ما إن أنهى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خطابه الذي أعلن فيه انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، حتى هاجمت إسرائيل موقعا في منطقة الكسوة (نحو 22 كيلومترًا عن جنوب غرب العاصمة السورية دمشق)، وقد زعمت إسرائيل أنّ إيران نصبت فيه صواريخ موجهة ضدها. ويأتي الهجوم في سلسلة هجمات إسرائيلية زادت وتيرتها خلال الأسابيع الأخيرة، وطالت الوجود الإيراني في مختلف أنحاء سورية، كان آخرها قصف طائرات إسرائيلية، في 29 نيسان/ أبريل 2018، أهدافا إيرانية في ريفَي حلب وحماة. ويعتقد أن ذلك القصف استهدف صواريخ إيرانية حديثة من نوع “قيام 1” يصل مداها إلى نحو 800 كيلومتر، وتحمل رأسًا يزن 750 كيلوغرامًا، وهي تنصب في الأراضي السورية أول مرة. وتسبّب القصف والانفجارات التي حدثت من جرائه، في هزةِ أرضيةٍ في المنطقة، وصلت قوتها إلى 2.6 درجة على مقياس ريختر، على نحوٍ دلّ على أن الانفجارات وقعت في مخازن تحت الأرض، وأن الصواريخ التي قصفت الأهداف كانت خارقة للتحصينات.
في اليوم التالي لهذا العدوان، شن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حملةً ضد المشروع النووي الإيراني بعرض تلفزيوني، أعلن خلاله حصول الموساد الإسرائيلي على أرشيف الملف النووي العسكري الإيراني القديم، وادّعى أن إيران خدعت المجتمع الدولي بشأن ملفها النووي.
بين التصعيد والاستدراج
بدأت إسرائيل تولي الوجود العسكري الإيراني في سورية أهمية قصوى، منذ خريف 2017؛ لاعتقادها أن الحرب في سورية توشك على الانتهاء، بعد أن وضعت روسيا وإيران ثقلهما بقوة وراء النظام السوري لحسمها عسكريًا؛ ولاعتقاد إسرائيل أن إيران عزّزت وجودها العسكري في سورية، وهي تسعى إلى البقاء طويلًا فيها، بعد انتهاء الحرب، ولاستخدام هذا الوجود العسكري قوة احتياط ضد إسرائيل عند الضرورة إلى جانب قوة حزب الله.
وفي الأسابيع الأخيرة، أكد كل من رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع أفيغدور ليبرمان، ورئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، غادي أيزنكوت، تصميم إسرائيل على منع تعزيز الوجود العسكري الإيراني في سورية، حتى وإن أدى ذلك إلى
مواجهة عسكرية شاملة مع إيران وحزب الله. وأكد ليبرمان، في تعليقه، على إمكانية أن تزود روسيا سورية بمنظومات صواريخ متطورة، أو إمكانية أن تستخدم القوات الروسية في سورية منظومة الصواريخ المتطورة التي تملكها ضد الطائرات الإسرائيلية، أن إسرائيل ستردّ وتقصفها سواء أطلقها السوريون أم القوات الروسية في سورية. وتشمل الخطوط الحمراء الإسرائيلية، فيما يخص الوجود العسكري الإيراني في سورية، الصواريخ الإيرانية المتطورة المتوسطة والقصيرة المدى والطائرات المسيرة، ومصانع إنتاجها ومنظومات الدفاع الجوي المختلفة التي أحضرتها إيران إلى سورية، أو قد تحضرها، وأيّ أسلحة نوعية أخرى تعدّها تعزيزًا للوجود العسكري الإيراني في سورية، إضافة إلى إبعاد القوات العسكرية الإيرانية والمليشيات الحليفة لها عن حدود الجولان السوري الذي تحتله إسرائيل.
من الواضح أن المؤسستين، السياسية والعسكرية، في إسرائيل متفقتان على استهداف إيران، كلما حصل اختراق لهذه الخطوط الحمراء. ويبدو من خطابهما العلني المستفز والمهين لإيران، ومن توجيه الضربة العسكرية تلو الأخرى لقواتها العسكرية في سورية، ليس لتدمير أسلحتها النوعية فقط، وإنما لقتل جنودها وضباطها أيضًا، كما أقرّ بذلك علنًا مسؤولون إسرائيليون، أنهما تعملان أيضًا على استدراج إيران إلى مواجهة عسكرية. صحيحٌ أن إسرائيل شنت هجماتها الأخيرة ضد الوجود العسكري الإيراني في سورية، وهي تدرك أن هذه المرحلة بالذات هي مرحلة حرجة لإيران وحزب الله، إذ جاءت عشية اتخاذ الرئيس الأميركي قراره الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وكذلك عشية الانتخابات النيابية في لبنان التي شارك فيها حزب الله بكل ثقله؛ ومن المستبعد أن يردّا على الهجمات الإسرائيلية في هذه المرحلة بالذات. ولكن، لا يفسر هذا استمرار الضربات الإسرائيلية، وعدم رد إيران عليها. وإذا كان من تأثيرٍ لهذا الأمر، فإنه ليس حاسما. فكما هو واضح، اتخذت إسرائيل قرارًا إستراتيجيًا بمنع تعزيز الوجود العسكري الإيراني في سورية، حتى إن أدى ذلك إلى مواجهة عسكرية شاملة. ولعل إسرائيل باتت في الفترة الأخيرة في المنطقة الرمادية التي تعدّت فيها تطبيق خطوطها الحمراء، واقتربت كثيرًا من استدراج إيران للرد، لتوجّه ضربات مؤلمة ضد الوجود الإيراني في سورية، مستغلةً وجود إدارة أميركية، تدعمها من دون شروط.
في مقابل الإصرار الإسرائيلي، ثمّة إصرار من إيران حتى الآن على تعزيز وجودها العسكري في سورية. ولكن الاعتداءات الإسرائيلية على أهداف إيرانية، وتكبيدها خسائر كبيرة في المعدات والأرواح، إلى جانب المعلومات الدقيقة التي تملكها إسرائيل عن تفاصيل الوجود العسكري الإيراني في سورية، وتمكّن الموساد من سرقة أرشيف البرنامج النووي الإيراني من قلب طهران؛ من دون أن ترد إيران عليها، كلها عوامل وضعت إيران في وضع حرج وصعب للغاية.
الموقف الروسي
تولي إسرائيل الموقف الروسي من الحرب في سورية أهمية كبيرة، وهي تدرك أن روسيا الدولة الوحيدة القادرة، إن أرادت، على أن تحدّ من الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على
سورية. وهي تعرف أيضًا أن روسيا في حاجةٍ إلى القوات العسكرية الإيرانية، ومليشياتها الشيعية في الحرب ضد المعارضة السورية المسلحة، من أجل استكمال بسط نفوذ النظام السوري في أنحاء سورية.
ومن المتوقع أن يسعى نتنياهو، في اجتماعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في زيارته موسكو اليوم الأربعاء (9 مايو/ أيار 2018)، وهو الاجتماع الثامن بينهما في أقل من عامين، إلى التوصل إلى تفاهماتٍ بشأن الوجود العسكري الإيراني في سورية والخطوط الحمراء الإسرائيلية. ومن غير المستبعد أن يتم التفاهم بينهما على منع تعزيز الوجود العسكري الإيراني النوعي في سورية الذي قد يستخدم مستقبلًا ضد إسرائيل، مقابل قبول إسرائيل بوجود القوات العسكرية الإيرانية ومليشياتها الشيعية في سورية، شريطة أن يتم تسليحها، وتسليح النظام السوري، وفق مقتضيات الحرب ضد المعارضة السورية المسلحة، وليس ضد إسرائيل. وإن لم تستجب إيران لذلك فسوف تستمر روسيا في احترام الخطوط الحمراء الإسرائيلية في سورية. ومن المحتمل أن يعرض نتنياهو على بوتين استعداد إسرائيل لتعزيز قوة النظام السوري، والعمل لاحقًا على تأهيله مقابل إضعاف النفوذ الإيراني في سورية، والحفاظ على الخطوط الحمراء الإسرائيلية.
عرض نتنياهو التلفزيوني والملف النووي
لم يكشف نتنياهو جديدًا ذا قيمة في عرضه الديماغوغي التلفزيوني بشأن الملف النووي الإيراني باستثناء كشفه عن تمكّن جهاز الموساد من سرقة أرشيف المشروع النووي الإيراني العسكري القديم. وثمة شبه إجماع على أن ما عرضه نتنياهو كانت قد عالجته، وتطرّقت إليه تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأن نتنياهو لم يقدّم أي دليل على أن إيران طوّرت مشروعها النووي العسكري بعد عام 2009، وأنه لم يجرؤ على ادّعاء أن إيران خرقت الاتفاق النووي، علمًا أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أكدت، في تقاريرها الأحد عشر، أن إيران التزمت بالاتفاق النووي ولم تخترقه منذ وقّعته.
كان هدف نتنياهو من كشفه الأرشيف النووي الإيراني القديم بهذا الشكل، بعد أن نسّق ذلك مع الرئيس ترامب، مساعدة الأخير في اتخاذ قرار الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، والضغط على أوروبا لإعادة النظر في موقفها من الاتفاق، من أجل تعديله جذريًا أو الانسحاب منه. وباستثناء الرئيس ترامب، لم يقبل أحد من قادة الدول الكبرى، سيما الدول التي وقّعت الاتفاق النووي الإيراني، الذين أجمعوا على ضرورة التمسّك بالاتفاق النووي الإيراني. وقد طالب بعضهم إلى جانب تمسّكه بالاتفاق، بالتفاوض مع إيران بشأن ملفات أخرى، لم تكن جزءًا من الاتفاق النووي، مثل تطوير إيران الصواريخ البالستية، ودورها الإقليمي في المنطقة.
إلى جانب ذلك، ظلت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي تتفق اتفاقًا تامًا مع نتنياهو بشأن الوجود العسكري الإيراني في سورية، متمسكة بموقفها، بأهمية الحفاظ على الاتفاق النووي الإيراني، وعدم انسحاب الولايات المتحدة الأميركية منه، وذلك على الرغم من اعتقادها في وجود ثغرات في الاتفاقية، لا سيما فيما يخص مدتها الزمنية. فالاتفاق النووي، وفق وجهة نظرها، يجمد المشروع النووي الإيراني عشر سنوات على الأقل، ما يفسح المجال للجيش الإسرائيلي ليستعد جيدًا للخيار العسكري، إذا ما اقتضت الضرورة ذلك، ويهتم، في الوقت نفسه، بمواجهة الوجود العسكري الإيراني في سورية.
احتكار السلاح النووي
برز نتنياهو أكثر من غيره من القادة الإسرائيليين، في دعوته العلنية الدائمة إلى إزالة البنية
التحتية كليةً للمشروع النووي الإيراني؛ إما بواسطة ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، تقوم بها الولايات المتحدة وإسرائيل، أو بواسطة فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية الخانقة والمؤلمة على إيران، إلى أن تؤدي إلى إرغام النظام الإيراني على إنهاء البنية التحتية لمشروعه النووي، أو إلى إسقاط النظام واستبداله بنظام جديد، يتخلى عن المشروع النووي. وقد عارض نتنياهو، طوال السنوات الماضية، بشدة التوصل إلى أي حل سلمي للمشروع النووي الإيراني إذا لم يضمن إنهاء هذا المشروع برمته في شقّيه المدني والعسكري، واختلف بشدة في هذا الشأن مع إدارة باراك أوباما، وعارض بشدة “اتفاق جنيف التمهيدي” الذي عقد في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، و”اتفاق الإطار” الذي أُبرم في نيسان/ أبريل 2015، والاتفاق النووي النهائي الذي جرى التوصل إليه في تموز/ يوليو 2015 بين الدول الست العظمى وإيران.
ادّعى نتنياهو وقادة إسرائيل الآخرون أن المشروع النووي الإيراني، وأي مشروع نووي آخر في الشرق الأوسط، يمثّل خطرًا وجوديًا على إسرائيل، علمًا أن الحقيقة مناقضة لهذا الادّعاء تمامًا؛ فإسرائيل باتت، منذ عقود طويلة، دولة نووية تمتلك ترسانة كبيرة من القنابل النووية والهيدروجينية والنيوترونية. وتمتلك أيضًا الطائرات المتطورة والصواريخ لإيصال هذه القنابل إلى أهداف تبعد عنها مئات بل آلاف الكيلومترات. ولها القدرة على توجيه الضربة النووية الثانية بواسطة الغواصات التي زودتها بها ألمانيا في العقدين الماضيين، والتي بمقدورها أن تدمر مدنًا كاملة تدميرًا شاملًا. وتملك إسرائيل في القدس مركز قيادة وسيطرة لإدارة حرب نووية، وهو محصّن ومحمي من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى. وفي الحقيقة، لا تهدف الحملة التي تقودها إسرائيل ضد إيران وبرنامجها النووي إلى الدفاع عن الوجود كما تدّعي، وإنما للحفاظ على احتكار إسرائيل السلاح النووي في الشرق الأوسط، ومنع أي دولة أخرى من الحصول عليه؛ فقد بات احتكار إسرائيل السلاح النووي جزءًا من نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، وغدا من أهم عوامل الاستقواء والعدوانية والتوسع التي تتبعها في المنطقة.
خاتمة
يتصرف نتنياهو منذ سنوات من منطلق أنّ لدى إسرائيل فائضًا من القوة يمكّنها من تحقيق أهدافها المختلفة، إذا ما أحسنت استغلال الوضعين، الإقليمي والدولي. ومنذ فوز الرئيس ترامب، عمل نتنياهو على إقناعه بضرورة الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، لا سيما أنه عارضه بشدة في حينه. أما فيما يخص الوجود العسكري الإيراني في سورية، فإن نتنياهو يسعى، بعد أن وجّه سلسلة من الضربات العسكرية الموجعة للقوات الإيرانية في سورية، من دون أن تتجرأ إيران على الرد حتى الآن، إلى التوصل إلى تفاهم مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في اجتماعه به اليوم في موسكو يضمن عدم تعزيز الوجود الإيراني في سورية بالأسلحة النوعية، في مقابل عدم معارضة إسرائيل استمرار وجود القوات الإيرانية في سورية، إلى أن تنتهي الحرب فيها، شريطة تسليحها فقط وفق مقتضيات الحرب ضد المعارضة السورية المسلحة، وليس ضد إسرائيل.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات