انهيار الثوار الذي يبدو أنه لا مفر منه في مدينة تاريخية كانت ذات مرة قلب اقتصاد سورية سيعزز كثيراً موقف الأسد وحلفائه في أي مفاوضات مقبلة لإنهاء الحرب.
* * *
بيروت- تجتاح قوات النظام السوري بثبات النقاط القوية التي يسيطر عليها الثوار في شرق حلب المحاصر، في معارك ضارية تدعمها حملة جوية روسية شرسة، فيما يتشكل ليصبح أهم انتصار يحققه الرئيس السوري بشار الأسد في الحرب كلها.
لكن سقوط آخر معقل حضري رئيسي للثوار في سورية لن يعني نهاية الحرب. وقد حذر سفير فرنسا لدى الأمم المتحدة، فرانسوا ديلاتر، خلال جلسة مجلس الأمن الطارئة يوم 30 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بالقول: “إن ما يحدث في حلب لن يؤدى سوى إلى تغذية الفوضى والإرهاب”.
ويبدو أن هدف النظام السوري وداعميه الرئيسيين -روسيا وإيران- هو استعادة قطاع المدينة الشمالية الذي يسيطر عليه الثوار منذ أواسط العام 2012 قبل أن يتولى دونالد ترامب مقاليد منصبه كرئيس للولايات المتحدة يوم 20 كانون الثاني (يناير) المقبل.
وعندما تصبح حلب كلها في أيدي النظام، ينبغي أن يتمكن الأسد وحليفاه الرئيسيان من استيعاب أي تغيير في السياسة الأميركية تجاه روسيا، وأن يحتفظوا بالأوراق الرابحة في أي مبادرة سلام مدعومة أميركياً وتهدف إلى وقف الصراع.
تعاني قوات الثوار في حلب، والتي تتكون من نحو 8.000 مقاتل، من نقص عددي كبير أمام قوات الحكومة، وهم مقطوعون عن أي إغاثة بعد تعرضهم لضربات سلاح الجو الروسي وقصف مدفعية النظام بلا هوادة على مدى أشهر.
وذكرت التقارير أن الثوار، الذين يفقدون الأرض منذ تدخل روسيا في أيلول (سبتمبر) لإنقاذ الأسد مما بدا قريباً من هزيمة أكيدة، خسروا حتى تاريخ إعداد هذا التقرير نحو 40 % من المناطق التي كانوا يسيطرون عليها، بينما يشدد النظام الخناق على معقل المعارضة.
وكان مسؤول الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، ستييفن أوبراين، قد حذر في تشرين الثاني (نوفمبر)، بينما كانت القوات التي تقودها وحدات النخبة في حزب الله “فوج الرضوان” تتقدم في قتال شوارع شرس، من أن شرق حلب تصبح “مقبرة عملاقة واحدة”.
بعد أن أصبح الكثير من شرق حلب خراباً وتناثرت في شوارعه الجثث بسبب القصف المتواصل ليلاً ونهاراً، أصبح نحو 50.000 ممن يقدر عددهم بنحو 250.000 مواطن مصابين بصدمة القصف، والذين صمدوا أشهراً أمام تكتيكات التجويع التي استخدمها النظام، أصبح هؤلاء يسعون إلى الفرار من المدينة.
ومن المرجح أن يتزايد الخروج بينما تُطبق قوات النظام على المدينة وتُعمل القتل فيها، وحيث تقف الأمم المتحدة والولايات المتحدة عاجزتين على منع حمام الدم الأخير.
انهيار الثوار الذي يبدو أنه لا مفر منه في المدينة التاريخية التي كانت ذات مرة قلب سورية الاقتصادي، سوف يعزز إلى حد كبير موقف الأسد وحلفائه في أي مفاوضات تهدف إلى إنهاء الحرب. وقد لقي نحو 400.000 شخص حتفهم وشُرد نحو نصف السكان السوريين الذين كان عددهم قبل الحرب 22 مليوناً من ديارهم خلال ست سنوات من الصراع تقريباً.
منيت الجهود التي كلَّفت بها الأمم المتحدة ودعمتها الولايات المتحدة بالفشل. وتبدو روسيا، التي استعيد نفوذها في الشرق الأوسط بتدخلها في العام 2015 لإنقاذ الأسد، تبدو الآن في مقعد السائق وقادرة على التفاوض من موقع القوة.
وفيما يبدو أنه جهد دبلوماسي جديد، ذكرت مصادر من المعارضة أن أربع مجموعات من الثوار على الأقل مرتبطة بالائتلاف الوطني السوري تجري مفاوضات سرية في أنقرة مع الروس، بوساطة تركيا، مع الهدف المباشر المتمثل في وضع حد لإراقة الدماء في شرق حلب.
لكن هذه المحادثات، وهي الأولى التي تتضمن عدداً كبيراً من جماعات المعارضة الرئيسية، أحرزت القليل من النجاح، بحسب ما ذُكر. ويؤكد هذا التجمع على أهمية روسيا المتزايدة في الشرق الأوسط، وربما يؤشر على مرحلة جديدة من السعي إلى تسوية سياسية لإنهاء الحرب، مع تصاعد النفوذ الروسي وتراجع النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط.
وتفيد التقارير بأن موسكو كانت تسعى إلى ترتيب لقاء في دمشق لقادة الثوار الرئيسيين، ربما في أوائل كانون الثاني (يناير) القادم، من أجل مناقشة إقامة حوار وطني تحضره لاحقاً حكومة الأسد.
والهدف، وفق مصادر سياسية، هو التوصل إلى اتفاق سياسي يمكن أن يؤدي إلى عقد انتخابات برلمانية ورئاسية يترشح فيها الأسد لولاية رابعة، بينما يشرف على الانتقال مما كان بشكل أساسي دولة حزب واحد إلى ترتيب لتقاسم السلطة، مع بقاء الأسد رئيساً.
مع ذلك، وسط جهود موسكو لتأمين وقف لإطلاق النار، واصلت الطائرات الحربية الروسية قصفها العنيف ليلاً ونهاراً لشرق حلب، حيث تحولت أحياء بكاملها إلى ركام.
الآن، ما يزال تحقيق تسوية سياسية للصراع احتمالاً بعيد المنال، حتى على الرغم من زيادة الزخم للتخلص من الأسد من جهة القوى الغربية والعربية، مثل السعودية وتركيا، بينما تتواصل الحرب بلا نهاية منظورة في الأفق.
قد يؤدي انتصار النظام الذي يبدو حتمياً في حلب إلى إطلاق مخاطر جديدة، والتي ليس أقلها توفير الحافز للقوى الجهادية التي أصبحت نواة المقاومة لسياسات طائفة الأقلية العلوية التي يتزعمها الأسد، والتي عذبت أغلبية سورية السُّنية لعقود.
كما أنها ليست هناك أي علامة على تخفيف الدعم الأميركي السري لقوات الثوار خارج حلب؛ حيث يشكل “داعش” هدفها الرئيسي، خاصة في شمال سورية، حيث تتمتع الجماعات الكردية المناهضة للنظام بالقوة.
وفقاً للمحلل البريطاني تشارلز ليستر، الذي تواصل مع معظم فصائل الثوار خارج حلب، فإن لدى هذه الفصائل نحو 150.000 مقاتل في الميدان، مع وجود 5 % فقط من هذا المجموع في حلب.
وما تزال قوات الثوار، بما في ذلك “داعش”، تحتفظ بمحافظة إدلب في الشمال، إلى جانب الكثير من محافظة حلب المجاورة. ومن المرجح أن تكون هذه المناطق هي الهدف التالي للنظام. كما يسيطر الثوار أيضاً على أجزاء كبيرة من جنوب سورية.
إد بلانش
صحيفة الغد