إلى المصالح الوطنية.

دميتري دريزه: موسكو تفقد دورها في التسوية الأرمينية الأذربيجانية، فيما تسعى دول غربية للحلّ محلها

ومن اللافت أن أذربيجان كانت من بين الدول التي ندّدت بتنظيم روسيا انتخابات في المقاطعات الأوكرانية الأربع، دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون، التي ضمتها موسكو بشكل أحادي الجانب في سبتمبر/أيلول 2022، دون أن يؤثر ذلك على تطور العلاقات مع روسيا. وفي صيف عام 2022، نشرت وزارة الدفاع الأوكرانية مقاطع فيديو ظهرت فيها مدافع هاون أذربيجانية الصنع من عيار 82 ملليمتراً. حينها، أكدت وزارة الدفاع الأذربيجانية أن مثل هذه الأسلحة يتم توريدها إلى العراق وغيره من بلدان الشرق الأوسط، مشككة في أن قطعا منها قد تكون سلّمت لأوكرانيا خلافاً للترخيص.

تراجع نفوذ روسيا في جنوب القوقاز
على الرغم مما تبدو مباركة روسية لإحكام باكو السيطرة على كاراباخ في سبتمبر الماضي، إلا أن ثمة قراءات على مستوى الإعلام والمحلّلين السياسيين في موسكو تؤكد أن انسحاب قوات حفظ السلام الروسية جاء بمثابة “طي صفحة أخرى” لتراجع النفوذ الروسي في المنطقة (كانت روسيا نشرت قواتها في إقليم ناغورنو كاراباخ في خريف عام 2020).

ولفت المحرر السياسي في إذاعة “كوميرسانت إف أم”، دميتري دريزه، إلى أن موسكو وباكو اتخذتا هذا القرار على ضوء انتهاء النزاع وانعدام ضرورة الفصل بين الأطراف المتناحرة وحمايتها. وفي ما يتعلق بتوجيه يريفان الرسمية الممثلة بباشينيان اتهامات إلى القوات الروسية بلعب دور في خسارة بلاده لكاراباخ، وتخاذلها عن الفصل بين الطرفين، اعتبر دريزه أن روسيا يمكنها الرد على ذلك بالقول: “لقد اعترفتم أنتم بأن كاراباخ أذرية، فعلى ماذا تعترضون؟”. ومع ذلك، أقرّ المحرّر السياسي، بأن الانسحاب الروسي تمخض عنه واقع جديد، حيث إن وجود قوات مسلحة في الخارج هو المؤشر الرئيسي لنفوذ أي دولة خارج حدودها، معتبراً أن موسكو تفقد دورها في التسوية الأرمينية الأذربيجانية، فيما تسعى الدول الغربية “غير الصديقة” للحلول محلها.

وكان المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، قد أكد في 17 إبريل الماضي، بدء انسحاب وحدات قوات حفظ السلام الروسية من أراضي جمهورية ناغورنو كاراباخ السابقة. وظلت القوات الروسية مرابطة في كاراباخ وفقا للبيان الثلاثي لباكو ويريفان وموسكو بتاريخ 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وذلك على امتداد خط التماس في كاراباخ وممر لاشين الرابط مع أرمينيا. ونص الاتفاق حينها على إرسال 1960 عسكريا مزودا بالأسلحة النارية و90 عربة مدرعة و380 وحدة من السيارات والمعدات الخاصة إلى هناك، على أن يستمر وجود قوات حفظ السلام هناك حتى عام 2025، قبل أن يتم إنهاؤه مبكرا. ونفّذت أذربيجان في سبتمبر 2023 عملية عسكرية في كاراباخ أسفرت عن دمج الإقليم ضمن البلاد. وعلى أثر ذلك، غادر المنطقة أكثر من 100 ألف من الأرمن، ما ترتب عليه انتفاء الضرورة لاستمرار وجود القوات الروسية.