مرت العلاقات الأمريكية الإيرانية منذ اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979 بمنعطفات حادة، كادت تصل بالدولتين إلى حافة الصدام المباشر. غير أن الطابع الصراعي لهذه العلاقة لم يحل دون إقدام الدولتين على إبرام صفقات تعاون اضطراري، أملته عقلية براغماتية تجلت في حالات كثيرة: صفقة سلاح سرية كشفت عنها «فضيحة إيران كونترا» عام 1983، تسريب معلومات عسكرية لكل من إيران والعراق بهدف إطالة أمد الحرب المشتعلة بينهما، تسهيلات إيرانية عسكرية ودبلوماسية للتخلص من نظامي صدام حسين في العراق وطالبان في أفغانستان، الخ.
لم يكن غريبا، في سياق كهذا، أن تصل العلاقة بين الطرفين تدريجيا إلى نقطة توازن جسدتها «حالة اللاسلم واللاحرب»، التي استقرت بينهما وصمدت في أحلك الأوقات. وفي تقديري أن الاتفاق النووي الذي تمكن أوباما من إبرامه إبان فترة ولايته الثانية، عكس نقطة التوازن هذه بوضوح تام، وأن الأسابيع والشهور المقبلة ستظهر ما إذا كان بمقدور ترامب كسر هذه المعادلة، عقب قراره الخروج من الاتفاق النووي، ثم حشد القطع البحرية في مياه الخليج لإجبار إيران على إبرام اتفاق إذعان جديد.
كانت أزمة البرنامج النووي الإيراني قد اندلعت إبان فترة الولاية الأولى لجورج دبليو بوش الابن، وتفاقمت إبان فترة ولايته الثانية. ورغم أن بوش كان يرى في إيران أحد محاور الشر الثلاثة، إلى جانب العراق وكوريا الشمالية، ويخطط لتغيير النظام الإيراني بعد نجاحه في إسقاط نظامي طالبان وصدام في أفغانستان والعراق، إلا أن السياسة التي انتهجتها إيران في مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق أربكت مخططات بوش، ونجحت في استنزاف فائض القوة الأمريكي، وتحويل العراق تدريجيا إلى منطقة نفوذ خالصة لها. لذا كان أقصى ما استطاع بوش الابن أن يقوم به لحمل إيران على وقف برنامجها النووي هو السعي لفرض عقوبات دولية عليها من مجلس الأمن، ودعمها بعقوبات أمريكية أشمل وأشد قسوة. ويلاحظ هنا أن الولايات المتحدة لم تكتف باستبعاد الخيار العسكري، لكنها سعت أيضا لإجهاض المحاولات الرامية لدفعها إلى هذا الخيار، بل تمكنت من إحباط محاولة إسرائيلية للقيام بعمل عسكري منفرد ضد إيران في منتصف 2008. ولأن أوباما كان قد تعهد في حملته الانتخابية بسحب القوات الأمريكية من العراق، وتخفيضها إلى أدنى حد ممكن في أفغانستان، والعمل على إصلاح الخلل الذي أصاب علاقة الولايات المتحدة بالدول الإسلامية، فقد اصبح المناخ مهيأ لفتح صفحة جديدة في العلاقات الأمريكية الإيرانية، بمجرد تسلمه مقاليد السلطة في بداية عام 2009. ولا شك بأن وصول تيار إيراني معتدل، بزعامة حسن روحاني هذه المرة، للسلطة في إيران شكل دفعة كبيرة ساعدت في تسريع وتيرة المفاوضات الجارية للتوصل إلى اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني، وهو ما تم بالفعل عام 2015 ووقعت عليه الولايات المتحدة جنبا إلى جنب مع ألمانيا وبقية الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن، ولاقى ترحيبا عاما من جانب المجتمع الدولي قاطبة، باستثناء دولتين فقط هما إسرائيل والمملكة العربية السعودية. ولأن إسرائيل تملك من مقومات التأثير والضغط على الداخل الأمريكي أكثر بكثير مما تملكه السعودية، فقد أصبح صوتها هو الأعلى في التعبير عن الرفض القاطع لهذا الاتفاق، ووصلت معارضتها له حدا دفع برئيس وزرائها نتنياهو لتحدي الرئيس أوباما في عقر داره، والقيام بزيارة للولايات المتحدة بدون علمه ورغم أنفه، وإلقاء خطاب في الكونغرس هاجمه فيه شخصيا إلى جانب الاتفاق.
لم يشكل الاتفاق حول برنامج إيران النووي تحولا جذريا في سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران أو في سياسة إيران تجاه الولايات المتحدة، لكنه عكس نهجا براغماتيا أملته موازين قوى جديدة في النظامين العالمي والإقليمي. فعلى الصعيد العالمي كانت الولايات المتحدة قد بدأت تدرك أنها لم تعد قادرة على فرض هيمنتها المنفردة على النظام العالمي بقوة السلاح، وأن مصلحتها تقضي العمل على تقصير خطوط سياستها الخارجية، وتخفيض سقف التزاماتها إزاء الحلفاء الإقليميين في مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط.
وعلى الصعيد الإقليمي كانت إيران تدرك أنها أصبحت تملك من عناصر القوة والتأثير ما يمكنها من ملء الفراغ العربي في المنطقة، ومنافسة المشروعين التركي والإسرائيلي اللذين يحاولان اقتسام مناطق فيه. لكن سرعان ما تبين أن الداخل الأمريكي لم يكن قد حسم خياراته الخارجية بعد، وأن قطاعا لا يستهان به من الرأي العام الأمريكي يبدو متجاوبا مع عدد من الشعارات التي بنى عليها ترامب حملته في انتخابات الرئاسة الأمريكية، التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016، وفي مقدمتها شعار «أمريكا أولا» وشيطنة إيران باعتبارها رمزا للتطرف و»الارهاب الإسلامي». لذا فإن فوز ترامب في هذه الانتخابات شكل خطوة متقدمة على طريق الانسحاب من الاتفاق وتقويض حالة «اللاسلم واللاحرب» التي كانت قد استقرت في العلاقات الأمريكية، فهل ينجح ترامب في كسر هذه المعادلة؟
سياسة ترامب الجديدة تجاه إيران صممت على مقاس المصالح الإسرائيلية وليس بالضرورة على مقاس المصالح الأمريكية
لا تخلو سياسة ترامب الجديدة تجاه إيران من تناقضات ظاهرة، خصوصا أنه يريدها متسقة مع ومنبثقة عن سياسته الأشمل التي يجسدها شعار «أمريكا أولا»، والذي يقضي بضرورة تغليب المصالح الأمريكية على أي مصالح أخرى، حتى لو كانت مصالح تتعلق بأقرب الحلفاء، والتخفف بالتالي من أي أعباء قد تحول أو تعرقل مسعاه، نحو استعادة أمريكا لمكانتها وهيبتها على الصعيد العالمي، كقوة أولى مهيمنة. لذا يفترض أن تتسم خطوات ترامب بالحذر وضمان ألا تؤدي سياسته التصعيدية تجاه إيران إلى الدخول في حرب، قد تؤدي نتائجها إلى عكس المستهدف منها تماما. غير أن ترامب وقع في معضلة لا فكاك منها لأن سياسته الجديدة تجاه إيران صممت على مقاس المصالح الإسرائيلية وليس بالضرورة على مقاس المصالح الأمريكية. فهو يطالب إيران بما يلي: 1- وقف كافة الانشطة المتعلقة بتخصيب اليورانيوم، أو على الأقل وضعها في إطار يضمن عدم تمكنها من صنع السلاح النووي الآن أو في المستقبل، بعكس الاتفاق النووي الحالي الذي يؤجل حصول إيران على السلاح النووي، لكنه لا يحول دونه. وكان يمكن لهذا المطلب أن يحظى بمصداقية كاملة لو تم ربطه بإخلاء منطقة الشرق الأوسط كلها من السلاح النووي، وهو ما لم يحدث. 2- تحجيم قدراتها الصاروخية، واتخاذ الخطوات التي تحول دون تطوير هذه القدرات مستقبلا، وهو مطلب لا يحقق في الواقع سوى مصالح إسرائيلية. 3- الالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة، وبالتعاون في الجهود الرامية لنزع سلاح المليشيات التي يقال إنها تتولى رعايتها وتزويدها بالمال والسلاح. ورغم أن هذا المطلب يشمل ظاهريا فصائل متعددة في اليمن والعراق ولبنان، لكن عين أمريكا تبدو هنا مثبتة بالدرجة الأولى على حزب الله اللبناني. 4- التزام الصمت تجاه «صفقة القرن» وتركها تمر بدون عراقيل. ولأنها شروط تبدو في مجملها تعجيزية فسوف يستحيل على النظام الحالي في إيران أن يقبل بها، ويحافظ على سلامته وأمنه في المستقبل.
قرار ترامب تشديد الحصار الاقتصادي على إيران والعمل على تصفير صادرتها النفطية، بالتوازي مع قراره بحشد قطع حربية بحرية في مياه الخليج، في استعراض واضح للقوة، معناه أن إيران لم يعد أمامها سوى خيار واحد: فإما القبول بالإملاءات الأمريكية، أو تلقي ضربة عسكرية. بعض المحللين يعتقدون أن ترامب لن يذهب إلى الحرب، وأنه يستهدف من سياسته الحالية استنزاف الفوائض المالية لدول الخليج، من ناحية، وتمرير صفقة القرن، من ناحية أخرى. ولأن إيران لا تستطيع التعايش مع المحاولات الرامية لتصفير صادراتها النفطية، وتدرك يقينا في الوقت نفسه، أنه سوف يكون من الصعب تمرير صفقة القرن فلسطينيا أو عربيا، بصرف النظر عن موقفها هي من هذه الصفقة، فليس أمامها سوى استخدام ما بحوزتها من أوراق، وهي كثيرة، لإفشال تحركات ترامب. خاصة أنه لن يكون بمقدوره الإبقاء على القطع الحربية الأمريكية في مياه الخليج لفترات طويلة، بدون احتمال تعرضها لعمليات تخريبية مشابهة لتلك التي تعرضت لها ناقلات النفط في الفجيرة، أو المنشآت النفطية السعودية نفسها. لذا أعتقد أنه لن يكون بمقدور ترامب الإمساك بمفاتيح إدارة الأزمة لفترة طويلة وأنه سيضطر أن آجلا أو عاجلا إلى: تعديل شروطه، بحثا عن أرضية للتفاوض، أو الانسحاب التدريجي، وتخفيف حدة التوتر، والعودة إلى حالة «اللاسلم واللاحرب» السابقة، أو المخاطرة بإشعال فتيل حرب في المنطقة، أظن أن احتمالات السيطرة عليها تبدو ضعيفة والأرجح أن تتحول إلى حرب إقليمية شاملة.
وفي تقديري أن إسرائيل ستبذل كل ما في وسعها لجر الولايات المتحدة إلى حرب تعتقد أنها الفرصة الأخيرة للتخلص من كل القوى التي قد تعرقل تمرير صفقة القرن، وتصفية القضية الفلسطينية. وفي جميع الأحوال أظن أن ترامب ونتنياهو لن يخرجا سالمين من هذه الأزمة، أيا كان الخيار الذي سيستقر عليه ترامب، كما أظن أن المنطقة كلها لن تعود إلى ما كانت عليه أبدا إذا اشتعلت الحرب التي سيخرج الجميع منها خاسرين.
القدس العربي