بلغت حصيلة القتلى في الاشتباكات التي وقعت على الحدود بين اسرائيل وقطاع غزة خلال الأسبوعين الماضيين [حوالي 30 فلسطينياً]. وكان آلاف الفلسطينيون في القطاع قد شاركوا في بداية موجة من الاحتجاجات أشعلتها «حماس»، الفصيل الإرهابي الإسلامي الذي يسيطر على غزة. وبينما أصرّ مسؤولو «حماس» على أن الصدامات ستسمر لعدة أسابيع، إلّا أن منافسهم في الضفة الغربية، محمود عباس، أعلن يوم حداد وطني خلال عطلة نهاية الأسبوع الأول من الاشتباكات وألقى اللوم على إسرائيل على اندلاع أعمال العنف. وتحدث هذه الاحتجاجات في سياق متفجر، وسط أزمة عميقة في عملية السلام بين الفصائل الفلسطينية نفسها، مما يزيد من خطر تفاقم الوضع في غزة وخروجه عن السيطرة. ويتشارك كل من «حماس» وعباس الرغبة في تصعيد التوتر مع إسرائيل والولايات المتحدة، ولكن ليس أكثر من ذلك. وبالفعل، لن يؤدي اندلاع العنف مؤخراً إلّا إلى تفاقم شهور من التوترات الحادة بين الطرفين الفلسطينيين المتناحرين، حيث يحاول كل منهما أن يُنسب له الفضل على اندلاع الاحتجاجات.
ويبدو أن عباس حريصاً على إثارة صدام أوسع نطاقاً. وكان قد تصدَّر عناوين الصحف الشهر الماضي لتلقيبه السفير الأمريكي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، بـ “مستوطن ابن كلب” في خطاب عاتبَ فيه سياسة إدارة ترامب. وكان الخطاب متوقعاً بالنسبة لعباس، الذي صعَّد بثبات الإهانات [ضد المسؤولين الأمريكيين] منذ خطاب ترامب حول الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل في كانون الأول/ديسمبر. ولكن في الخطاب نفسه، وجه عباس الجزء الأكبر من غضبه تجاه «حماس»، الجماعة التي أطاحت بسلطته الفلسطينية في غزة منذ أكثر من عقد من الزمن.
وفي انتقاده لاقتراح السلام لإدارة ترامب قبل صدوره، لا يخفي عباس رفضه المرتقب للخطة. ويُفكر الرئيس الفلسطيني علناً ما إذا كان سيعتمد فرض المزيد من العقوبات على قطاع غزة الذي يعاني بالفعل من الفقر، حيث ظهر ذلك في اتهامه «حماس» بالوقوف وراء انفجار استهدف رئيس وزرائه ورئيس جهاز مخابرات “السلطة الفلسطينية” في الشهر الماضي. وبالفعل، ففي خضم القلق المتزايد من تدهور حالته الصحية، يبدو أن الرئيس الفلسطيني البالغ من العمر 83 عاماً يتطلع إلى تصعيد لهجة المواجهة خلال الفترة الأخيرة من رئاسته، بغض النظر عن التكاليف.
وهذه التكاليف هي التي بدأت تثير قلق مسؤولي الأمن الإسرائيليين. فقد اتهم وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان الرئيس عباس بمحاولة إثارة حرب أخرى بين «حماس» وإسرائيل عن طريق قطع الأموال عن غزة. وردد مسؤولون أمريكيون هذه المخاوف في اجتماع عقد مؤخراً في البيت الأبيض حول الوضع الإنساني في القطاع. ولهذه المخاوف أساس راسخ. ففي الأسابيع الأخيرة، أصيب العديد من الجنود الإسرائيليين عندما قامت فصائل مسلحة في غزة بوضع عبوات ناسفة على طول السياج الحدودي. وهذه الأحداث، إلى جانب الاحتجاجات الجماهيرية المستمرة التي تقوم بها «حماس» في غزة، فضلاً عن أي عقوبات اقتصادية إضافية قد يفرضها الرئيس عباس على غزة، قد أدّت إلى شعور العديد بالقلق من صحة اتهامات ليبرمان.
إن عداء عباس بعيد كل البعد عن نبرته قبل عام عندما قال للرئيس ترامب أثناء زيارته للبيت الأبيض: “معك، سيدي الرئيس أصبح لدينا أمل”. وبالفعل، كانت رئاسة ترامب مليئةً بالتقلبات بالنسبة للقيادة الفلسطينية، التي كانت قلقة في البداية من أن إدارته ستتجاوز الفلسطينيين لصالح بناء دعم إقليمي لاتفاق سلام. وقد هدأت هذه المخاوف إلى حد كبير عندما اتصل ترامب بعباس في آذار/مارس وأخبره بأنه “شريكه الاستراتيجي” قبل دعوته إلى واشنطن. ومع ذلك، فخلال المحادثات التمهيدية التي تلت ذلك، أفادت التقارير باستمرار بأن البيت الأبيض كان يسعى إلى المزيد من التدخل الإقليمي، مما أدى إلى تأجيج الذعر الذي يشعر به الفلسطينيون منذ وقتٍ طويل إزاء التدخل الأجنبي في سياستهم.
لكن نقطة التحوّل بالنسبة لعباس كانت خطاب ترامب في كانون الأول/ديسمبر الذي اعترف فيه بالقدس عاصمة لإسرائيل، حيث شعر الفلسطينيون بالتحيز ضدهم في القضية الأكثر إثارة للمشاعر في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وبعد دقائق من الخطاب، انتقد عباس تصريحات ترامب، وأصر على أن “الولايات المتحدة لم تعد قادرة على العمل كوسيط [لعملية السلام]”. وبعد بضعة أسابيع قام بشتم ترامب علناً، ثم انتقد السفير الأمريكي في إسرائيل في الشهر الماضي. وعلى الرغم من أن البيت الأبيض وبّخ لغة عباس، إلّا أنه من غير المرجح أن يدفع الرئيس الفلسطيني ثمناً باهظاً في الضفة الغربية. فقد أظهر استطلاع أُجري مؤخراً أنه في حين أن غالبية الفلسطينيين يريدون استقالته، إلا أن غالبية أيضاً تؤيد موقف المواجهة الذي يتخذه مع الولايات المتحدة.
ولا يمكن قول الشيء نفسه عن سياساته تجاه «حماس». ففي بداية رئاسة ترامب، أعلن عباس عن موجة شاملة وغير مسبوقة منالعقوبات الاقتصادية ضد «حماس». وكانت “السلطة الفلسطينية” في الضفة الغربية قد دفعت ملايين الدولارات على مر السنين ثمن موارد محددة في غزة مثل الكهرباء ورواتب موظفي “السلطة الفلسطينية”، شريطة ألا يتوجه هؤلاء الموظفين إلى العمل في الوزارات التي تسيطر عليها «حماس». وفي حين أدى هذا الأمر فعلياً إلى دعم “السلطة الفلسطينية” لسيطرة «حماس» على غزة، إلّا أنه منع أيضاً انهياراً إنسانياً كاملاً في القطاع. وبعد أن سئم عباس من سير الأمور، أوقف هذه الممارسة في أوائل عام 2017، مما أدى إلى غرق غزة، المعزولة فعلياً، في المزيد من الظلام. ولا يحصل الشخص العادي في غزة إلّا على ساعات معدودة من الكهرباء في اليوم، بينما توقفت محطات الصرف الصحي عن العمل، وبدأت تضخ محتوياتها في البحر.
وفي ظل انتقادات حادة، خفف عباس بعض العقوبات في الوقت الذي وقّع فيه الجانبان على اتفاق مصالحة آخر في أواخر عام 2017. لكن ما أن تم اتخاذ الخطوات اللازمة لتنفيذ هذا الاتفاق حتى بدأ الطرفان في تبادل الاتهامات. ومن ناحية أخرى، في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، سمحت «حماس» لقوات “السلطة الفلسطينية” باستعادة السيطرة على عدة نقاط تفتيش داخل غزة وخارجها، لكن «حماس» تأبى التنازل عن أكثر قضيتين حساستين لها، وهما: وضع عمال الخدمة المدنية وجناحها العسكري الدائم. وأصرت الجماعة على أن تعمل “السلطة الفلسطينية” على إيجاد طريقةً لدمج موظفيها المحليين في الموازنة، بينما ترفض في الوقت نفسه حل جناحها العسكري – “كتائب القسام”.
وخلال حالة الجمود هذه، قام رئيس وزراء “السلطة الفلسطينية” رامي الحمدالله ورئيس جهاز المخابرات اللواء ماجد فرج بزيارة إلى غزة في الشهر الماضي. وبعد وقت قصير من دخولهما القطاع، أصيب موكبهما بعبوة ناسفة. ونفت «حماس» مسؤوليتها عن الهجوم، لكن المسؤولين في “السلطة الفلسطينية” سارعوا في تحميل الحركة المسؤولية عن الوضع الأمني العام. ثم ذهب عباس إلى أبعد من ذلك عبر اتهمامه «حماس» مباشرةً وتعهده باتخاذ “إجراءات وطنية وقانونية ومالية” ضد الجماعة. وبالفعل، فإن العقوبات الإضافية التي تتأرجح بالفعل على حافة الانهيار الإنساني، قد تدفع القطاع إلى حافة الهاوية، مما يؤدي حتماً إلى المزيد من عدم الاستقرار.
إن علامة الاستفهام الأكبر هي كيفية استجابة «حماس» للضغط الإضافي. فبالرغم من أنه قد سبق للانتخابات الداخلية للحركة أن نجحت في تغيير ميزان القوى لصالح قيادة الجناح العسكري المحلي، إلى أن قائد «حماس» في غزة يحيى السنوار رسم مساراً واقعياً من دون شك، حتى أنه عرض التخلي عن سيطرة «حماس» المدنية على غزة (مع إصراره على احتفاظها بجناحها العسكري) وإعادة مواءمة الجماعة مع مصر، العدو اللدود لمؤيدي «حماس» التقليديين في تركيا وقطر. وقدّر السنوار أن من شأن المصالحة مع “السلطة الفلسطينية” والعلاقات المحسنة مع مصر أن يعودا بفوائد اقتصادية وإنسانية كافية إلى غزة تفوق كل من قد يتهمه بالاسترضاء. لكن في الأسابيع الأخيرة، يبدو أن هذه المقامرة قد فشلت، الأمر الذي أرغم السنوار على الابتعاد عن الأضواء – حيث ظهر مرةً واحدة فقط في الأيام الأخيرة [التي سبقت الأسبوع الأول من الاشبتاكات] – ومهد الطريق أمام ظهور المزيد من عناصر المواجهة في «حماس» مرةً أخرى في المقدمة.
وبالفعل، يبدو أن عناصر المواجهة في «حماس» آخذة في الازدياد. وإذا وضعنا حادث انفجار موكب “السلطة الفلسطينية” جانباً، فقد بلغت خطابات الجماعة فيما يتعلق بعباس و”السلطة الفلسطينية” مستويات غير مسبوقة، حيث وصف بعض المسؤولين في «حماس» الرئيس عباس بأنه “جرثومة“، وحكمه غير شرعي. وبالمثل، يتبع نهجه تجاه إسرائيل نمطاً مألوفاً جداً على نحوٍ مشؤوم. فعندما واجهت «حماس» الأزمات الداخلية في غزة سابقاً، اختارت في كثير من الأحيان صرف الانتباه عبر التصعيد العسكري مع إسرائيل. ويبدو أن الهجمات الأخيرة بالعبوات الناسفة ضد الجنود الإسرائيليين والاحتجاجات الجماهيرية تتبع طريقة العمل هذه. وفي الواقع،اعترفت «حماس» بأن بعض جنودها كانوا يقودون الاحتجاجات ضد إسرائيل في نهاية الأسبوع [الأول على الأقل]. وفي حين أنه من غير الواضح أن «حماس» تسعى إلى [شن] حرب شاملة، إلّا أنّ هذه التصعيدات ستزيد بشكل كبير من فرص خروج الوضع عن السيطرة.
لكن «حماس» المحاصرة لا تشكل نصراً واضحاً لعباس أيضاً. فمنذ الانقسام الفلسطيني في عام 2007، يميل الرأي العام الفلسطيني إلى توزيع اللوم بالتساوي تقريباً بين «حماس» و”السلطة الفلسطينية” بقيادة عباس فيما يتعلق باستمرار التشتت. لكن هذا الواقع تغير منذ أن بدأ اتفاق المصالحة الأخير بالتعثر، حيث يلقي أغلبية الفلسطينيين اللوم على عباس و”السلطة الفلسطينية” بسبب الفشل: 45 في المائة في استطلاع الرأي الأخير ذاته مقارنةً بـ 15 في المائة من الذين يلومون «حماس». وفي ظل تخطي عباس سنين شرعيته الانتخابية – ورغبة 68 في المائة من جمهوره في تنحيه – لن تؤدي مقاربته المتشددة تجاه غزة إلّا إلى زيادة الخلل في النظام السياسي الفلسطيني الأوسع نطاقاً.
بالإضافة إلى ذلك، أدى نهج عباس تجاه غزة إلى تعميق عزلته الدبلوماسية. ففي حين أن مخاوفه مشروعة فيما يتعلق بالجناح العسكري لحركة «حماس» ، إلّا أن عدم مرونته قد أثارت عداء مصر وأقنعت عدداً كبيراً من المسؤولين الأوروبيين بأنه غير مهتم بتحسين وضع سكان غزة. وكان المجتمع الدولي قد تردد حتى الآن في تجنب عباس عندما تعلق الأمر بتنفيذ أي مشاريع في غزة، إذ لا يزال العالم يعتبر “السلطة الفلسطينية”، وليس «حماس»، الممثل الشرعي للفلسطينيين. ومع ذلك، قد تختار بعض الجهات الفاعلة الدولية التخلي عن اعتبارات دبلوماسية غامضة عندما تواجه انهياراً إنسانياً وشيكاً وصدامات عسكرية محدقة ورئيساً فلسطينياً يبدو عازماً على عدم فعل أي شيء من أجل غزة. ومن خلال سعي عباس إلى الضغط على «حماس»، قد يجد نفسه في النهاية أكثر عزلةً على المستوى الدولي مما هو عليه اليوم، وفي موقف أكثر هشاشةً فيما يخص ادعائه بتمثيل جميع الفلسطينيين.
وتوحي نبرة عباس وأعماله القتالية الأخيرة بأنه يهتم أكثر بتراثه وأقل بتداعيات سياساته. ففي غزة، يبدو أن «حماس» المحاصرة تقوم بمحاكاة قواعد اللعبة التي أدت إلى انلاع حروب سابقة مع إسرائيل. ولا يبدو أن أياً من الطرفين مهتم بشكل خاص بتخفيف حدة التصعيد. ومع استمرار الاحتجاجات، يتعين على المجتمع الدولي – وخاصةً تلك الدول التي لديها القدرة على كبح جماح الفصيلين الفلسطينيين على حد سواء – أن يعمل على تهدءة الأوضاع. فعلى المدى القصير، يجب أن تتمثل الأولوية بتخفيف حدة التصعيد وضمان عدم اندلاع حرب جديدة. أما على المدى الطويل، فيتطلب الاستقرار في غزة التعامل مع الأزمة الإنسانية هناك. لذلك، يجب أن يختار عباس و”السلطة الفلسطينية” إما أن يكونا شريكين في تقديم الإغاثة لأبناء وطنهم في غزة، وإما أن يتم تجاوزهما في الجهود الدولية الرامية إلى تقديم هذه الإغاثة.
غيث العمري
معهد واشنطن