لا يكتفي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سعيه للدفاع عن خيارات نظامه البراغماتية بحرصه على أن تلعب بلاده دورا رئيسيا في أزمات المنطقة وإصراره على انخراط أنقرة في اللعبة العسكرية والسياسية بالملف السوري وغيره، بل يعتمد كذلك على الوسائل التكنولوجية الحديثة والاختراقات الإلكترونية، ويستخدم “الإرهاب السيبراني” ضد دول أوروبية ترفض نهجه القمعي وجهوده لإحكام قبضته على السلطة، حيث تواصل جماعات القرصنة الإلكترونية “جماعة الجنود الأسود” هجومها الإلكتروني على الغرب بشن هجمات حجب الخدمة والتشويه وفضح بعض المواقع الفردية الأوروبية كرد فعل على انتقاداتها للنظام التركي، ورغم أن الجماعة لم تعلن رسميا ولاءها للرئيس التركي إلا أن توظيفها للمشاعر القومية واستخدام ذات الخطاب الأيديولوجي لتبرير اختراقاتها وعدوانيتها يفضحان ولاءها له.
في سبتمبر 2016 بدأت النمسا تعاني مما وصفته أجهزة استخباراتها آنذاك بأنها أول موجة من الإرهاب السيبراني التي تجتاح البلاد، ففي ذلك الشهر، حدث هجوم إلكتروني على مطار فيينا، تبعه هجوم إلكتروني على البنك الوطني، وصفه متحدث رسمي بأنه أكبر هجوم إلكتروني جد في السنوات الأخيرة.
وفي نوفمبر تعرضت كل من وزارة الشؤون الخارجية ووزارة الدفاع ومواقع الجيش الاتحادي لهجمات مماثلة.
مجموعات القراصنة تعمل بشكل منفصل لتنفيذ الهجمات إما على أساس المشاعر القومية وإما لمجرد الاستفادة من الوضع السياسي الحالي
وبعد أن تتبعت المخابرات النمساوية مصدر الهجمات، وجدت أنه يصب في النهاية لصالح فرد واحد، وهو الجنرال عثمان التابع لجماعة القرصنة الإلكترونية “أسلان نفرلر تيم” أو “فريق الجنود الأسود”.
وكانت الهجمات الإلكترونية التي شنها “فريق الجنود الأسود” على النمسا من أهم وأكثر الأعمال المثيرة للاهتمام والجدل حتى الآن، ولكنها لم تكن الأخيرة أو الوحيدة من نوعها.
وفي الوقت الذي يتجه فيه أردوغان نحو تطبيق “الدكتاتورية” ما يدفعه بعيدا في علاقته عن رؤساء دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل، تتزايد الهجمات الإلكترونية من قبل “فريق الجنود الأسود”، مما يزيد الضغوط على مستقبل العلاقات التركية الأوروبية المتراجعة.
وقال كوسيمو مورتولا، محلل استخباراتي في مؤسسة “فير آي” للأمن السيبراني في لقائه مع “فايس نيوز”، “هم الآن من أبرز جماعات القراصنة الموجودة في تركيا”. وأضاف أنه “بالنظر إلى تركيز هذا الفريق من القراصنة على استهداف دول الاتحاد الأوروبي، التي هي على خلاف مع أنقرة، فقد أصبحت في المقابل واحدة من أكثر الجماعات التي تخضع للمراقبة أوروبيا”.
وهاجم قراصنة تركيا لفترة طويلة الدول الأوروبية التي يتبنى سياسيوها وجهات نظر منتقدة لتركيا بسبب سياسة أردوغان التوسعية ونهجه الذي يخالف مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
تاريخ من العدائية
لكن محاولات النظام التركي اختراق أوروبا إلكترونيا بدأت قبل ذلك التاريخ، ففي عام 2009 اخترق أحد القراصنة الموقع الخاص بالزعيم الهولندي المتطرف اليميني خيرت فيلدرز، الذي قاده موقفه المعادي للإسلام وللمهاجرين وللاتحاد الأوروبي إلى منع بريطانيا من دخوله أراضيها.
وفي الهجوم الإلكتروني، تم استبدال وجه فيلدرز “بقرد”. وقال السياسي فيلدرز لوكالة أنباء “رويترز” عن التجربة “إنها سيئة للغاية بالفعل”. إلا أن قراصنة “فريق الجنود الأسود” قد ازدادوا عدوانية في السنوات الأخيرة، في الوقت الذي يشوب علاقة بلدهم مع بروكسل احتقان وتصدع متواصل.
وقد نشأ “فريق الجنود الأسود”، الذي يعتنق الفكر القومي التركي الذي يتبناه حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، كمجموعة قرصنة بارزة في أكتوبر 2015، خاصة عندما عانت تركيا من سلسلة من الهجمات الإرهابية وأيضا من انهيار عملية السلام الكردية. وقد أدى هذا الاضطراب إلى إصرار أردوغان على قمع وسائل الإعلام ومعارضته السياسية، مما أثار قلق ومخاوف الاتحاد الأوروبي.
وتوترت العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي منذ ذلك الحين، لا سيما في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشل ضده. فبعد الانقلاب، شن أردوغان حملة تطهير واسعة النطاق وألقى بعشرات الآلاف من الجنود والمدرسين وموظفي الخدمة المدنية في السجن.
ثم تبع عملية التطهير باستفتاء عام 2016 لتمديد صلاحياته وإحكام قبضته على السلطة ورفع شعار الدكتاتورية في دولة لطالما افتخرت بمبادئها العلمانية والديمقراطية.
هذه الإجراءات التي اتخذها أردوغان أثارت تحفظ الجانب الأوروبي. وكانت النتيجة أنه في أبريل الماضي صوت برلمان الاتحاد الأوروبي على تجميد عضوية تركيا، تنديدا بسياسة القمع والاستبداد التي ينتهجها الرئيس التركي.
ومن ثم جاء دور “فريق الجنود الأسود” الذي أبدى عدم رضاه عن المواقف الأوروبية المنتقدة لسياسات أنقرة، ومنذ ذلك الوقت بدأ في شن هجماته الإلكترونية المحرجة على المواقع الإلكترونية الحكومية أو البنية التحتية لأي دولة أجنبية تشكك علنا في تركيا وترفض توجهاتها.
“جنود” القرصنة الإلكترونية
تتبعت مؤسسة “فاير آي” للأمن السيبراني “فريق الجنود الأسود” للقرصنة الإلكترونية منذ بدء ظهوره، حيث في السنوات الثلاث الأخيرة شنت الجماعة هجمات إلكترونية ضد النمسا وبلجيكا والدنمارك وألمانيا وهولندا، هذا في ما يخص دول الاتحاد الأوروبي. كما شنت الجماعة أيضاً هجمات على أرمينيا والعراق وإسرائيل والولايات المتحدة. وتقوم الجماعة بشن ثلاثة أنواع من الهجمات، بحسب ما أوضحه مورتولا، وهي هجمات حجب الخدمة والتشويه وفضح بعض المواقع الفردية، كما أنهم شاركوا أيضا في بعض عمليات تسريب البيانات.
وقال ألبير باساران الخبير في الأمن الإلكتروني التركي “إن استهداف حكومة أجنبية، وخاصة تلك التي تجمعنا بها خلفية عدائية، هو أمر شائع. هذا يعطي كل من القراصنة المبتدئين وذوي الخبرة فرصة للحصول على بعض التقدير بين أقرانهم”.
وحتى الآن لم يتم الكشف عن أعضاء الجماعة (الجنود، مثلما يريدون الإشارة إلى أنفسهم)، على الرغم من أن مؤسسة “فاير آي” قد تعقبت حوالي 50 اسما مرتبطا بالجماعة.
وعلى الرغم من ذلك، لا يوجد هناك أي دليل مادي يربط الحكومة التركية مباشرة بهذه الجماعة أو العكس، لكن المحللين يعتقدون أنه قد يكون هناك تداخل يحدث بشكل أو بآخر.
وقال زينوناس تزياراس الباحث في جامعة قبرص، “أشتبه في وجود علاقة تربط بين فريق الجنود الأسود والحكومة التركية نظرا لادعائها أنها تدافع عن الأمة التركية والإسلام، وهو ما يشبه إلى حد كبير الخطاب الأيديولوجي للحكومة الحالية”.
وفي 28 أكتوبر لعام 2017، شن قراصنة “فريق الجنود الأسود” هجوما لحجب الخدمة عن وزارة الدفاع البلجيكية ردا على موجة من أعمال الشغب حدثت عندما كانت حافلة تحوي أنصار حزب العمال الكردستاني، بمرافقة الشرطة المحلية، تسير عبر حي تركي في مدينة أنتويرب.
في ذلك الوقت، اتهم “فريق الجنود الأسود” الحكومة البلجيكية علنا بدعم حزب العمال الكردستاني، الجماعة الانفصالية الموالية للأكراد والتي وصفتها تركيا والولايات المتحدة بأنها منظمة إرهابية. كما اتهم أردوغان بلجيكا كذلك بأنها مركز يلتقي فيه مقاتلو حزب العمال الكردستاني.
وأشار باساران إلى أنه في الوقت الذي كان فيه الهجوم مدمرا، إلا أن الهجوم الإلكتروني الذي تنظمه الدولة سيظهر بشكل أكثر تقدما من الناحية التقنية. وأضاف “من المستحيل في هذه المرحلة تحديد ما اذا كان أي من الجانبين قد شارك بالفعل في هجمات (التهديد المستمر المتقدم) لأغراض استخباراتية، لكن يبدو أن هذه الهجمات يتم التخطيط لها وتنفيذها من قبل فرق ومجموعات القراصنة التي تعمل بشكل منفصل إما على أساس المشاعر القومية وإما لمجرد الاستفادة من الوضع السياسي الحالي”.
لا يوجد هناك أي دليل مادي يربط الحكومة التركية مباشرة بهذه الجماعة أو العكس، لكن المحللين يعتقدون أنه قد يكون هناك تداخل يحدث بشكل أو بآخر
ومع ذلك، وبالنظر إلى علاقة تركيا المتوترة بالفعل مع الاتحاد الأوروبي، فإن هذه الهجمات لا تحتاج لأن تتطور لتتسبب في اضطراب دبلوماسي.
ورأى فيثاغورس بيتراثوس المحاضر في جامعة أكسفورد أنه “قد لا تؤثر الهجمات الإلكترونية على المجال السيبراني فحسب، بل تنتشر وتتصاعد إلى بيئات أخرى، في هذه الحالة البيئة السياسية، مما يمكنها التأثير بشكل سلبي على عملية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي”.
وبينما لا تستطيع الهجمات الإلكترونية نفسها تحديد نتيجة عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، إلا أنها “يمكن أن تؤدي إلى تفاقم وضع هو سيء بالفعل”، بحسب ما صرح به تسياراس.
وقد أثارت الهجمات التي شنها “فريق الجنود الأسود” غضب مجموعات القراصنة الوطنية الأخرى. فعلى مدى عدة سنوات، شنت جماعة “أنونيموس جريس”، الفرع المحلي لجماعة القرصنة الدولية، هجوما إلكترونيا على “فريق الجنود الأسود”. وقد أعلنت الجماعة في الآونة الأخيرة مسؤوليتها عن اختراق موقع إحدى البلديات التركية يوم 9 يناير الماضي.
العرب