حين اتخذ الملك سلمان القرار بأن تتولى المملكة العربية السعودية قيادة تحالف «عاصفة الحزم» كان مستندًا لطلب من الرئيس هادي، وبناءً عليه تم تحديد أهداف المعركة، وعلى رأسها مساندته في استعادة الشرعية الدستورية التي لم يشكك فيها أحد إلا جماعة الحوثيين التي انضم إليها علانية «المؤتمر الشعبي العام» الذي يتزعمه الرئيس السابق علي عبد الله صالح، ثم صارا شريكين في الحرب الدائرة على امتداد اليمن.
بغض النظر عن الانتقادات التي وجهت لأداء الرئيس هادي ومسؤوليته بحكم موقعه عن جانب كبير من سوء إدارة الفترة الانتقالية، فإن هذا لا يعني بحال من الأحوال القبول بمنطق الذين خرجوا على شرعيته المتوافق عليها منذ 21 فبراير (شباط) 2012، وليس مبررًا ولا معقولاً تلك الإجراءات التي واجهت بها جماعة الحوثيين أغلبية المجتمع اليمني، وصارت تفرض معها قراراتها على الأرض، مستندة إلى قوة السلاح وحده بعد أن أغراها ضعف الآخرين واستكانة الرئيس هادي لكل مطالبهم المتتالية، ما كان مفاجئًا حقًا هو الاتفاق بينهم وبين «المؤتمر الشعبي العام»، وتحديدًا الرئيس السابق صالح الذي وصل إلى حد التماهي، ما جعل الوضع يبدو كأن الفريقين يعملان بقيادة واحدة ولهدف واحد هو الاستيلاء على السلطة مهما كلف الثمن، وأيًا كانت الخسائر البشرية.
اليوم، لم يعد غامضًا حجم الخسائر التي سيدفع أثمانها اليمنيون بشريًا ونفسيًا واجتماعيًا وماديًا، ومن المحزن إلى حد البكاء مشاهدة ما يجري في عدن من أعمال قتل وتنكيل بحق المدنيين العزّل بلا مبرر أخلاقي ولا وازع من ضمير ولا هدف وطني ولا سند سياسي إلا شهوة قاتلة لاغتصاب الحكم. ورغم الانتقادات والمعارضة التي تواجهها عمليات «الحزم» من كثيرين في الداخل والخارج، فإن الصحيح أيضًا أن الأوضاع على الأرض جعلت الغالبية تتعامل مع الحملة باعتبارها إنقاذًا من تسلط قوة مسلحة لم تراعِ أي قيمة إنسانية، ولم تقبل اختلافًا في الرأي أو اعتراضًا على تصرفاتها، ولم تتورع عن اعتقال معارضيها والتنكيل بهم إلى درجة لم يعهدها اليمن من قبل وصلت إلى حد حرمان الشيخ الوقور محمد حسن دماج من وداع زوجته التي توفيت كمدًا عليه وهو في السجن الذي أودع فيه ظلمًا وعدوانًا، كما أن استمرار القتل اليومي الذي تمارسه عشوائيًا في عدن خصوصًا يضاعف من مصاعب جلب الأطراف إلى الحوار السياسي الذي هو المآل الأخير مهما تهربت منه كل الأطراف.
الأيام الستة عشر الماضية أضعفت دون شك وإلى حد كبير قدرات الحوثيين والرئيس السابق، ولكنها لم تتمكن حتى الآن من القضاء عليها، ولا أتصور ذلك ممكنًا دون تدخل بري واسع النطاق أتمنى تجنبه، وفي نفس الوقت ما زالا قادرين على الحركة والتمدد في رقع جغرافية متباعدة وبعيدة عن مركز التحكم، ما يدل على استعداد مسبق وتهيئة ميدانية مبكرة ومرونة مفاجئة في الحركة وتحمل الضربات المؤلمة المتتالية، إلا أن المفزع هو إصرارهم على القتال واستمرار نزيف الدماء وعدم مراعاة أي جانب إنساني في تصرفاتهم على الأرض.
تحقيق الأهداف التي طلبها الرئيس هادي من الملك سلمان يحتاج إلى وقت ليس بقصير، ويتطلب حسابات دقيقة في ظل العوامل المتغيرة على الأرض، لكن الغاية الأهم التي يجب السعي إليها هي الإسراع بعودة لحوار تشارك فيه جميع الأطراف مشروطة في البدء بتسليم السلاح متزامنًا مع الخروج من المدن الرئيسية، لأن القبول بالجلوس على طاولة الحوار في ظل الظروف الحالية لن يكون إلا تكرارًا لأخطاء الماضي التي رضخ لها الرئيس هادي، وكانت تأسيسًا للأوضاع الكارثية الحالية، وفي نفس الوقت فإن استمرار «حملة الحزم» لوقت طويل ربما يتسبب في معاناة إنسانية، وسيكون من غير المجدي، أن يتم إنجاز وتحقيق الأهداف العسكرية دون التنبه إلى التداعيات التي ترافقها، ومن الحيوي أن يتم الاستعداد والتخطيط لسرعة التعامل معها فور الانتهاء من العمليات العسكرية.
أدرك أن المفاوضات التي تجري بغير توازن بين القوى المشاركة ستنتج عنها أوضاع مهيئة لاستنساخ مشاهد (ما قبل وما بعد الاستيلاء على عمران)، و(ما قبل وما بعد الاستيلاء على صنعاء)، ولعل فيما يجري من تدمير وقتل في عدن لا يشي بأن الحوثي والرئيس السابق استوعبا أن الحروب العبثية الداخلية وسيل الدماء مهما كانت نتائجها هي في محصلتها نقطة البدء لحروب أخرى تليها، كما أن الوضع الذي صنعه صالح يحجب عنه كل فرص البقاء على الساحة السياسية، فقد صنع من العداوات والأحقاد خلال العامين الماضيين أكثر مما فعله خلال ثلاثين عامًا من حكمه، كما جاء تحالفه الأخير مع الحوثيين ليضع حدًا فاصلاً لتحالفاته القديمة، وزاد أن خسر كل صداقاته الإقليمية، فلم يعد يمتلك الآن أكثر من آلة حرب قاد بها معركته الأخيرة فدمرها وخلق بها أحقادًا مناطقية وطائفية سيحتاج اليمنيون إلى عقود طويلة لتجاوزها والتعافي منها.
نقطة البداية في رأيي هي التوقف الفوري والنهائي للعدوان غير المقبول على مدن الجنوب، وهو ما سيتبعه حتمًا توقف لـ«عاصفة الحزم» ولو مؤقتًا لصياغة آلية إقليمية ودولية لنزع سلاح كل الميليشيات، ثم البدء بانعقاد حوار يمني برعاية الملك سلمان تمثل فيه القوى الحقيقية المؤثرة دونما حاجة لاستدعاء الزعانف والملحقات، ويجب أن يخرج هذا الحوار بقيادة جديدة لم تتلوث بصراعات الماضي ولم تكن مسؤولة عن دماء اليمنيين التي أريقت على امتداد أرضهم.
اليمنيون يعيشون اليوم تكرارًا دمويًا للحروب التي تعصف بحياتهم كل عقد بسبب رعونة وغرور الممسكين بالسلاح، وكلما هدأت العواصف التي تدمر أحلامهم وأمانيهم تقفز إلى الواجهة جماعات تحرمهم تحقيق أقل القليل منها، وهكذا تتكرر الدورات الدامية وينتهي بهم المسار في حلبة جديدة من المواجهات التي تغيب عنها لغة الحوار بالكلمات ويتسيد المشهد عابث ومغامر ومقامر لا يرى في المواطنين إلا وقودًا لنزواته وغروره ونزقه، وكان الرئيس السابق علي صالح قادرًا على الاحتفاظ بمكانة له في التاريخ اليمني، لكنه ارتكب بحق نفسه وبحق اليمنيين جرمًا لن يتذكروه إلا مصحوبًا بالحسرة والألم والحنق والغضب، ومثله كان عبد الملك الحوثي الذي خدع الدهماء بالوعود ومعسول الكلام.. وكان الرجلان في النهاية يمارسان دورًا أودى باليمن إلى مشروع أطلال سنظل نبكي على آثارها عقودًا طويلة.
يتمنى اليمنيون ألا تكون «عاصفة الحزم» هي الرد الوحيد على الذين تمترسوا خلف الخنادق وقادوا اليمن إلى حرب بالوكالة لم يكن بحاجة لها، وسينتظرون ليلمسوا حرص أشقائهم في الخليج على احتواء اليمن بإخاء ومحبة.
مصطفى أحمد النعمان
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط