في الثالث من كانون الثاني/يناير، أعرب وزير الخارجية العراقي محمد علي الحكيم عن استيائه من العقوبات الأمريكية على إيران، مشيراً إلى أن “العقوبات، والحصار، أو ما يسمى بالحظر، هي أحادية، وليست دولية. ونحن لسنا ملزمين بـ [اتباعها]”. وجاءت التعليقات بعد أسبوعين من إصدار الولايات المتحدة إعفاءً لمدة 90 يوماً للسماح للعراق بالاستمرار في استيراد الغاز الطبيعي والطاقة الكهربائية من إيران. وجاء هذا التجديد بعد الإعفاء السابق الذي حصل عليه العراق لمدة 45 يوماً والذي تم تخصيصه إلى جانب إعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران في 4 تشرين الثاني/نوفمبر.
وعلى الرغم من هذه التصريحات المتحدية، أشار العراق إلى نيته الامتثال للعقوبات الأمريكية والتحرك نحو الاستقلال في مجال الطاقة، وفي الوقت نفسه طلب من واشنطن بعض المرونة فيما يتعلق بمشاكل نقص الكهرباء التي يعاني منها (خاصة خلال أشهر الصيف). وفي الأيام الـ 90 المقبلة، يتعين على الحكومتين الاتفاق على برنامج عملي لبناء الثقة والسماح بفترات إعفاء أطول زمناً، على غرار الـ 180 يوماً من الإعفاءات المتاحة لمعظم مشتري إمدادات الطاقة الإيرانية.
امتثال العراق للعقوبات الأمريكية
تُعتبر عمليات نقل الطاقة بين إيران والعراق مصدراً محتملاً للعملة الصعبة التي تشتد الحاجة إليها بالنسبة لوكالات الأمن الإيرانية. على سبيل المثال، في أيار/مايو الماضي فرضت واشنطن عقوبات على أحد البنوك العراقية الرئيسية وعلى رئيسها الذي يتمتع بصلات واسعة النطاق لدورهما في نقل ملايين الدولارات من «الحرس الثوري الإسلامي» إلى «حزب الله». كما استخدمت إيران العراق تاريخياً كمصدر للدولار الأمريكي، وهو أمر محظور بموجب العقوبات. لذا فلدى واشنطن ثلاثة مصادر قلق مستمرة تتعلق بالتجارة العراقية مع إيران:
المدفوعات للكهرباء الإيرانية. يستورد العراق ما بين 500 ميغاوات من الكهرباء من إيران في فصل الشتاء و1200 ميغاواط في فصل الصيف بتكلفة تقارب 1.2 مليار دولار في السنة. ومن ضمن شروط الإعفاء الأمريكية، يجب أن يدفع العراق مقابل ذلك بالدينار، وليس بالدولار الأمريكي.
مشتريات الغاز الإيراني. أفاد تقرير شركة “بي پي (BP) ” الخاص بـ “المراجعة الإحصائية للطاقة العالمية” لعام 2018 بأن صادرات الغاز من إيران إلى العراق بلغت 154 مليون قدم مكعب في اليوم (أو 13٪ من إمدادات الغاز العراقية الحالية) ، مما سمح لبغداد بتوليد ما لا يقل عن 1000 ميغاواط من الكهرباء، مع خطط لزيادتها إلى 4000 ميغاواط. وبموجب الإعفاء، يُطلب من العراق أن يحتفظ بإيرادات إيران من هذا الغاز في حساب ضمان [مشروط]، لا يمكن استخدامه إلا لتمويل التجارة الثنائية.
جهود إيرانية أخرى لتأمين الدولارات الأمريكية. في أواخر عام 2011، ازداد الطلب على الدولار الأمريكي في مزادات العملة التي أجراها “البنك المركزي العراقي” بأكثر من الضعف، وهو ما يقابل الانخفاض السريع لقيمة الريال الإيراني، حيث أسفرت عقوبات متعددة الأطراف عن ضغوط على الاقتصاد الإيراني. وعلى الرغم من أن البنك قد بدأ باتخاذ خطوات في عام 2015 لحظر المشترين المشبوهين رداً على مخاوف الولايات المتحدة من قيام تنظيم «الدولة الإسلامية» باستغلال المزادات، إلا أن مصادر القلق تبقى دائرة حول إمكانية وصول إيران إلى المزادات بسبب سوء التنظيم في مكاتب الصرافة وشركات الواجهة [الشركات الصورية]. إن الاستغناء عن المزادات هو احتمال بعيد، لكن البنك نجح في تخفيض ربحيتها من خلال تضييق الفجوة بين أسعار الصرف الرسمية والفعلية من 6.25٪ في عام 2017 إلى 2٪ بحلول منتصف عام 2018.
التركيز على الاستقلال في مجال الطاقة
تشجع الولايات المتحدة بغداد على تقليل اعتمادها على الغاز والكهرباء الإيرانييْن من خلال تسخير طاقتها الوفيرة وغير المستغلة. ويهدر العراق حالياً ما يقرب من 2.5 مليار دولار من الغاز الطبيعي سنوياً نتيجة حرقه، أو ما يعادل 1.55 مليار قدم مكعب في اليوم (عشرة أضعاف الكمية المستوردة من إيران). وقد حذر المسؤولون الأمريكيون العراق من أن التمديد المقبل لمهلة الإعفاء سيتطلب منه تقديم خطة واضحة تهدف إلى تحقيق الاستقلال في مجال الطاقة وإظهار خطوات ملموسة نحو التنفيذ.
تفضل واشنطن أن ينوّع العراق مصادر طاقته. وفي تموز/يوليو 2018، أعلنت المملكة العربية السعودية عن استعدادها للتعاون في خطة لتزويد العراق بالكهرباء بسعر 21 دولار لكل ميغاواط/ساعة، أي ربع تكلفة الواردات الإيرانية. وقد يكون الأردن مستعداً أيضاً لتصدير الكهرباء إلى العراق، كما وفكرت تركيا في زيادة إمداداتها عبر الحدود إلى منطقة الموصل. بالإضافة إلى ذلك، وخلال الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الطاقة الأمريكي “ريك بيري” إلى العراق، ذكر إمكانات الاستيراد المؤقت للغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة والبائعين الآخرين.
وقد تُمكّن هذه الخيارات من تقليل أسعار الواردات الباهظة الثمن من إيران. فوفقاً لشركة “بي پي (BP) “، يشتري العراق الغاز الإيراني بسعر 11.23 دولار لكل ألف قدم مكعب، مقارنة بـ 5.42 دولار دفعتها ألمانيا لشراء غاز أبعد مسافة من روسيا، أو 6.49 دولار دفعتها الكويت للغاز الطبيعي المسال، أو حتى 7.82 دولار دفعتها اليابان مقابل الغاز الطبيعي المسال.
توصيات في مجال السياسة العامة
في الأيام التسعين القادمة، تحتاج حكومة الولايات المتحدة أولاً إلى إجراء مناقشة سياسية مشتركة بين الوكالات الأمريكية لضمان أن يكون “مجلس الأمن القومي” ووزارة الخارجية ووزارة الخزانة ومجتمع الاستخبارات وإدارة الطاقة متفقين على الهدف نفسه. كما يحتاج خبراء الطاقة في هذه الوكالات إلى أن يحددوا بوضوح ما هي المقترحات الممكنة بالنسبة للعراق في إطار زمني مدته 90 يوماً. وبالمثل، يتعين على الخبراء في مجالي المال والعقوبات تقييم مخاطر تحويل المدفوعات العراقية إلى إيران، وما يتصل بذلك من قدرة المؤسسات المالية العراقية ومراقبيها على الامتثال لشروط الإعفاء. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي إصدار التمديد المقبل لمهلة الإعفاء بمدة أقل تعسفية، إلى جانب مجموعة من المؤشرات المرحلية التي يمكن تنفيذها والقابلة للقياس. وقد تشمل هذه:
كتاب أبيض [تقرير حكومي رسمي] عراقي حول استقلال الطاقة. من المنطقي توقع قيام العراق بصياغة هذا الكتاب وتصديقه من قبل لجنة الطاقة التابعة لمجلس الوزراء في غضون الـ 90 يوماً القادمة. ويجب أن يوفر التقرير خريطة طريق تحظى بالأولوية وتكون متسلسلة لزيادة احتباس الغاز وتعزيز قطاع الكهرباء بحلول صيف 2019 (على سبيل المثال، يمكن أن يشمل الجهد الأخير جمع تدريجي لمستحقات الكهرباء بمساعدة “البنك الدولي” والحد من تسرب الطاقة عن طريق تجديد شبكات التوزيع).
مذكرات التفاهم. ربما كان توقُّع قيام العراق بتوقيع صفقات كبيرة مع شركات الطاقة خلال فترة الإعفاء الأولى التي كان أمدها 45 يوماً، أمراً غير واقعي. فمثل هذه الصفقات عادة ما تكون ذات قيمة كبيرة وتتطلب موافقة مجلس الوزراء العراقي، الذي تم تشكيله جزئياً فقط في 25 تشرين الأول/أكتوبر – أي قبل أسبوع من بدء الولايات المتحدة مهلة الـ 45 يوماً. وما هو أكثر واقعية هو توقُّع قيام العراق بتوقيع مذكرات تفاهم وعناصر رئيسية للاتفاقيات مع شركات دولية في الأيام التسعين التالية. ومع ذلك، يجب على واشنطن أن تقدر أن بغداد قد تلقت عدد من المقترحات المتنافسة بشأن احتباس الغاز وإدارة قطاع الكهرباء، وبالتالي ستحاول على الأرجح الجمع بينها وإجبار مقدمي الخدمة على العمل معاً – وهي عملية بطيئة حتى في أفضل الظروف. وفي الوقت نفسه، فإن الولايات المتحدة محقة في توقعها حدوث تقدم في هذا الصيف، عندما يؤدي الجفاف والحرارة مجتمعَين إلى حدوث أزمة كهرباء جديدة تزعزع الاستقرار. ويشير ذلك إلى ضرورة وضع أطر زمنية واقعية وتحديد أولويات المشاريع التي يمكن أن تُظهر [نتائج] ذات أثر فوري.
ميثاق الطاقة بين البلدان المجاورة للعراق. يجب على الولايات المتحدة وألمانيا وأطراف أخرى العمل على ضم المملكة العربية السعودية والكويت والأردن سويّة على هامش اجتماع «تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي» الذي سيُعقد في عُمان في 9 كانون الثاني/يناير، بهدف مناقشة صادرات الكهرباء إلى العراق.
مراقبة الدولارات الأمريكية. يجب أن تواصل السلطات الأمريكية والعراقية تبادلها القوي للمعلومات المتعلقة بالاتجاهات المقلقة في الطلب على الدولار الأمريكي داخل العراق، والتحويلات البرقية المشبوهة عبر الحدود، ومكاتب الصرافة العراقية المشكوك في أمرها. فبينما يسعى العراق وإيران إلى توسيع نطاق التجارة الثنائية من 12 مليار دولار إلى 20 مليار دولار، من المرجح أن تراقب واشنطن عن كثب مثل هذا النشاط بشكل عام. كما تتمتع بفهم متعمق للمعاملات المقوّمة بالدولار التي تعتمد على الاحتياطيات العراقية الموجودة في “البنك الفيدرالي الأمريكي”.
فضح الجهات الفاعلة السيئة. ينبغي على “البنك المركزي العراقي” تحديد وحظر مكاتب الصرافة وشركات الواجهة التي تسعى إلى الوصول إلى الدولار الأمريكي نيابة عن إيران عن طريق مزادات العملة العراقية. وفي هذا الصدد، أدرج البنك في القائمة السوداء أكثر من 200 مكتب صرافة يشتبه في ضلوعها في أنشطة مالية غير مشروعة منذ عام 2015، وقد تم إدراج بعضها بصورة مشتركة مع الولايات المتحدة.
تعزيز القطاع المصرفي لمواجهة التهرب من العقوبات. إنّ الاقتصاد القائم على السيولة النقدية في العراق يجعل من الصعب الحد من تهرب إيران من العقوبات من خلال مراقبة الطلب على الدولار والتحويلات البرقية وحدها. فمن أجل إصلاح القطاع المالي للعراق، تحتاج البلاد إلى مساندة حركية [مساعدة تقديرية] وأخرى فنية في تحويل الرواتب العامة من مدفوعات نقدية إلى ديون مصرفية. وإلى جانب الجهود الرامية إلى جلب نشاط إضافي لتمويل التجارة إلى القطاع الرسمي، ينبغي على السلطات الأمريكية والعراقية التواصل مع البنوك والشركات المالية والجهات الفاعلة التجارية في القطاعات الرئيسية، وزيادة الوعي حول المعايير القانونية للعقوبات الأمريكية والنتائج المحتملة لممارسة الأعمال التجارية مع بعض الكيانات الإيرانية. كما ينبغي على واشنطن أن تقدم مساعدة فنية لزيادة قدرة المنظّمين على تنفيذ لوائح تكافح التمويل غير المشروع.
وعلى الرغم من سعي الولايات المتحدة إلى تحقيق مصالحها الخاصة من خلال هذه الإجراءات، إلّا أنّ كل جانب من جوانب سياستها بشأن العقوبات الإيرانية مفيد للعراقيين. وينبغي على قادتهم أن يستخدموا الغاز العراقي المهدور بدلاً من شراء واردات إيران العالية التكاليف. كما يجب أن يكونوا راغبين في الحصول على مجموعة أكثر تنوعاً من مزودي الكهرباء لكي يحصل الشعب على قيمة، وموثوقية، واستقلالية أفضل في مجال الطاقة. وينبغي أن يكونوا راغبين أيضاً في تحسين الضوابط المالية وتعزيز الشفافية في الاقتصاد، وصون نزاهته وحماية صلة العراق الحيوية بالنظام المالي الدولي. يجب على السفارة الأمريكية في بغداد استخدام جميع القنوات المتاحة لضمان أن يفهم الشعب العراقي كيف يمكن للعقوبات أن تسهّل هذه المزايا.
معهد واشنطن