فعلى الرغم من توفر المال وارتفاع أسعار النفط وتشكيل حكومات ودورات برلمانية متعاقبة، بعد غزو 2003، فإن المؤشرات كلها أكدت استمرار انهيار الوضع الصحي وخدمات البنية التحتية بنحو متواتر، وهو ما يؤكد وجود مخطط متعمد يستهدف القطاع الطبي والصحي والأطباء والأكفاء فيه بتدمير مؤسساته وإنجازاته، منها تعرض مركز صدام لجراحة القلب الذي تجمعت فيه معظم كفاءات أمراض وجراحة القلب، منذ اليوم الأول لدخول قوات الإحتلال الأميركي بغداد، لعملية اقتحام كبيرة وفتح ثغرات في المداخل، ولحرق منظم وتشجيع عمليات السلب والنهب التي استمرت يومين على الرغم من رصانة الأسيجة والمداخل.وفي ذات السياق، تم نهب أكبر مستشفيين عسكريين في العراق وسلبهما وهدمهما، وهما مستشفى الرشيد العسكري الذي تبلغ سعته 1200 سرير، ومستشفى حماد شهاب في العاصمة بغداد. وبالأسلوب نفسه وبإشراف قوات الاحتلال تعرضت شوارع بغداد الشعبية والساحات التي كانت تغص بأجهزة المستشفيات ومعداتها للسرقة والنهب وتم عرضها للبيع، ناهيك عما تسرب منها إلى خارج الحدود.
وقبل إعلان جورج دبليو بوش الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية انتهاء العمليات الحربية في العراق، كان أكثر من 50 بالمئة من المستشفيات العراقية، من ضمنها أقسام الطوارئ والإسعافات الأولية، قد دمرت وسرقت. ولأن الفساد في العراق حالة عامة لذلك لم يكن من المستغرب أن يتغلغل في قطاعه الصحي فمنذ عام 2003م وحتى عام 2015م، أنفقت الحكومة العراقية 17 مليار دولار لخطة تطوير القطاع الصحي في البلاد والنهوض به، إلا أن هذا القطاع لا يزال يعاني من نقص المستشفيات وانعدام الأجهزة وقلة الكوادر الطبية، كما سجّل حالات وفيات قياسية في العامين الماضيين، بالإضافة إلى تلقّي القضاء العراقي ملفات فساد عديدة في المجال الصحي وبناء المستشفيات، من بينها ملف أجهزة السونار والسكانر بقيمة 91 مليون دولار، وملف أجهزة صالات الإشعاع الذري لمرضى السرطان بقيمة 78 مليوناً. ولم يسلم ملف بناء المستشفيات الجديدة، ومراكز طبية لرعاية الحوامل والأطفال بقيمة 895 مليون دولار من الفساد. وقد ادّعت حكومة المالكي، في هذا الصدد، أنها “أعادت إعمار مستشفى غربي البلاد”، قبل أن يتبيّن أن زوجة صحافي ياباني مرافق للجيش الأميركي، قُتل بالعراق، هي من قامت بالتبرّع بقيمة إنشاء المستشفى، وليس كما ادّعت الحكومة، التي ضمنت المبلغ ضمن موازنة الإنفاق لقطاع المستشفيات. وعن الفساد الإداري والمالي في وزارة الصحة، فقد تم إلغاء قيود وشروط استيراد الأجهزة والأدوية والمستلزمات الطبية وتغيير قوائم الأدوية الأساسية وتصنيفها، مما تسبب في نقص شديد فيها كما ونوعا، ودخلت العراق أدوية غير فاعلة بل ملوثة وسامة أحيانا من كل حدب وصوب.
ويرى مختصون في المجال الصحي أن من بين الحقائق الخطيرة أيضا التستر على الفساد المالي والإداري في وزارة الصحة والاعتماد على كوادر غير نزيهة وغير مهنية وفق معايير الانتماء الطائفي والمحاصصة بسبب سلوك سياسة الإقصاء والتهميش، وقلة التخصيص المالي في موازنات الدولة لشؤون الصحة والتعليم والتي لا تتجاوز 3.2 بالمئة من مجمل الموازنة. بالإضافة إلى إهمال خدمات الرعاية الصحية الأولية والوقائية والمراكز الصحية من ضمنها مراكز الأمومة والطفولة وبرامج التلقيحات وتحطيم البنية التحتية للخدمات ذات العلاقة بصحة الإنسان كعدم توفير المياه الصالحة للشرب وغياب الصرف الصحي والتخلص من النفايات ونقص تجهيز الكهرباء وخدمات البنية التحتية، فضلا عن السياسة الدوائية الفاشلة وفقدان الرقابة والتفتيش على الدواء والغذاء وتدهور الصناعة الدوائية. وقد ارجع العديد من المحللون السياسيون للشأن العراقي أن الحريق الذي اندلع في مستشفى اليرموك في آب/أغسطس من العام الحالي وأودى الحريق بحياة 11 طفلا خديجا، أسبابه إلى استشراء الفساد في مؤسسات الدولة وسوء وفساد الإدارة في وزارة الصحة كنموذج مصغر لما يجري في داخلها من عمليات فساد “يُعقد لها الحاجب من الدهشة”.
ووفقاً للوثيقة، فإن الوزير الأسبق، استورد أجهزة قديمة وغير صالحة لبرنامج علاج مرضى السرطان على نفقة الدولة، ما تسبب في وفاة عدد من أولئك المرضى، بحسب صحيفة “العربي الجديد”.
إن إنتشار الفساد هو إنعكاس لثقافة سلبية منتشرة في البيئة التي يخدمها القطاع الصحي، فقد أظهرت الدراسات أنه هو أقل إنتشاراً في الدول التي تحترم القانون، وتتصف بالشفافية والثقة بالأخر، والتي يكون القطاع الصحي العام بها ملتزم بإدارة ناجعة بمرجعية إجراءات ونظم أخلاقية موثقة وآليات مسائلة معلنة وواضحة للجميع. و عليه فإن مواجهة الفساد في مجال الرعاية الصحية هو قضية عمومية جوهرية وهي هامة بحيث يمكن إعتبارها مسألة حياة أو موت خصوصا بالنسبة الى الملايين من البشر وخاصة الفقراء منهم الذين يقعون ضحايا مقدمي الرعاية الصحية عديمة الأخلاق والمبادئ. فالطب كمهنة وعلم وسلوك له ارتباط وثيق بالإنسان وصحته وراحته وهنائه وبقائه ووجوده بلا شك، فمن المؤكد أن تحقيق أي فضيلة وإبداع في تقدمه يحسب بكل المعايير أنه نهضة حقيقية بالحياة التي هي جوهر الكون. في الختام يقول عُلماء الفلسفة: النقاش في البديهيات “سفسطة” ويقول خبراء الصحة والمحللون السياسيون والاقتصاديون أن فساد القطاع الصحي في العراق دراية وليس رواية.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية