ماذا يريد الشعب الأميركي من السياسة الخارجية الأميركية؟ إذا كنت متشدداً من المحافظين الجدد، او ليبرالي ملتزم، أو شخص يعتقد أن حل معظم المشاكل العالمية تصنع في أمريكا ، او كنت قلقا لان السياسة الخارجية الامريكية كانت في معظمها فاشلة خلال العقدين الماضيين.
ولكن إذا كنت تسعى الى الطمأنينة وتنظر الى “نصف الكوب” الملان في تحليل هذه المسألة، ارشدك لقراءة دراسة حديثة اعدها مجلس شيكاغو للشؤون العالمية “عن الرأي العام الأميركي، بعنوان” السياسة الخارجية في عصر التقشف. “
من المهم أن ندرك أن المهمة الرئيسة لمجلس شيكاغو، مثلها في ذلك مثل العديد من المنظمات غير الحزبية، هو “تثقيف الجمهور” حول القضايا العالمية المعاصرة. والغرض من هذا التعليم، بطبيعة الحال، هو تشجيع زيادة مشاركة الولايات المتحدة في الشؤون العالمية ومواجهة أي نزعة نحو “الانعزالية”
الناس الذين يدعمون المنظمة خاصة بعض أكبر الجهات المانحة – تميل إلى أن تكون ملتزمة بفرة تأييد استخدام القوة الأميركية، لتحقيق مختلف أهداف السياسة الخارجية. رئيس مجلس شيكاغو ايفو دالدر (المؤلف المشارك للتقرير) وهو أممي ليبرالي، كان داعية لتوسع حلف الناتو، واقترح مرارا تأسيس “عصبة الديمقراطيات” العالمية.
و اثنى في عام 2012، على إسقاط الزعيم الليبي معمر القذافي، واعتبره انتصاراً كبيراً لحلف شمال الاطلسي، وبأنه “نموذج التدخل” (للأسف، ولد دولة فاشلة خطرة). ومن المحتمل أن لا يكون مجلس شيكاغو ولا قياداته الحالية، متحمسة لقيادة الولايات المتحدة النشطة على الساحة العالمية.
ماذا يقول هذا التقرير؟
يبدأ التقرير محذراً من “شبح الانعزالية” الذي يطارد الولايات المتحدة، حيث يعترف دالدر والمؤلف المشارك دينا سميلتز بان “الرغبة المتزايدة بين الأمريكيين هي البقاء بعيدا عن التدخل في “الشؤون العالمية”، وهو اتجاه يرون أنه مرتبط بالحروب المكلفة في العراق وأفغانستان، وتقلص الشعور بالتهديد والقلق على المشاكل الداخلية، وتصاعد الانقسامات داخل الحزب الجمهوري. لكنهم يسارعون إلى القول: ان “البيانات لا تظهر رغبة في الانفصال عن العالم.”
وتدعو معظم نتائج المسح الى الاستقرار وعدم الانغماس في المشاركة الدولية، والتي من وجهة نظرهم “لم تتغير كثيرا منذ إجراء أول مجلس استطلاع للرأي العام لها منذ 40 عاما”. وباختصار، فان الحديث عن تنامي مشاعر انعزالية هو امر غير مبالغ فيه، ولا ينبغي للسياسيين والنقاد أن يولوه اهتماما كبيرا .
ولكن نظرة فاحصة على البيانات تثير شكوكا جدية، وخصوصا عندما ينظر المرء الى بعض القيود الأساسية في الاستطلاع التي وضعها مجلس شيكاغو.
وبالنسبة للمبتدئين، على الرغم من أن العنوان الفرعي يعلن أن “يواصل العامة لدعم” دور نشط “للولايات المتحدة في الشؤون العالمية،” فان النص والبيانات تظهر اتجاها مختلفا إلى حد ما.اذ ان 71% من الأميركيين يؤيدون “جزءا نشطا” في عام 2002، ولكن النسبة انخفضت باطراد منذ ذلك الحين لتبلغ الان 58 %.
وعلاوة على ذلك، فإن الاستطلاع يطرح سؤالا حول الاختيار بين الوضع الراهن النتمثل بالمشاركة الفاعلة و الغامضة (حيث تؤدي الولايات المتحدة “دورا نشطا وغير محدد”) او البديل الذي يدعو الى (“البقاء خارجاً”).
وتشير البيانات المقدمة الى أن البدائل كانت أكثر تحديدا قد تكون شعبية جدا. فعلى سبيل المثال، 30 % من الأميركيين يقولون :إنهم يؤيدون استخدام القوة العسكرية للدفاع عن أوكرانيا، و17 % يوافقون على إرسال قوات أمريكية للقتال في سوريا، وفقط 33 % يريدون ابقاء القوات في أفغانستان إلى ما بعد عام 2014. يؤيد 25 % من العينة إرسال الأسلحة للمعارضين السوريين.
ولعل هذه الأرقام لا تبدو دعماً مفرطاً لمبدأ التدخل في السياسة الخارجية، إذ اكد المؤلفان سميلتز ودالدر على “تردد الأمريكيين في استخدام القوة العسكرية لحل المشاكل الدولية”، وبعبارة أخرى، فان الساسة بسبب ما ارتكبوه من اخطاء حملت اغلب الأميركيين على معارضة المشاركة العسكرية الخارجية، والعمل على تشكيل مؤسسات (مثل قوة من المتطوعين) داعية الى الحد من تكاليف التدخل. وعلى أية حال فقد تردد الجمهور في الموافقة على استخدام القوة، واظهر درجة من الحكم الجيد، بالنظر إلى سجل الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة.
ويشير الاستطلاع أيضا الى أن الأميركيين سيدعمون استخدام القوة “في حال شعروا بأنهم مهددون تهديداً مباشرً” أو “إذا كانوا يتوقعون استجابة تكون منخفضة التكاليف نسبياً ومنخفضة المخاطر”. ولعل هذه النتيجة تشير إلى وجود خلل، في الطريقة التي يعتمدها مجلس شيكاغو في طرح أسئلته.
فعلى سبيل المثال، عندما تساءل: “هل تؤيد أو تعارض استخدام القوات الأمريكية لمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية؟” اجاب 69٪ ب (نعم). لكن هذا السؤال، حول مشاركة الولايات المتحدة في الاستطلاع مجلس شيكاغو، يغفل أي ذكر لما قد يكلف مثل هذا العمل، كمن يقوم بتقديم شخص على متن طائرة خاصة، دون ان نقول لهم ان عليهم أن يدفعوا فاتورة الوقود والصيانة؛ بالطبع معظم الناس سيقولون نعم. ولكن إذا كان يطلب من الأميركيين الاجابة عن السؤال بالصيغة التالية، “هل تؤيد استخدام القوات لوقف إيران حتى لو كان كلف الامر بضعة مليارات من الدولارات أو 500 حياة الجنود الأمريكيين؟” لاشك سيكون دعم العمل العسكري منخفضاً .
وبالمثل، فان سؤال الذين تم استطلاعهم عما إذا كانوا يؤيدون ان تقوم الولايات المتحدة دور “القيادة العالمية” أو انهم يدعمون “دوراً نشطاً للولايات المتحدة”، ولكن لم يكشف الاستطلاع عن ماهية التكاليف أو المقايضات التي قد تحصل مثل هذه النتائج وتلك الموجودة في التقرير يمكن أن تكون مفيدة إذا كنت ترغب في مقارنة الاتجاهات على مر الزمن، لكن لا تكشف الكثير عما يريده الشعب الامريكي حقاً، أو ما سيكون على استعداد لدفعه للحصول عليه.
ما هو مثير للاهتمام، ان مسح مجلس شيكاغو، لم يقدم بعض الأدلة حول هذه النقطة، فالذين لم يحبذوا انغماس الولايات المتحدة في الشؤون العالمية، داعين الى”البقاء خارج” مبررين هذا الموقف بضرورة معالجة المشاكل الداخلية أو بسبب عدم فاعلية التدخلات الأمريكية الماضية. وباختصار، فان الناس يعيدون النظر في عمليات النشاط العالمي جراء تكاليفه الباهظة، ويميلون الى دعمه في حال انخفاض كلفته.
كما تكشف الدراسة الفجوات بين مواقف المسؤولين الامريكيين، وبين مواقف من تم استطلاعهم، الذين اكدوا على الدفاع عن استونيا، ولاتفيا، وليتوانيا الاعضاء في حلف شمال الأطلسي، وان الولايات المتحدة عليها التزام رسمي للدفاع عنهم إذا ما ا تعرضوا لهجوم. وان 44٪ من الذين شاركوا في الاستطلاع دعموا استخدام القوة للدفاع عن دول البلطيق هذه. وابدى 47٪ منهم الموافقة على الدفاع عن كوريا الجنوبية في حال تعرضها للغزو من قبل كوريا الشمالية.
وتعارض أغلبية طفيفة بحدود 53٪ استخدام القوات الامريكية للدفاع عن إسرائيل. والوضع أسوأ فيما يتعلق بتايوان، حيث ايد 26 % من الذين شملهم الاستطلاع تدخل القوات الأمريكية في حال وقوع هجوم صيني على الجزيرة.
ويجهل معظم الأمريكيين الكثير من الشؤون العالمية، مما يعني ان أي مسح من هذا النوع ينطوي على حدس أكثر منه استنتاج. ففي عام 2006، على سبيل المثال، وبعد ثلاث سنوات من الحرب في العراق، فان 37 % من الأميركيين الشباب يمكنهم تحديد موقع هذا البلد على الخريطة. وأن 16٪ من المستطلعين في الولايات المتحدة، يمكنهم تحديد موقع أوكرانيا بشكل صحيح.
وعلاوة على ذلك، فإن الرأي العام متقلب، ويميل إلى الرد على خطاب النخبة، عندما تكون الأحداث حية، مثال على ذلك: ما يقرب من ثلثي الأمريكيين يؤيدون الآن “اتخاذ إجراءات” ضد “داعش”، وهو رد فعل واضح على عمليات قطع الرؤوس المسجلة على شريط فيديو لاثنين من الصحفيين الأمريكيين. هذا التعبير عن الدعم قد يكون صادقاً ولكن ربما ليناً، وأنه من المرجح أن يتبدد بسرعة إذا لم تسفر الحملة التي تقودها الولايات المتحدة، عن نتائج سريعة وحاسمة.
أخيرا، لا تزال هناك فجوة كبيرة بين آراء الجمهور حول السياسة الخارجية والآراء السائدة داخل النخبة حيال السياسة الخارجية. ففي عام 2009، على سبيل المثال، وجد مسح أجراه مركز بيو للأبحاث أن 50٪ من مجلس العلاقات الخارجية الأعضاء أيدوا قرار الرئيس باراك أوباما لتصعيد الحرب في أفغانستان، مقارنة مع 32 % من عامة الناس.
ووجد استطلاع بيو العام الماضي أن 51 % من الجمهور يعتقدون ان الولايات المتحدة فعلت “كثيرا” في الشؤون العالمية، ويعتقد 17 % فعلت “القليل جدا”، بينما يعتقد 21٪ من أعضاء مجلس العلاقات الخارجية ان الولايات المتحدة تفعل “الكثير “وحافظت 41 % ان الولايات المتحدة تفعل” القليل جدا “. هؤلاء في الجمهور الذي قال انه يجب على الولايات المتحدة أن تؤدي “دورا القيادة المشتركة” في العالم، يعتقد 28 % بضرورة ان تكون للولايات المتحدة “الأكثر نشاطا” من بين الدول الرائدة. ولكن 55 % من إجمالي أعضاء يعتقدون أن على الولايات المتحدة أن تكون “الأكثر حزما”.
وإذا كانت السياسة الخارجية النشطة مكلفة في بعض الأحيان، وكان الناس الذين يديرونها أكثر حماسا فالتساؤل الذي يطرح هنا؛ كيف يمكن إقناع الجمهور بالذهاب الى الحرب المحدودة او القيام بواجبات عسكرية بعينها. ولعل المبالغة بالتهديدات، وحفظ الكثير من الأشياء سرا، وإخفاء التكاليف الحقيقية، والاعلان عن الحاجة إلى تعزيز القيم الليبرالية الامريكية في الخارج. تبدو أكثر أهمية لتبرير التدخلات الدولية.
وتكشف “السياسة الخارجية في عصر التقشف” عن تناقص اعداد الامريكيين المؤمنين بسياسة خارجية ناشطة للغاية، يمكنها التقليل من المخاطر المتبقية، والحفاظ على ازدهار الولايات المتحدة، أو حماية وتعزيز القيم الأمريكية الأساسية. وإذا كانت (في الغالب) على حق، ما سوف يستغرق إقناع المؤسسات، وجماعات المصالح، والأفراد الذين ما زالوا يعتقدون أن الولايات المتحدة “لا غنى عنها” والذين يعتقدون أنه يجب أن تأخذ زمام المبادرة في حل معظم (إن لم يكن كلها)؟
اعداد مركز الروابط للبحوث و الدرسات الاستراتيجية