التوازنات السياسية الروسية الايرانيه في الميدان السوري

التوازنات السياسية الروسية الايرانيه في الميدان السوري

اتساع مساحة الأحداث في منطقة الشرق الأوسط واستمرار المواجهات في الأراضي الفلسطينية والجنوب اللبناني، أحدث واقعًا سياسياً وترابطًا عسكرياً شمل مساحات أخرى أمتدت إليها تأثيرات الحرب القائمة في المنطقة ، ومن من أهم الميادين التي شهدت تفاعلًا واضحاً أخذ مديات واسعة، كان الميدان السوري المعروف بوجود أكثر من فاعل دولي واقليمي ويحتضن أدوات ووكلاء وحلفاء لعديد من الجهات الأمنية والعسكرية، ولهذا كان الحدث فيه دقيقًا بحيث القى ظلاله على مسارات جديدة عكست الصورة الحقيقة لمجمل التأثيرات التي شهدتها المواجهات العسكرية طيلة الأشهر الماضية.
ويمكن أن نلاحظ أن طبيعة العلاقات الروسية الإيرانية كانت أكثر المواضيع التي حملت آفاقًا مستقبلية ورؤى استراتيجية لكيفية أدامة حالة التوازن واستمرار التحالفات بينهما على الميدان السوري، خاصة بعد التطورات السياسية الداخلية الإيرانية التي اعقبت اختيار مسعود بزشكيان رئيساً للبلاد، وما أعقبها من تقديمه لبرنامج حكومته أمام المرشد الأعلى علي خامنئي والذي إتسم بحالة من التوافق والتجاوب مع السياسة الدولية المتمثلة بالانفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وتوسيع قاعدة العلاقة مع الأقطار العربية وخاصة دول الخليج العربي، وإعادة تقويم طبيعة الدور الإقليمي لإيران في الساحة الدولية.
وأخذت القيادة الإيرانية المبادأة في محاولة جدية لرسم المسار الذي ستكون عليه سياستها ومواقفها من الإدارة الأميركية وكيفية معالجتها على المستوى الثنائي، وفي ما يتعلق بآليات إعادة إحياء المفاوضات النووية وإلغاء العقوبات الاقتصادية وصولًا إلى الملف الأمني والعسكري الذي يرتبط بالمصالح والأمن الاستراتيجي لإيران ودورها ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي، وتحقيق الفرص السياسية والمنافع والمصالح الذاتية في تأمين حالة الاطمئنان الميداني من المواجهات التي تجري في قطاع غزة والجنوب اللبناني حيث حزب الله الحليف الإقليمي والرئيسي لها ورأس مشروعها الإقليمي.
شكل الموقف الإيراني من الدعوة إلى إعادة تقويم العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية هاجسًا سياسياً لدى القيادة الروسية والتي بدأت تتوخى الدقة في كيفية قراءة مستقبل علاقتها مع إيران وطبيعة التحالفات والمتغيرات الميدانية التي من الممكن أن تعيد حالة التوازن الاستراتيجي في العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط وتحديدًا في الميدان السوري، والذي يحظى باهتمام بالغ ورعاية خاصة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
أثار السلوك الإيراني مخاوف الروس من طبيعة وتوجيهات السياسة الخارجية التي أكد على مبادئها الرئيس مسعود بزشيكان والتي تذهب بعيداً في العلاقة مع الغرب، وهذا ما يجعل المصالح المشتركة والأهداف الحيوية والتوجهات الميدانية التي تشترك فيها القيادتين الروسية الإيرانية محل مراجعة دقيقة خاصة فيما يتعلق بالاتفاقية الاستراتيجية في التعامل مع النظام السياسي السوري وأوجه الرؤية المشتركة في حلحلة الأزمات والمشاكل التي تعاني منها الساحة السورية.
هذه التطورات السياسية جعلت الروس يراجعون مواقفهم من التحالف الاستراتيجي مع إيران، وأوجدوا حالة من التقارب مع الحكومة الأذربيجانية التي لديها مواقف تبتعد فيها عن الرؤية الإيرانية بسبب الدعم الذي تبديه طهران لدولة أرمينيا، ولهذا فإن الروس أوجدوا حالة سياسية موازية في توجه إيران للعلاقة مع الغرب توازي علاقتهم مع أذربيجان، إضافة إلى قيام الرئيس بوتين بدعم أقامة ( معبر زنغزور) الذي يربط أراضي أذربيجان بمنطقة نخجوان وصولًا للأراضي التركية، وهو ما يعني حرمان إيران من أهم الطرق الحيوية البرية ذات المنافع الاقتصادية التي توصلها إلى أوروبا عبر أرمينيا.
طلبت روسيا من إيران توضيح دقيق وعملي حول المسارات السياسية التي أعلن عنها مسعود بزشيكان، والتي بسببها تأخرت عملية التوقيع على المعاهدة الشاملة بين البلدين والتي أقرت في الزيارة التي قام بها الرئيس السابق أبراهيم رئيسي إلى روسيا في السابع من كانون الأول 2023 وضم وفد سياسي واقتصادي وأمني كبير، وأجرى مشاورات عديدة حول أفاق التعاون المشترك بين البلدين والاعداد التام لتوقيع المعاهدة الشاملة بينهما والتي تعتبر عامل فعال في تطوير العلاقات الروسية الإيرانية، ومنها دعم التواجد الروسي في منطقة الشرق الأوسط الذي يؤدي إلى ترسيخ موطئ قدم له في المنطقة لزيادة قدرته على المساومة في التعاملات المستقبلية مع الغرب.
كما ساهمت الحرب الروسية الأوكرانية في المزيد من التقارب بين إيران وروسيا، وأن الهدف المشترك الذي يجمعهما هو محاربة الحلف الأطلسي (الناتو) وأن مصطلح التوازن على الصعيد الدولي ساهم في التقريب بين البلدين.
وعالجت المباحثات عملية دعم تطوير المؤسسة العسكرية الإيرانية وتحديدًا المنظومة الجوية في الإسراع بتسليم إيران طاقم من الطائرات المقاتلة الحربية ( سوخوي 35) ومنظومة الدفاع الجوي ( أس 400) ومعدات للتشويش الإلكتروني لمعالجة أي عملية خرق من قبل طائرات الشبح الإسرائيلية الأمريكية والتعامل معها بدقة.
ألا أنه وبعد تصريحات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أوقفت روسيا عملية تسليم شحنة الطائرات المقاتلة وسلمت إيران رادارات ( أس 400) دون الصواريخ مما جعلها دون فائدة عسكرية وذات مهام قتالية فاعلة، وارسلت رسالة للقيادة الإيرانية تطلب فيها ماهية المعايير التي سيتبعها الرئيس بزشكيان في تعامله مع الغرب ورؤيته حول أيقاف التوجه نحو الشرق، وهذا ما تم مناقشتها أيضًا في الزيارة التي قام بها بزشكيان الي مدينة ( كازان الروسية) عاصمة جمهورية تتارستان الروسية بتاريخ 21 تشرين الأول 2024 والتي عقدت فيها اجتماعات قمة دول مجموعة (بريكس)، والتقى فيها بالرئيس بوتين ولكن لم يتم التوقيع على وثيقة الشراكة الشاملة، وهو ما شكل موقفًا جديدًا حول طبيعة العلاقات الروسية الإيرانية ومديات استمراره مستقبلًا والذي أشار إليها وزير الخارجية الروسي ( سيرجي لافروف) عندما أعلن عن إمكانية توقيع المعاهدة نهاية عام 2024.
ساهم التحرك الروسي لإعادة العلاقات السياسية بين أنقرة ودمشق في أثارة الشكوك الإيرانية حول مستقبل التحالف الاستراتيجي مع روسيا على الميدان السوري، كون إيران لا ترغب في أي وجود عسكري تركي في شمال سوريا وتطالب بضمانات سياسية تقدمها الدولة التركية للانسحاب من الأراضي السورية، لأنها ترى فيها منافسًا لها في أي مفاوضات قادمة لحلحلة الأزمة السورية والتمسك بمصالحها وأهدافها السياسية والعسكرية التي يمثلها مشروعها في التمدد والنفوذ في عواصم الأقطار العربية.
وتعلم روسيا أن الجانب الاقتصادي عامل مهم في السياسة الإيرانية بعد العقوبات الاقتصادية التي ساهمت في تعميق الأزمات الاجتماعية وحالة التدهور في البنية المجتمعية للشعوب الإيرانية وارتفاع نسبة التضخم والفقر والبطالة لدى شريحة الشباب الإيراني كما زاد من اتساع الاحتجاجات الشعبية التظاهرات الجماهيرية المناوئة للنظام الإيراني ومؤسساته الأمنية والعسكرية، وأن الاهداف الإيرانية تسعى للاحتفاظ بسيطرتها على مرافئ وموانئ مدينة بانياس السورية حيث تستقبل فيه ناقلاتها المحملة بالنفط الإيراني وسفنها التجارية التي تستخدم في نقل الأسلحة والمعدات العسكرية والذخائر الحربية والتي تأتي عادة عبر مينائي طرطوس واللاذقية.
والجانب الروسي على اطلاع تام بما تعانيه الأذرع الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط واستمرار تعرضها لضربات قاسية من قبل القوات الإسرائيلية على مواقع حزب الله في لبنان، والمليشيات الإيرانية في سوريا، ، وهناك تهديدات إسرائيلية مباشرة لضرب الأهداف الإيرانية بعد وصول منظومة الدفاع الأمريكية (ثاد) إلى إسرائيل، ولكن روسيا ستعمل على منع مرور أي طائرات إيرانية وإسرائيلية ضمن المجال الجوي الروسي في سوريا اذا ما اشتدت الأوضاع الميدانية وتوسعت دائرة المواجهات بين جميع الأطراف.
والأهداف الإيرانية في المنطقة معروفة لدى الجانب الروسي في المنطقة ، وهي التوسع والتمدد على حساب الأقطار العربية، لكن روسيا لن تتدخل في أي صراعات تخل لمصالحها في المنطقة وخاصة مع اقطار الخليج العربي التي ترى فيها ثقل اقتصادي ومجال استثماري واسع، وترغب في الاحتفاظ بعلاقات وثيقة عبر تعزيز الجوانب الاقتصادية وتوقيع الاتفاقيات المشتركة المتعلقة بالنفط والغاز وبناء المشاريع الكبرى في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر.
و ثوابت السياسة الروسية قائمة على
تهدئة الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، وتدرك ان سعيها لأي مواجهة أو استنزاف للقوات الأمريكية في المنطقة ستكون عواقبه كبيرة وان اي محاولة تهدف لجر الولايات لمواجهة في المنطقة ستؤدي إلى خسائر مصالحها في الشرق الأوسط، ولهذا فهي تعمل على أبعاد التأثير الإيراني وتقويضه على الساحة السورية بعد الضربات الكبيرة التي طالت أذرعه وحلفائه وترغب في إعادة العلاقات التركية السورية لإيجاد حالة من التوازن السياسي والرؤية الميدانية والبعد الاستراتيجي على الميدان السوري، ولاقتناص الفرصة السياسية التي يمر بها المشروع الإيراني والمساومة عليه في أي مفاوضات أو حوارات قادمة مع إدارة الرئيس ترامب وضمن الإطار المشترك حول فهم المصالح الدولية والإقليمية ومنها الحرب الأوكرانية التي تهم الجانب الروسي.
يبقى الموقف الروسي في رسم ملامح العلاقة مع إيران، قائم على اساس المصالح الثنائية والأهداف المشتركة، إلا أن الجانب الروسي بدأ بالعمل الجاد لعودة العلاقات السورية التركية وتحقيق حالة من التوازن الاستراتيجي والسياسي في الميدان السوري، وتعزيز موقف القيادة السورية بالنصح لها بعدم التدخل والمشاركة أو اصدار اي بيانات بخصوص الأحداث الجارية في الأراضي الفلسطينية والجنوب اللبناني وإقناعها بأن موقفها سيعزز من علاقتها بالاقطار العربية ويبعدها عن المحور الإيراني، والنظر للمصالح الروسية بأهمية بالغة في الاحتفاظ بمكانتها وقواعدها العسكرية واستثماراتها الاقتصادية في مدينة طرطوس واطلالتها على البحر الأبيض المتوسط.

ىحدة الدراسات الإيرانية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية