الجغرافيا السياسية لمناطق النفوذ الإقليمى .. وأين نحن منها؟

الجغرافيا السياسية لمناطق النفوذ الإقليمى .. وأين نحن منها؟

هذه هى ما يمكن أن نسميها بالإزاحة نحو الشمال، وهى إزاحة جغرافية ــ سياسية. إن قوة دفع هائلة، ناعمة وخشنة، تجرى من حولنا، تحاول أن تذهب بنا بعيدا نسبيا عن محيطنا الطبيعى فى الوطن العربى والإقليم العربى ــ الإفريقى، وأن تلحقنا بمجال جغرافى ــ سياسى ربما ليس هو الأكثر ملاءمة لنا بالمقياس التاريخى ــ الحضارى.
والذى يجرى هو صراع بين قوتين: قوة الدفع الاصطناعية، وقوة الجذب الطبيعية. الأولى يتم التوسع فيها باتجاه البحر الأحمر بدءا من مضيق باب المندب تليه منطقة القرن الإفريقى (إريتريا والصومال وإثيوبيا) وصولا إلى مدخل ومخرج خليج العقبة مرورا بخط تيران وصنافير، ثم خليج السويس وميناء «العين السخنة» ــ حيث بداية خط «سوميد» لنقل شحنات البترول ــ الذاهب للإسكندرية. وعودة إلى رأس خليج السويس حيث «اللوجستيك الكبير»، وخاصة من طرف الصين، باتجاه قناة السويس إلى أقصى الشمال مرورا بالمنطقة الاقتصادية الروسية المُزْمَعة، وذهابًا إلى ميناء بورسعيد وقناة شرق التعريفة، وربما بمحاذاتها، على ساحل المتوسط دائما، عند كل من «إدكو ــ رشيد» ــ القديمة والجديدة ــ وميناء ومدينة دمياط حيث تقبع فيهما المحطتان الرئيسيتان لإسالة الغاز.
هذه قوة الدفع، وإن شئت فقل: قوة الطرد للكتلة المصرية باتجاه الشمال.
وإن مركز الزلزال الجيوبوليتكى الجارى حاليا يكمن عند الساحل العربى الشرقى للخليج من ناحية العربية السعودية والإمارات زحفا إلى الشمال حتى قطر. وأما عند الطرف الجنوبى من الخليج، باتجاه سلطنة عمان، فهنالك مضيق هرمز حيث تجرى محاولة للطرد أو الدفع لإيران لتلزم حدودها البرية ــ البحرية بالكاد ناحية الشرق.

***
ذلكم هو الصراع الكبير على مناطق النفوذ فى الرقعة الفسيحة لمداخل الخليج والبحر الأحمر والقرن الإفريقى وخليج السويس وخليج العقبة وقناة السويس حتى شاطئ المتوسط. ولعله صراع على امتلاك نقاط القوة على المسالك والمعابر والمضائق وقنوات الوصل، فى عصر قادم للعولمة الشاملة من قِبل الأقطاب فى عالم «تعددية الأقطاب»: ما بين أمريكا وأوروبا الغربية (محور بون ــ باريس) وروسيا (الأوراسية) والصين (الحزام والطريق).
فى عالم العولمة المستهدف ذاك، يصبح الشعار الرمزى الذائع حول (القرية الكوكبية) واقعا فعليا، فيصير صراع القوة الأزلى بين الجماعات البشرية صراعا ــ فى هذه المرحلة ــ على خطوط الوصل ونقاط القطْع، للتحكم فى المرور والعبور ومن ثم توزيع العمل الدولى.
فلعله إذن إيذانٌ بتجسيد ــ فى شكل مختلف ــ لشعار آدم سميث الأثير القادم صوته من أواخر القرن الثامن عشر (1776): دعه يعمل، دعه يمر أو بتعبير آخر غير مختلف: حرية العمل والعبور ــ أو النقل والانتقال. فمن ذا الذى سوف يقبض بيديه على ناصية النقل والعمل؟ هنا يقع مكمن الصراع وجذره «الجغرا ــ تاريخى» إن صح التعبير.

***
تحكم مقتضيات الصراع بأن عصر الغاز وما يتبقى من البترول خلال نصف القرن القادم ويزيد، تحكمه القوى الكبرى القابضة على ناصية القوة الاقتصادية ــ التكنولوجية، ما بين إمبرياليات قديمة غاربة، أوروبا «العجوز»، وإمبريالية صاعدة توشك على انحدار قريب ــ أمريكا، وقوى طامحة، غير إمبريالية بالمعنى العلمى فيما نرى: أبرزها الصين الاقتصادية وروسيا العسكرية، وحواف هامشية محتجزة لدول مثل الهند والبرازيل.
وإذْ يعمل مركز الزلزال الجهوى المشتغل من الساحل العربى للخليج فى الإقليم العربى ــ الإفريقى باتجاه محور الدائرة الأطلسى، أمريكيا بالذات، ليعكس تفاهما مأمولا لخلق منطقة نفوذ فرعية معينة عند مداخل ومضائق الخليج، وعلى طول البحر الأحمر، تكون هذه المنطقة ذات المركز الزلزالى النوعى، نُظَيْما فرعيا ضمن المنظومة الأوسع ذات المركز الغربى الشمالى من العالم، ولو إلى حين.
وإن الجائزة الكبرى فى هذا الصراع الاستراتيجى المعقد والممتد هى (اليمن) شمالا وجنوبا، من أرخبيل سقطرى ومضيق باب المندب، إلى المكلا وعدن والمخا والحديدة.. لكأنها (عقدة المواصلات) فى الإقليم العربى الإفريقى كله أو هى قطب للتفاعلات المستقبلية فى العالم التواصلى الجديد، أو قطبان متقابلان: جاذب ومنجذب.

***
أما مصر فلن تذهب خالية الوفاض على كل حال، ولسوف تتم طمأنتها بالتأكيد على مصالحها (المائية) عند إثيوبيا، بتفاهم نوعا ما مع السودان، بينما تتم مقاسمة المصلحة جزئيا مرة أخرى عبر موانئ العين السخنة وخط سوميد والاستثمار فى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس وفى جنوب سيناء أيضا. ولسوف تجرى محاولة «الدفع» بها إلى الشمال المتوسطى ليس بحكم الأمر الواقع فقط، ولكن أيضا بالإقناع الناجم عن لغة المصلحة تلك، وعن أمر آخر مهم ــ ما هو؟
إنه العمل على اندماج مصر فى دورة اقتصادية ــ إقليمية على البحر المتوسط، عبر مشروع التحول إلى مركز إقليمى ــ شبه دولى لوجسيتى لتداول الغاز، بالتسييل وإعادة التصدير. وتدخل مصر بذلك فى سوق تنافسية بضراوة مع الغاز الروسى الممتد من السيل الشمالى، عبر البلطيق، مرورا بالخط الحالى عبر أوكرانيا، وصولا إلى مشروع «السيل الجنوبى» بالتعاون مع تركيا. وغير بعيد أيضا، مشاريع تتجير الغاز الإيرانى والقطرى شرقا (آسيويا) وغربا (أوروبيا) بالإسالة أو بدونها.

***
إن كل ما سقناه بالإشارة إلى مصر حتى الآن يتعلق بوجه واحد أشرنا إليه فى البداية بما أسميناه «قوة الدفع» أو هى الإزاحة باتجاه الشمال، وصولا إلى المتوسط ثم أوروبا، حيث الشبكة الإقليمية للغاز بالذات.
ولكن ماذا عن قوة الجذب؟ هذا يتعلق بإمكانيات واحتمالات الانجذاب المصرى الطبيعى بفعل سِنِى التاريخ الحضارى وكذا التطلع المستقبلى، ناحية الرقعة الفسيحة للإقليم العربى ــ الإفريقى: عربيا بحكم الانتماء القومى والنزوع العروبى المتولد عنه، وإفريقيا بحكم ضرورات الموقع والموضع Situation & Location باعتبار مصر ممثلة لأقصى الرأس الشمالى للقارة، وحلقة الوصل بين أوروبا وآسيا عبر بوابة البحر الأحمر، باعتبارها بحرا عربيا وإفريقيا أيضا. هنالك أيضا أمر مهم باعتبار مصر دولة نيلية بامتياز وأحد الأضلاع الكبرى «لحوض النيل» الممتد إلى البحيرات الاستوائية وخاصة بحيرة فيكتوريا، فى جوار لصيق مع سائر دول الحوض: (رواندا والكونغو الديمقراطية وأوغندا وكينيا وإثيوبيا وإرتيريا وتنزانيا والسودان وجنوب السودان).
مصر تشدها إذن روابطها التاريخية ــ الحضارية وروابطها المصلحية ــ الآنية فى آن معا بسائر إفريقيا (وإن حضارتها القديمة، حسب «أنتى ديوب»، زنجية العصب) ــ وهى، قبل كل ذلك، تشدها روابطها القومية مع سائر أجزاء وطنها العربى الكبير مشرقا ومغربا، حيث يرتبط أمنها (الوطنى) بأوثق العُرى مع الأمن القومى للأمة العربية ككل.
لذلك، ندعو بالإجمال إلى موازنة قوى الجذب بقوى الدفع، أو موازنة الدفع بالاندفاع، عن طريق استراتيجية عُليا توازنية دقيقة، بحكم الموقع والموضع، وبحكم دوائر الانتماء لجمهورية مصر العربية.
ونشير فى هذا المضمار إلى أهمية أن (تفرض) مصر نفسها شريكا (بدون دعوة) فى أى مساومات ومفاوضات جارية أو ستجرى بشأن ترتيبات اللوحة الجيوبوليتيكة الكبرى. وليس يكفى هنا أن تكتفى مصر بنقاط التماس المصلحى من قبل (مركز الزلزال) فى الشطر المصرى من البحر الأحمر وخليجى السويس والعقبة وقناة السويس، وإنما أن تكون (صاحب بيت) أو «أحد أصحاب البيت»، فليست ضيفا، أوْ ليست مجرد ضيف.
مصر بهذه المثابة لابد أن تكون مكونا (أقاليميا) فاعلا فى كل ما يجرى من ترتيبات للمنطقة المتشعبة ذات الأهمية الجيو ــ استراتيجية فى عالم المستقبل التواصلى، ابتداء من مضيق باب المندب، إلى معابر القرن الإفريقى، ثم التعامل مع متغيرات الجوار الإثيوبى على النهر.
أستاذ فى معهد التخطيط القومى ــ القاهرة

الاقتباس
تحكم مقتضيات الصراع بأن عصر الغاز وما يتبقى من البترول خلال نصف القرن القادم ويزيد، تحكمه القوى الكبرى القابضة على ناصية القوة الاقتصادية ــ التكنولوجية، ما بين إمبرياليات قديمة غاربة، أوروبا «العجوز»، وإمبريالية صاعدة توشك على انحدار قريب ــ أمريكا، وقوى طامحة، غير إمبريالية بالمعنى العلمى.