عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، كسر المصريون حاجز الصمت وأصبح الشأن العام جزءاً لا يتجزأ من حديثهم ليس فحسب فى منازلهم وإنما أيضا فى الأماكن العامة كانت النقاشات تبدأ تلقائيا وعفويا بين مواطنين يلتقون لأول مرة ودون سابق معرفة فى مركبات النقل العام والأندية وطوابير الاستفتاء والانتخابات وغيرها من التجمعات، والمفارقة أن النقاش كان يتوقف عفويا وتلقائيا عندما تلوح فى الأفق بوادر شجار أو تحوله إلى خناقة، كانت حكمة المصريين الكامنة فى أعماقهم تحدد لهؤلاء المواطنين متى يتحدثون ومتى. يتوقفون عن الحديث، لكنهم فى جميع الأحوال تفاءلوا بمناخ ما بعد الثورة والحرية التى اكتسبوها بأنفسهم.
فى أثناء إحدى هذه الجولات النقاشية التى نشبت بين بعض المواطنين حول حجم الأموال المنهوبة من مصر والأرقام التى تم تداولها عن ثروة مبارك المهربة والتى اتضح فيما بعد أنها لم تكن دقيقة إذ كانت تقدر بـ 70 مليار دولار وهم الرقم الذى نشرته صحيفة الجارديان البريطانية، دار الحديث عن استعادة هذه الأموال وتوزيعها على المصريين من خلال الدولة وهو التصور الشعبى لحل مشكلات المواطنين، مال أحد المواطنين يهمس فى أذنى قائلاً لو استعدنا هذه الأموال لكان نصيبى منها ألف جنيه أستطيع أن أؤمن بها حياتى أومأت له برأسى دون أن أعلق، حيث كان من الصعب أن أشرح له أن استعادة هذه الأموال لا يعنى توزيعها على المواطنين بل تستعيدها الدولة التى تنفق منها على مرافق الصحة والتعليم والإسكان والطرق والخدمات العامة والمواصلات وغيرها فهى توزعها بطريقة أخرى لم أستطع أن أحبط هذه الأمنية البسيطة فى مهدها، لن أنسى ماحييت ما ارتسم على وجه الرجل من تعبيرات تنم عن صدقه وتواضعه وتطلعه لهذا المبلغ اليسير من تلك الأموال التى تم نهبها على مدى عقود عبر تحالف المال والسلطة ورجال الأعمال.
أول ما يلفت النظر فى هذه العبارة التى تفوه بها هذا المواطن البسيط هو أنه لا يفكر بعقلية الوقت الحاضر الذى لا يغنى فيه هذا المبلغ البسيط شيئا ولا يوفر له متطلبات الحياة الكريمة فى حدها الأدنى وإنما كان يفكر بعقلية الزمن الماضى ربما من عدة عقود عندما كان هذا المبلغ يستطيع أن يوفر الحد الأدنى من الحياة الكريمة وعندما كان هذا المبلغ يعادل الآن مثلا مائة ألف جنيه أو ما يقرب من ذلك، والأمر الآخر الذى يشد الانتباه فيما قاله هو بساطة تطلعات المصريين وانخفاض سقف طموحهم حتى بعد الثورة التى من شأنها إطلاق ثورة تطلعات وتوقعات قد تفوق قدرة الدولة والمجتمع على تلبيتها والوفاء بها خاصة فى ظل الظروف التى سبقت وأعقبت الثورة.استفاق المصريون من وهم استعادة الأموال المهربة والمنهوبة خلال هذه العقود وأدركوا صعوبة هذا الاسترداد وعدم توافر شروطه، مثل توافر الأدلة والأحكام النهائية والباتة بخصوص المتهمين بنهب هذه الأموال أو تنازل أصحابها عنها لمصلحة الدولة بطريقة قاطعة وتطوعية لا إكراه فيها أو معرفة المسارات المشبوهة التى اتخذتها هذه الأموال للاختفاء والإخفاء والسرية التى تكفل حماية أصحابها وعدم الكشف عن هويتهم، وذلك رغم تعدد اللجان والهيئات التى كلفت نفسها أو كلفتها الحكومة أو غيرها باسترداد هذه الأموال.
فتحت الحكومة سباق التصالح مع رجال الأعمال الهاربين والحاضرين من خلال تعديل قانون الاستثمار وقانون جهاز الكسب غير المشروع لتجويز هذا التصالح من خلال مبادرة هؤلاء للاستفادة من هذه التعديلات والقبول بالشروط التى حددها هذا التعديل.وبصرف النظر عن جواز هذا التصالح مع هذه الفئات من الناحية القانونية أو الدستورية رغم أهمية ذلك، فإن الجانب السياسى لهذا الأمر يستحق الاهتمام من أكثر من زاوية.
وبادئ ذى بدء ورغم حاجة الخزينة العامة لهذه الأموال فى هذه الظروف الاقتصادية الضيقة فإن هدف استعادة الدولة بعد الثلاثين من يونيو عام 2013 لا يقتصر فحسب على إسقاط نظام الإخوان وإعادة تشكيل المؤسسات والسلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية للدولة بل أيضا بناء دولة القانون والمساواة والمواطنة وهو ما يعنى أن تحتكم الدولة للقانون فى التعامل مع كل المواطنين وخاصة تلك الفئات التى أضرت بالموارد العامة للدولة وحصلت على امتيازات عقارية ومادية بثمن بخس لضلوعها فى تحالف المال والسلطة والأعمال، وهذا التعامل القانونى فى ظل دولة القانون يحتم خضوع هؤلاء لمحاكمات عادلة وبضمانات قانونية حتى لو انتهت هذه المحاكمات إلى البراءة وضياع بعض هذه الأموال، فإن تنتصر الدولة للقانون وللإرادة الشعبية أفضل بكثير من تحصيل بعض الأموال على حساب التضحية بسمعة الدولة.
أما الأمر الثانى فيتضمن الأسباب التى قامت من أجلها الثورة فالأسباب الاقتصادية وتدنى مستوى المعيشة وتفشى الفساد والنهب والمحسوبية وإهدار المال العام كان من أهم أسباب الثورة على النظام السابق ومن ثم فإن فتح باب التصالح والحصيلة الضيئلة المتداولة لهذا التصالح التى تتراوح بين 11 و20 مليار جنيه قد تعنى فتح الباب مجدداً لإمكانية الفساد والإفلات من سطوة القانون والعقاب وغياب الردع لكل من يحاول مرة أخرى التلاعب بأموال الشعب، وهو ما يعنى بلغة أخرى إهدار وجود سوابق لمحاكمة المفسدين والمتلاعبين بأموال الشعب تردعهم عن العودة مجدداً لهذه المحاولات قد تكون الدولة ومن خلال التصالح قد حصلت على بعض حقوقها ولكن غابت حقوق الشعب والمجتمع الذى يرى فى عقوبة هؤلاء ومحاكمتهم إنفاذا لإرادته وحفظاً لأمواله التى استغلوها دون وجه حق.
يفتح هذا التصالح الباب للعديد من الأسئلة أولها يتعلق لماذا يقتصر التصالح على هذه الفئة فقط دون غيرها من شباب الثورة مثلاً، وكذلك علاقة هذا التصالح بتبييض وجه نظام مبارك ورجاله خاصة أولئك الذين شاركوا بفاعلية فى نهب المال العام، إن الغاية لا تبرر الوسيلة فى جميع الحالات خاصة إذا ما قارنا الحصيلة المفترضة بعائدها المعنوى والسياسى والأدبى على طبيعة الدولة ومقوماتها دولة ما بعد الثلاثين من يونيو.
سياق التصالح
نقلا عن الأهرام