بعد ثلاث سنوات من أحداث ميدان تيان آن مين الشهيرة صيف العام 1989، وفيها اعتصم الطلاب مطالبين بالديمقراطية، بدعم غربي على ما يبدو، ثم تدخل الجيش لفضّها بالقوة، وكادت تعصف ببرنامج الإصلاح الذي بدأ العام 1978، ركب دينغ القطار، مطلع العام 1992، وهو في الثامنة والثمانين من عمره، ومضى يزور أرياف الصين ومدنها ويلقي خطابات اعتبرت فيما بعد “وصيّة دينغ إلى الأمة”، مؤكداً بذلك استمرار مشروع الصين النهضوي، القائم على ما يسميه الصينيون “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”.
في “وصيّته” الخالدة، قال دينغ: “علينا توجيه انتباهنا إلى تربية الناس، وانتقاء العناصر الطيبة وتقليدها المناصب القيادية، وخصوصاً العناصر التي تتحلى بالكفاءة والنضج السياسي. على هؤلاء أن يكونوا ثواراً وشباناً ومدربين تدريباً جيداً، وذوي كفاءة مهنية”.
خليفة دينغ
يتولى اليوم رئاسة الصين واحدٌ من “الأمراء الحمر”، وهم أبناء مؤسسي الحزب الشيوعي الصيني وأبطاله الذين شاركوا مع ماو تسي تونغ في إقامة “جمهورية الصين الشعبية” العام 1949، عقب إطاحتهم حكم الحزب الوطني (الكومنتانغ) الذي فرّ قادته إلى تايوان، وأقاموا فيها “جمهورية الصين الوطنية”، بمساندة غربية.
هكذا، كان الرئيس الصيني الحالي، شي جين بينغ، واحداً من هؤلاء الذين وضعهم دينغ شياو بينغ على سلم المناصب القيادية قبل رحيله، في تطبيقٍ عمليٍّ لوصيته إلى الأمة، متوسماً فيه الكفاءة والنضج السياسي. وفي الحقيقة، يمكن القول، إن الرئيس شي يبدو مختلفاً عن سلفيه اللذين خلفا الزعيم دينغ، الرئيس جيانغ زيمين (1993-2002)، والرئيس هو جينتاو (2003-2012)، من حيث الكاريزما والطموحات. إنه، بكلمات قليلة، الخليفة الحقيقي لدينغ شياو بينغ.
الحزام والطريق
في بداية عهده، طرح الرئيس، شي جين بينغ، في سبتمبر/ أيلول 2013، مبادرة “الحزام الاقتصادي لطريق الحرير” و”طريق الحرير البحري للقرن الـ 21″، باعتبارهما أهم خططه لعلاقة الصين بالعالم، ودور الصين في عالم المستقبل.
تشمل مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، كما اصطلح على تسميتها، حزاماً أرضياً يمتد من
الصين مروراً بآسيا الوسطى وروسيا وصولاً إلى أوروبا، وطريقاً بحرياً يمر عبر مضيق ملقا في جنوب شرق آسيا إلى الهند والشرق الأوسط وشرق أفريقيا، وهذا ما يجعل المنطقة العربية محورية ومهمة في هذه الخطة الصينية، خصوصاً أنها تشمل توجهات تنموية مثل بناء خطوط الأنابيب، والبنية التحتية للتنقيب عن المعادن، ومرافق النقل والاتصالات.
يعتقد الصينيون، أن هذه الخطة ستلعب دوراً مهماً في ربط الأسواق الناشئة مع الدول التي تتمتع بإمكانات اقتصادية كبيرة، وستزيد من ثم الاستثمارات العالمية فيها، فضلاً عن تعزيزها التكامل بين الصين والاقتصاد العالمي. وبحسب صحيفة الشعب الصينية الرسمية، تسعى مبادرة “الحزام والطريق إلى تحويل العولمة الجزئية إلى شاملة، وجمع العولمة والأقلمة لمساعدة مزيد من البلدان على أن تصبح غنية، وخلق نموذج جديد للتعاون الإقليمي والدولي في القرن الـحادي والعشرين”. وقد بلغ حجم الاستثمارات المباشرة للشركات الصينية في الدول الواقعة على “الحزام والطريق” خلال الأرباع الثلاثة الأولى من العام 2015، نحو 12.03 مليار دولار أميركي، بزيادة قدرها 66.2% عن الفترة المماثلة من العام الذي سبقه 2014، ويعادل ذلك الرقم نحو 15.3% من إجمالي الاستثمارات الصينية المباشرة غير المالية في خارج الصين.
تطوير استراتيجية النهوض
تبدو خطط شي جين بينغ هذه نقلة نوعية في استراتيجية الصين النهضوية التي أطلقها دينغ العام 1978، إذ تتحول بالصين من التفكير بالاقتصاد المحلي إلى التفكير بالعلاقة مع العالم، ومكانتها فيه، عقب النجاح الاقتصادي المبهر الذي حققته الصين خلال العقود الأخيرة. لكن الخطة لا تبدو مفاجئة، ولا تعد تغييراً في استراتيجية الصين، بل تطويراً منطقياً لها، واستكمالاً لنهج الإصلاح والانفتاح الذي تريد الصين أن تتوّجه في مائوية الجمهورية الشيوعية، العام 2049، أن تكون الدولة الأقوى اقتصادياً في العالم.
لكن ما تشي به خطط الصين وتوجهاتها، في عهد الرئيس شي، أن طموحها يتجاوز البعد الاقتصادي، بل يستهدف الوضع السياسي كذلك، خصوصاً أن للصين مطالب في منطقتها الجغرافية، أهمها استعادة جزيرة تايوان، لتكون جزءاً من الوطن الأم، ومع جيرانها مثل خلافاتها الحدودية مع الفيليبين، لا يمكن تحقيقها قبل أن يصير للصين “مكانٌ تحت الشمس” في دنيا القرار السياسي والعسكري في العالم.
وفي هذا السياق، تندرج بعض الآراء التي تجادل، أن الرئيس شي لن يسلم السلطة عقب انتهاء دورته الرئاسية الثانية العام 2022، كما جرت العادة لدى رؤساء الصين الذين تولوا السلطة بعد الزعيم دينغ، وهو أمر ستتضح ملامحه جلياً لدى إعادة انتخابه، في أواخر العام المقبل 2017، إذ يمكن أن يتبين ما إذا كان سيأخذ صورة “الزعيم الأوحد” أم لا.
المسار التاريخي
كاد الزعيم، دينغ شياو بينغ، يفقد حياته خلال الثورة الثقافية في الصين (1966-1976)،
التي أطلقها ماو تسي تونغ في سنوات حكمه الأخيرة، وتحت إشراف زوجته، جيانغ تشينغ، بغرض حماية رؤيته الأيديولوجية. استهدفت الثورة الثقافية “سحق الشياطين القدامى الأربعة: الأفكار القديمة، الثقافة القديمة، الأعراف القديمة، والعادات القديمة”، كما كان يقول أنصارها، وأدى ذلك إلى قيام أعمال بطش بالناس، من دون معايير واضحة، وبحجةٍ واحدة، هي مناهضة أفكار ماو، وكان منها: مهاجمة الجامعات والتنكيل بأساتذتها ورؤسائها، بتهمة تعاطفهم مع البرجوازيين، وجمع مؤلفات عدد من كبار الكتاب، وحرقها في الساحات العامة، بحضور مؤلفيها، وكذلك مهاجمة المتاحف وتدمير محتوياتها، وتطوّر الأمر إلى ممارسة التعذيب بحق المتهمين بمخالفة ماو، وتحويل المدارس ودور العبادة والمسارح والمكتبات، إلى أماكن اعتقال.
طاولت عملية محاسبة مخالفي ماو بعض قيادات الحزب الشيوعي والدولة، وفي مقدمتهم ليو تشاو تشي، رئيس الجمهورية، ودينغ شياو بينغ، الأمين العام للحزب الشيوعي، الرافض لأفكار التغيير المتطرفة. فرّ دينغ إلى مسقط رأسه في مقاطعة سيتشوان، وبقي تحت حماية أحد أصدقائه من جنرالات الجيش، بعد أن تمت إقالته من منصبه، ولولا ذاك لتغير تاريخ الصين، والعالم اليوم!
بعد سلسلة أحداث مضطربة شهدتها الصين، عقب وفاة ماو، في سبتمبر/ أيلول 1976، عاد دينغ إلى بكين، وتسلم مقاليد السلطة عملياً، بدعمٍ من أنصاره في الحزب، اعتباراً من العام 1978، ماضياً بالصين على دربٍ جديدة، براغماتية هذه المرة، ومستهدفاً نهوض البلاد، من دون أن يتخلى عن الشعار الماركسي، ولا عن رمزية ماو.
ركّز دينغ على تطوير الإنتاج في الصين. ويمكن تبيّن منهج التفكير الذي ساد الصين، منذ ذلك التاريخ، عبر ما قاله دينغ ونُشر في كرّاس، العام 1984: “الماركسية تولي بالغ الأهمية لتطوير القوى المنتجة، وتطبيق الاشتراكية يتطلب قوى منتجة عالية التطور وثروة مادية كبيرة. ولذلك، تكمن المهمة الأساسية للمرحلة الاشتراكية في تطوير القوى الإنتاجية. وقد ارتكبنا تقصيرات خطيرة منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية، وهي إهمالنا تطوير القوى المنتجة. الاشتراكية تعني استئصال آفة الفقر، والفقر ليس الاشتراكية، ناهيك عن أنه ليس الشيوعية. إن تفوق النظام الاشتراكي يكمن في قدرته على التطوير المتزايد للقوى الإنتاجية، وتحسين مستوى الشعب المادي والثقافي بالتدريج”.
أسّس دينغ، بوجهة نظره هذه، للاشتراكية ذات الخصائص الصينية التي استعملت بعض آليات اقتصاد السوق، وفق منهج براغماتي، وضعت القيادة الصينية في ضوئه خطة عمل استراتيجية مقسّمة إلى ثلاث مراحل: تهدف الأولى إلى حل مشكلة الغذاء والكساء بين عامي 1981 و1990، وتهدف الثانية إلى تحقيق حياة الرفاه بين عامي 1990 و2000. وتمتد الثالثة حتى العام 2049، وتهدف إلى الوصول بالصين إلى مستوى الدول المتقدمة، على أن تُنفّذ خطة العمل من خلال عمليات تحديث في أربعة مجالات رئيسية: الزراعة، الصناعة، التكنولوجيا، والقوات المسلحة.
الصين والمستقبل
كانت الصين قد تخلّت، في العام الماضي 2015، عن سياسة “طفل واحد للأسرة الواحدة”،
وسمحت بإنجاب طفل ثانٍ. وعلى الرغم من أن القرار يستهدف، على ما يبدو، حل مشكلات عديدة ظهرت في المجتمع الصيني، منذ اعتماد سياسة تحديد الإنجاب بطفل واحد، ومنها ارتفاع متوسط العمر بين الصينيين، إلا أنه لم يكن ممكناً إغفال الطموحات العسكرية المستقبلية للصين في هذا القرار، ومفادها توفير الموارد البشرية لزيادة أعداد الجيش وتوسيعه.
والمعنى أن الصين ربما تكون مقبلةً على عهدٍ جديد، اعتباراً من أواخر العام المقبل، قوامها وجود رئيس قوي، هو حالياً الأصغر سناً من جميع قادة الحزب، المرشحين للتقاعد خلال شهور، يعمل لتطوير مكانة الصين في العالم، في حقول أخرى سوى التجارة والاقتصاد.
بالنسبة للعرب، ثمّة ما يمكن عمله للاستعداد للزمن الصيني الجديد، والاقتراب من الصين للإفادة من حضورها المستقبلي في العالم، ومن قدراتها الصناعية والتكنولوجية المستقبلية، ويبرز النفط هنا عاملاً خارجياً أساسياً في العلاقة مع الصين، بسبب حاجاتها المتزايدة له، وعدم كفاية الإنتاج المحلي المتناقص منه. فقد تواصل ارتفاع حجم استهلاك الصين من النفط، كأحد استحقاقات عملية التنمية، حتى باتت، منذ العام 2004، الدولة الثانية في العالم، بعد الولايات المتحدة وقبل اليابان، من حيث حاجاتها النفطية. في العام 2014، استهلك العالم 4.63 مليارات طن متري من النفط، منها 967 مليون طن استهلكتها الولايات المتحدة، ثم 521 مليون طن استهلكتها الصين، فيما استهلكت اليابان 215 مليون طن.. هكذا، فإن احتياطات الصين النفطية لا يمكن أن تلبي حاجاتها التي ترتفع سنوياً بمعدل 7%، فيما ترتفع قدراتها الإنتاجية بمعدل 2%. وقد استوردت الصين فعلاً نحو 60% من احتياجاتها النفطية خلال العام 2014. دفع هذا الحال الصين إلى إقامة علاقات وثيقة مع الدول النفطية النامية، فعملت على الاستثمار في القطاع النفطي في دول أخرى، خصوصاً في دول أفريقيا، وشراء حصص من الشركات النفطية الأجنبية.
تتركز العلاقات العربية الصينية الحالية في الجانب التجاري، لكن من دون “إبداعٍ” ينطوي على الاستعداد للمستقبل الصيني، ويستهدف إقامة علاقات “حضارية” استراتيجية مع الصين. وقد بلغ حجم التبادل التجاري العربي الصيني في العام 2014 نحو 251 مليار دولار أميركي، تركز معظمه في استيراد النفط من الدول العربية، وتصدير منتجات مختلفة الأصناف والألوان إليها، أكثرها الملابس والمعدات الكهربائية والميكانيكية، في وقت بلغ فيه التبادل التجاري الصيني مع العالم نحو 4.3 تريليونات دولار.
وبالنسبة للعلاقة مع الدول العربية ضمن خطة “الحزام والطريق” التي تنفذها الصين حالياً، تسعى الصين إلى أن تساهم الخطة في تمتين ما تسميه “التكامل الإنتاجي” مع هذه الدول، بمعنى أن تساهم المواد الخام والبنية التحتية العربية في مواصلة تقدم القدرات الصناعية والتجارية الصينية، في مقابل أن تتزايد القدرات الإنتاجية العربية، من خلال نقل الخبرات الصناعية الصينية في عدد من المجالات إلى الدول العربية، مثل صناعة المنسوجات والصناعات الخفيفة، ومن ذلك مشروعات الألياف الزجاجية التي أقامتها شركة جيوشي الصينية في مصر، متضمنة ضخ استثمارات تقدر بـ300 مليون دولار مستقبلاً في مصر، لإقامة أكبر خط إنتاج في إفريقيا ينتج 200 ألف طن سنوياً.
وخلال الأعوام العشرة (2005-2015)، تضاعفت التجارة بين الصين والدول العربية تسع مرات، وتزايدت عقود المقاولات الصينية في الدول العربية 13 مرة، وارتفعت الاستثمارات المباشرة غير المالية للصين في الدول العربية 122 مرة. وقد باتت الصين ثاني أكبر شريك تجاري للعالم العربي، وأكبر شريك تجاري لتسع دول عربية، ويشي هذا كله بأن ثمة أفقاً مستقبلياً ممتازاً للعلاقات العربية الصينية، ينبغي استثماره “حضارياً.