في 26 تشرين الثاني/نوفمبر، قَبِل لبنان مساعدات عسكرية روسية بقيمة 5 ملايين دولار، حيث أشار مكتب رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري إلى أن “قوات الأمن الداخلي في وزارة الداخلية ستستفيد” من الأموال القادمة. وقد سعى الكرملين لسنوات إلى إقامة علاقات دينية وثقافية واقتصادية وعسكرية في بيروت كجزء من استراتيجية تهدف إلى توسيع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، والارتقاء بدور صانع السلام، وتهميش الولايات المتحدة. ولطالما قاوم لبنان بصورة تقليدية هذه المبادرات العسكرية، لذلك يعتبر التحوّل الأخير فوزاً للرئيس فلاديمير بوتين. فالقيمة الرمزية للهبة الصغيرة تفوق جوهرها بكثير، وتسلط الضوء على أهداف موسكو الإقليمية ومصلحة الحريري في الحفاظ على العلاقات الثنائية الجيدة، على الرغم من تحفظات «حزب الله» وإيران.
مبادرات في المجالات العسكرية والطاقة والتبادل التجاري
على مدى أكثر من عقد من الزمن، رفضت بيروت صفقات عسكرية روسية مختلفة، وعادة ما كان يحصل ذلك بعد قيام واشنطن بتذكيرها بالمساعدات الأمريكية الكثيرة التي تلقتها قواتها خلال الفترة نفسها (1.5 مليار دولار منذ عام 2006). ففي كانون الأول/ديسمبر 2008، رفضت لبنان هبة شملت عشر طائرات مقاتلة كانت ضمن صفقة للتعاون الدفاعي هدفها تعزيز مبيعات الأسلحة الروسية وتوسيع نفوذ موسكو السياسي. وفي أواخر عام 2010، كانت الحكومتان على وشك التوصل إلى اتفاق مماثل يشمل مزيج من الهدايا والأسلحة التي تم شراؤها بأموالٍ سعودية، وذلك بالتنسيق مع سوريا وفقاً لبعض التقارير، لكن بيروت رفضت ذلك في النهاية أيضاً.
وفي الآونة الأخيرة، في شباط/فبراير 2017، بدأت موسكو العمل على صفقة أسلحة بقيمة مليار دولار، تتيح شراء الأسلحة دون فوائد لمدة خمسة عشر عاماً. وقد زُعم أن الرئيس اللبناني ميشال عون وافق على الصفقة، لكنه جمدها بعد ذلك بضغط من الولايات المتحدة. وبعد عام، وقّع رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفيديف على مسودة اتفاقية تقترح توسيع التعاون العسكري الثنائي وتعميقه، بيد رفضت بيروت التوقيع عليها حتى الآن وفقاً لبعض التقارير.
أمّا فيما يتعلق بالعرض الجديد الذي تبلغ قيمته 5 ملايين دولار، فيبدو أن موسكو أرادت أن تتلقى القوات المسلحة اللبنانية بعض التمويل، إلا أنّ واشنطن تصر على أنه لا يمكن للقوات المسلحة اللبنانية الحصول على مساعدات روسية وأمريكية في آن واحد. لكن يبدو أن الحريري قد وجد ثغرة، إذ عمل على نقل الأموال إلى قوى الأمن الداخلي.
وبالتزامن مع خدمات الدعم العسكري، سعى بوتين وراء [التوقيع على] صفقات في مجال الطاقة ومصالح اقتصادية أخرى. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2010، اجتمع مع الحريري في موسكو وأعلن عن “خطط ملموسة” لتوسيع التعاون الثنائي في مجال الطاقة والنقل. وبعد ذلك بثلاث سنوات، وقّعا اتفاقاً للتعاون في مجال الطاقة، وتم مسبقاً تحديد أهلية عدة شركات روسية من أجل دخولها في عروض المناقصة، وهي “روزنافت” و”غازبروم”، و”لوك أويل”، و”نوفاتيك”، التي كانت خاضعة للعقوبات الأمريكية منذ عام 2014. وفي كانون الثاني/يناير من هذا العام، وقّع كونسورتيوم يشمل شركة “نوفاتيك” و”توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية على اتفاقيات لاستغلال كتلتين [منطقتين] في مياه لبنان الاقليمية. وتفيد التقارير أن هذه الشركات تخطط لبدء الحفر بهدف التنقيب عن النفط والغاز في منتصف عام 2019. وعادة ما تنظر موسكو إلى مثل هذه الصفقات باعتبارها امتداداً لمجموعة أدوات سياستها الخارجية، مع هدف تحقيق المزيد من فرص الوصول [إلى المنطقة] وإظهار قوتها في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
وفي السنوات الأخيرة، وقّع البلدان أيضاً عدداً من الصفقات التجارية مما ساهم في زيادة ملحوظة في التجارة الثنائية. فوفقاً للجمارك اللبنانية، تضاعفت التجارة مع روسيا تقريباً بين عامي 2012 و2017، حيث ارتفعت من 423 مليون دولار إلى 770 مليون دولار – في قفزة كبيرة لبلد يبلغ عدد سكانه 6 ملايين نسمة.
مبادرات على نطاق الأرثوذكسية والتواصل الثقافي
لطالما استخدم بوتين الدين كأداة للسياستين الداخلية والخارجية، وجزئياً من خلال مواءمة الكرملين مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية (بالإشتراك مع جماعات يمينية متطرفة) وإحياء المهمة التاريخية لبلاده كحامية رئيسية للمسيحية الأرثوذكسية الشرقية. ويشمل ذلك التودد للطائفة الكبيرة نسبياً في لبنان، لا سيّما عن طريق “اللقاء الأرثوذكسي”، الذي تأسس في عام 2011. وأبرز أعضاء هذه المجموعة هو إيلي الفرزلي، نائب رئيس البرلمان اللبناني ووزير الإعلام السابق، الذي لطالما دعم نظام الأسد في سوريا.
وفي كانون الثاني/يناير 2014، توقّف في لبنان وفد برلماني روسي – ضمّ سيرغي غافريلوف، رئيس لجنة في “مجلس الدوما” تركز على “الدفاع عن القيم المسيحية” – وهو في طريقه إلى سوريا، والتقى بأعضاء من “اللقاء الأرثوذكسي” وشخصيات أخرى، كما انضم إليهم السفير الروسي الكسندر زاسيبكين. ودعا غافريلوف المعنيين إلى تشكيل مجلس مشترك بهدف “تفعيل التعاون على جميع المستويات”. وفي تشرين الأول/أكتوبر – تشرين الثاني/نوفمبر 2017، عقدوا سلسلة من الاجتماعات أسفرت عن دعوات تهدف إلى توثيق التعاون مع الكيانات الأرثوذكسية في لبنان، ومن ضمنها “اللقاء الأرثوذكسي”.
وفي هذا الإطار، تروّج موسكو أيضاً للثقافة الروسية في لبنان، وغالباً من خلال وكالات قد يكون لها أهداف أوسع في اعتبارها. فوفقاً لـ [شبكة] “دويتشه فيله”، أصبحت الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية (“الجمعية”) “محور نشاط الكرملين” في لبنان – وهذه “الجمعية” هي منظمة غير حكومية تم تأسيسها في عهد القيصر، وأعيد إحياؤها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وبالمثل، ظهر في لبنان على مر السنين عدد من المراكز الثقافية الروسية التي لطالما عملت كجبهات استخبارية. وتشير التقارير الصحفية إلى أنه سيبرز المزيد منها في المستقبل القريب.
لعب دور صانع السلام
سعى بوتين أيضاً إلى ترسيخ صورته كصانع سلام في لبنان، سواء بين المعسكرات المؤيّدة لسوريا أو المعارضة لها، أو مع إسرائيل. ويشمل ذلك العمل مع «حزب الله» في بعض الأحيان – حيث لا تعتبره روسيا منظمة إرهابية وقد سبق لها أن استضافت مسؤولين من «الحزب» في الماضي. إلا أنّ لدى «حزب الله» وراعيه الإيراني تحفّظات بشأن أنشطة موسكو داخل لبنان.
ويقيناً، رحب كل من «حزب الله» وإيران بتدخّل بوتين في سوريا عام 2015 لأنّهما كانا بأمس الحاجة للمساعدة في ذلك الوقت، ومنذ ذلك الحين اعتمدا بشكل كبير على المساعدة الجوية والجهود الدبلوماسية الروسية. وقد غير تدخّل موسكو مسار الحرب، مما دعم بشكل كبير «حزب الله» والوكلاء الإيرانيين الآخرين. ومع ذلك، لا يعتمد «حزب الله» على موسكو في لبنان، حيث أن مكانته أقوى بكثير، لذا فهو يميل إلى تصوّر أيّ دور روسي موسّع هناك كمنافسة لأصحاب النفوذ الخاصين به في بيروت. ولا شك في أنّ هذا هو سبب قيام جريدة “الأخبار” المؤيدة لـ «حزب الله» بالإبلاغ بحماسة وعن طريق الخطأ أنّ لبنان رفض حزمة المساعدات العسكرية الجديدة التي بلغت خمسة ملايين دولار. وعلى نحو مماثل، حققت إيران نجاحاً كبيراً في اكتساب النفوذ داخل المؤسسات السياسية والأمنية والموازية في لبنان، لذلك تفضل عدم التخلي عن أيّ من هذه السيطرة للروس.
من جانبه، يفضل الحريري دوراً أكبر للروس، وقد زار موسكو عدة مرات في السنوات الأخيرة. فهو والنخبة اللبنانية الأخرى يرون الكرملين بمثابة وسيط قادر على توفير قناة غير مباشرة بين النظام السوري وخصومه اللبنانيين.
وتستمد مصلحة موسكو جذورها من استراتيجيةٍ تصور نفسها على أنها الوسيط الأكثر مصداقية لحل الصراعات الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بالتوترات الإيرانية الإسرائيلية. ويزداد قلق العديد من المسؤولين من احتمال قيام إسرائيل بمهاجمة أهداف «حزب الله» في لبنان، حيث تفيد بعض التقارير بأن «الحزب» ينقل جهود تطوير صواريخه الدقيقة التوجيه من سوريا إلى لبنان (موضوع ستتم مناقشته مطولاً في مذكرة سياسية سينشرها معهد واشنطن قريباً). ويبدو أن روسيا تأمل في التوسط في اتفاق مثل ذلك الذي تم التوصل إليه في جنوب سوريا، وتتم فيه هذه المرة إدارة التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله» في لبنان. وللقيام بذلك، تحتاج إلى وجود أكبر في لبنان.
وفي السياق ذاته، فإن قضية اللاجئين السوريين تمنح موسكو المزيد من الفرص لإقامة مثل هذا الوجود. ففي تموز/يوليو من هذا العام، أطلقت مبادرة بالتعاون مع لبنان لإعادة اللاجئين إلى سوريا. وورد أن الاتفاق تضمّن تيسير ظروف عودتهم، وقد بدأ المئات منهم برحلة العودة. ومع ذلك، فإن هذا مجرد رقم رمزي بالمقارنة مع ما يقرب من مليون لاجئ مقيم في لبنان، وتشير التقارير الأخيرة إلى أن السلطات السورية تتجاهل ضمانات السلامة الروسية وتقوم بقتل الكثير من العائدين أو اعتقالهم.
ومن المفارقات، أن الوتيرة البطيئة الناتجة عن العودة إلى سوريا، تسمح للمسؤولين الروس بتوطيد العلاقات مع بيروت، وكسب النفوذ الدبلوماسي، والاستمرار في الضغط من أجل زيادة مشاركتهم. على سبيل المثال، تُفيد بعض التقارير أنهم اقترحوا على نظرائهم الأمريكيين أن تقوم روسيا بنشر فرقة تابعة لشرطتها العسكرية على مسافة عشرين كيلومتراً داخل لبنان لتسهيل عودة اللاجئين السوريين. وقد ورد أن جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي، رفض هذا الاقتراح، إلاّ أنّ موسكو مستمرة في سعيها لإقامة وجود عسكري داخل لبنان.
الخاتمة
على الرغم من احتمال فشل مبادرات بوتين في لبنان في نهاية المطاف، إلا أنه أبدى مراراً وتكراراً رغبةً في تولّي دور قيادي هناك، واستعداداً لاستثمار الوقت والموارد اللازمة للوصول إلى هذا الهدف. وهكذا، فإنه أكثر اهتماماً بالحصول على النفوذ من إيجاد حلول حقيقية لقضية اللاجئين أو المشاكل الملحّة الأخرى. وعادة ما تكون النتيجة النهائية لمشاركة روسيا هي إدارة النزاع بدلاً من حلّ النزاعات. وبالتالي، يجب على بيروت وحلفائها الغربيين أن يكونوا حذرين من هدايا الكرملين.
وعلى نطاق أوسع، لطالما أعرب بوتين عن أمله في انسحاب الولايات المتحدة من شؤون لبنان وبقية دول الشرق الأوسط. وفي الوقت الحالي، لا تزال واشنطن تتمتع بتأثير من خلال مساعدتها للقوات المسلحة اللبنانية، وقد ساعدت هذه العلاقة على إقناع بيروت برفض الاتفاقيات الأمنية السابقة مع روسيا. ولكنّ موسكو تعمل بشكل ثابت على ملء الثغرات في أيّ مكان تكون فيه واشنطن غائبة، ومن شبه المؤكد أنها ستفعل ذلك مرة أخرى إذا جفّت المساعدات العسكرية الأمريكية للبنان.