شكّل تدفق الغاز من حقل ظُهر المصري مؤخرا نقلة نوعية في خارطة صناعة الطاقة في ظل خطط استراتيجية لإنشاء مركز عالمي لتوزيع إمدادات الغاز خاصة إلى أوروبا التي تبحث عن إمدادات بديلة لهيمنة الغاز الروسي.
لكن ذلك يفتح الباب على مصراعيه لنزاعات السيطرة على احتياطات البحر المتوسط في ظل تداخل الحقول وعدم ترسيم الحدود بين بلدان شرق البحر المتوسط وخاصة مصر وإسرائيل وقبرص ولبنان، الذي تأخر كثيرا في دخول السباق.
ورغم مرور سنوات على إعلان إسرائيل عن مشروع أنبوب يربط حقولها التي بدأت الإنتاج بالدول الأوروبية لكن تلك الخطط لا تزال تواجه عقبات خاصة من تركيا التي ترفض المشروع.
ويرى كلاوديو ديسكالزي، الرئيس التنفيذي لشركة إيني الإيطالية التي تدير حقل ظهر المصري، الذي تبلغ استثماراته نحو 12 مليار دولار، أن هذا الاكتشاف سينقل مصر من مستورد للغاز إلى مصدّر مستقبلي.
ويعتبر ظُهر أكبر اكتشاف للغاز في شرق المتوسط وقد أدى إلى احتدام السباق للعثور على احتياطات جديدة خاصة من قبل إسرائيل وقبرص لإنهاء الاعتماد على واردات الطاقة بل والتحول إلى تصدير فائض الإنتاج.
وتعتبر فرصة وجود مصدر جديد للغاز قرب أوروبا عامل جذب استراتيجي خاصة مع تراجع احتياطيات بحر الشمال وتزايد قلق دول الاتحاد الأوروبي من ارتهانها الشديد لهيمنة الإمدادات الروسية.
وكانت صحيفة فايننشال تايمز قد نسبت لوزير البترول المصري طارق الملا تأكيده أن القاهرة مستعدة للعمل مع الدول المجاورة لتشكيل مركز إقليمي للطاقة. وقال “إننا مستعدون لاستقبال هذا الغاز وتسييله وبيعه إلى السوق الدولية”.
وفتح لبنان في ديسمبر الماضي المجال للمرة الأولى أمام المستثمرين لاستكشاف الغاز في مياهه الإقليمية، ما اعتبره خبراء خطوة أخرى تزيد من احتدام المنافسة ليس بين الدول فقط، بل وبين الشركات العالمية أيضا.
ومع ذلك، فإن تنمية موارد شرق المتوسط من الغاز لن تكون واضحة ومباشرة بسبب مجموعة من المخاطر والمنافسات السياسية التي تشترك فيها الدول المعنية.
ويرى إيمانويل كاراجيانيس، المتخصص في أمن الطاقة في “كينغز كوليدج” في لندن إن استغلال احتياطيات الغاز قد يغيّر بشكل كبير المناخ السياسي والاقتصادي في شرق المتوسط، وقد يؤدي إلى تفاقم النزاعات الحدودية وظهور توترات جديدة قد تستمر لعقود من الزمن.
وحتى لو أمكن السيطرة على الجوانب السياسة، فإنه لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن يحدث في القطاع الاقتصادي، فأسواق الطاقة العالمية متخمة بالغاز زهيد الثمن القادم من روسيا والولايات المتحدة وأماكن أخرى حول العالم.
وترى مصر أن إنتاج حقل ظُهر سيساعدها في تغطية الطلب المحلي المتزايد ويحقق عوائد تعزز بها خزائنها وهي ذات الاهتمامات التي تساور إسرائيل وقبرص اللتين تطمحان أيضا لتعزيز أوضاعهما المالية من خلال تصدير الغاز.
ونسبت فايننشال تايمز إلى غاريث وينرو المحلل المستقل في مجال الطاقة والسياسة الخارجية قوله إن “العقبات تجارية بقدر ما هي سياسية وسيكون ذلك محورا لمنافسات جديدة بـين دول منطقـة شـرق البحر المتوسط”.
ورغم تلك الصعوبات فإن ثمة تقدّما يتم إحرازه. فقد وصلت سفينة حفر استأجرتها إيني وشريكتها توتال الفرنسية إلى سواحل قبرص الجنوبية الشهر الماضي للقيام باستكشاف المنطقة غرب حقل “أفروديت” الذي تم اكتشافه في عام 2011.
كما بدأت شركة “نوبل إنيرجي” الأميركية العمل العام الماضي بتطوير حقل الغاز الإسرائيلي “ليفياثان” في مشروع بقيمة 3.75 مليار دولار ومن المتوقّع تطوير حقول أخرى هذا العام، مثل حقلي “كاريش” و“تنين” القريبة التي تديرها شركة “إنيرجيان أوف غريس”.
وليس اكتشاف الغاز وتسويقه سوى نصف التحدي، إذ أن النصف الآخر يتمثل في إنشاء طرق للتصدير من أجل الوصول إلى الأسواق الدولية.
وتم تقديم الدعم السياسي لإقامة خط أنابيب يخصص لنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا بقيمة تقدر بنحو 6 مليارات يورو من إسرائيل إلى إيطاليا عبر قبرص واليونان.
ووقّعت الدول الأربع مذكرة تفاهم الشهر الماضي لتطوير المشروع بشكل مشترك بهدف إنجازه بحلول عام 2025، لكن خبراء شككوا في جدوى المشروع البالغ طوله 3 آلاف كيلو متر.
ويبقى الخيار الأقل تكلفة هو مدّ خط أنابيب عبر تركيا، لكن المواقف السياسية يمكن أن تعرقل بناء الأنبوب عبر المياه اللبنانية والسورية حتى وإن استطاعت تركيا وإسرائيل التغلب على خلافاتهما.
وهناك طريق آخر بديل قريب من قبرص لكنه ليس سهلا نظرا لتوتر العلاقات بين نيقوسيا وأنقرة، التي تهيمن على قرار الجزء التركي الانفصالي من الجزيرة.
ويعتقد كاراجيانيس أن خط الأنابيب يمكن أن يشكّل جزءا من تسوية نهائية للنزاع القبرصي، ولكن هذا أمر غير مؤكد بعد انهيار محادثات السلام العام الماضي.
وتؤجّج اكتشافات الغاز التوترات بين الدول المعنية حيث أدانت تركيا عملية الحفر الأخيرة في قبرص ووصفتها بأنها “انتهاك غير مقبول”. وقد بادرت إلى وضع سفينة بحث تركية قبالة شمال قبرص كإشارة إلى رغبة أنقرة في الحصول على حصة في موارد المنطقة.
ويشكك محللون في مدى عزم شركات الطاقة على استثمار المليارات من الدولارات لتطوير الغاز القبرصي في غياب خطة لتفادي المخاطر السياسية حيث لم يتم تطوير حقل “أفروديت” منذ اكتشافه قبل ستة أعوام.
ووجدت مصر أنه من الأسهل اجتذاب استثمارات في قطاع الغاز بسبب كبر حجم سوقها المحلي وهو ما أدى لسرعة تطوير حقل ظُهر في غضون أقل من ثلاث سنوات على اكتشافه، مقارنة بسبع سنوات استغرقها بدء تطوير حقل ليفياثان الإسرائيلي للغاز.
ويرى محللون أن القاهرة يمكنها في مرحلة أولى تصدير الغاز عبر محطتي الغاز الطبيعي المسال بالبلاد عبر الناقلات لإيصاله ليس فقط إلى أوروبا ولكن أيضا إلى الأسواق الآسيوية عبر قناة السويس.
وخلال الأعوام الماضية، انخفض نشاط محطات الغاز المصرية بسبب تراجع الإنتاج المحلي وتحويل البلاد إلى مستورد للغاز لكن حقل ظهر واكتشافات شركة “بريتيش بتروليوم” البريطانية في دلتا النيل، يمكن أن تنتج فائضا بحلول عام 2020.
ويمكن لإسرائيل وقبرص أيضا أن تضخا الغاز في محطات الغاز الطبيعي المسال المصرية عبر خطوط أنابيب أقصر بكثير من تلك المقترحة إلى إيطاليا وتركيا.
واعتبر تقرير للبرلمان الأوروبي العام الماضي أن هذا الخيار هو الأكثر واقعية حيث قال معدّوه إن “مصر يمكن أن تكون مفتاح مستقبل الغاز في منطقة شرق المتوسط”.