أعلن الرئيس عباس نيته تنظيم انتخابات تشريعية عامة، لتجديد الشرعية الفلسطينية، والاستعداد للمرحلة المقبلة التي تواجه فيها القضية الفلسطينية منعطفاً تاريخياً وتحديات مصيرية، تتطلب، حسب وجهة نظر أبو مازن وحركة فتح، قيادة جديدة تستند إلى ظهير شعبي متماسك وقادرة على تذليل العقبات والإقلاع بالمشروع الوطني من جديد، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس أعلن عن النية بانتخابات تشريعية فقط، وعندما أصرت حركة حماس على انتخابات متزامنة أبدت حركة فتح مرونة بإمكانية إجراء انتخابات رئاسية بعد ثلاثة أشهر من الانتخابات التشريعية، ولم يتم الحديث لا من قريب ولا من بعيد عن انتخابات للمجلس الوطني وتجديد شرعية منظمة التحرير.
ومسألة أخرى تتعلق بنتائج الانتخابات وقبول حركة فتح بها، لأن الافتراض بفوز حركة فتح في أي انتخابات قادمة وكما يأمل أبو مازن يتعارض مع آراء وتوجهات شريحة كبيرة من أبناء الشعب الفلسطيني، هذا على الأقل ما أكدته مصادر أمنية موثوقة للرئيس أبو مازن مسنودة ببعض استطلاعات الرأي، خاصة في الضفة الغربية، وإذا فازت حركة حماس، هل تسلم إسرائيل والسلطة الفلسطينية بنتائج الانتخابات؟
وهل يعتقد الرئيس أبو مازن بأن تقبل إسرائيل بإجراء أي انتخابات في مدينة القدس، والتي يعتبرها نتنياهو وقيادات اليمين المتطرف الحاكم جزءا لا يتجزأ من أرض إسرائيل التوراتية، بدعم من مجتمع إسرائيلي يعاني من فائض التطرف والعنصرية، تمثله قيادة سياسية يمينية أكثر تطرفاً وغطرسةً، بالتأكيد لن تسمح إسرائيل بأي ممارسة ذات طابع سيادي، فكيف بالانتخابات.
وهذه ليست المرة الأولى التي يعلن فيها الرئيس عن النية لإجراء انتخابات، فقد أعلن في كانون الأول/ ديسمبر 2006، أي بعد الانتخابات بأشهر فقط، عن توجه السلطة لتنظيم انتخابات تشريعية والتي اندلعت على أثرها اضطرابات في قطاع غزة بين الحركتين، قبل أن تسيطر حماس على غزة صيف 2007، ثم توالت الدعوات من الرئيس والسلطة الفلسطينية لإجراء انتخابات تشريعية، وهذا يثير تساؤلات عن الأهداف والنوايا الحقيقية لإجراء انتخابات تشريعية خاصة في هذه المرحلة التي آخر ما يحتاجه الوضع الفلسطيني فيها إجراء انتخابات.
الأسباب الحقيقية
أولاً: واقع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وما وصلت إليه عملية التسوية ربما يفسر جزئياً مسعى رئيس السلطة لإجراء انتخابات، فالسلطة الفلسطينية ومشروعها السياسي ومنذ سنوات تعاني من فراغ سياسي يسند شرعيتها، ويُبقي على أسباب وجودها، وهذه مسألة جوهرية بالنسبة للسلطة على الأقل أمام الشعب الفلسطيني، فقد انتهت عملية التسوية عملياً مع انهيار مفاوضات كامب ديفيد صيف عام 2000 واندلاع انتفاضة الأقصى، ومعها تراجع حضور السلطة وانحسرت مكانتها تدريجيا، وتآكلت صلاحياتها السيادية التي نصت عليها اتفاقيات أوسلو، ومع صعود اليمين الاستيطاني المتطرف لسدة الحكم تصاعدت الهجمة الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس، حتى انتشر سرطان الاستيطان في جسد الضفة، وتلوى جدار الفصل العنصري في عمق الضفة الغربية بما يشبه الثعبان، بحيث يستحيل معه تحقيق حل الدولتين؛ الركن الأساس في مشروع السلطة السياسي، وتسارعت خطوات التهويد وتزوير الذاكرة والمعالم العربية والإسلامية التاريخية في مدينة القدس، مع اقتراب حسم المسجد الأقصى لصالح مخطط الفصل الزماني والمكاني التوراتي التهويدي، وهي العاصمة المستقبلية برمزيتها الإسلامية والتاريخية للدولة الفلسطينية، ولكن ورغم هذه الهجمة المنظمة المخططة على الشعب الفلسطيني ومقدراته وعلى السلطة الفلسطينية نفسها، إلا أن علاقة السلطة الفلسطينية مع إسرائيل لم يطرأ عليها أي تراجع، خاصة التنسيق الأمني ومواجهة فصائل المقاومة، والتنازلات التي قدمتها حركة فتح باسم منظمة التحرير بالاعتراف بإسرائيل والتخلي عن نهج الكفاح المسلح، وقد لجأت السلطة بعدما تأكدت من خسارتها لأي مواجهة مع إسرائيل، إلى التشبث بالشرعية الدولية والسعي نحو توسيع قاعدة الاعتراف الدولي بالسلطة الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بالمشاركة في مؤسسات الأمم المتحدة، ومطاردة إسرائيل في المحافل الدولية ورفع دعاوى قضائية في محكمة الجنايات الدولية، وهذه أيضاً وصلت إلى طريق مسدود مع تربص الإدارة الأميركية وحلفاء إسرائيل المقربين من دول الاتحاد الأوروبي بالسلطة الفلسطينية وتحركاتها على الساحة الدولية، وبالتالي فإن السلطة ومع انحسار هامش خياراتها أمام إسرائيل وجدت نفسها في حالة انكشاف سياسي، لا بد من تداركه ولو بإجراءات شكلية توحي بالحركة السياسية، وبالحيوية النضالية، وبالفعالية الاستعراضية، وهو ما تحققه ملهاة الانتخابات، حتى لو لم تجر الانتخابات فإن السلطة قد كسبت بعضاً من الوقت بإشغال الجمهور الفلسطيني بمسألة الانتخابات ومشاركة الفصائل الفلسطينية فيها، وإشاحة الأنظار ولو مؤقتاً عن التحديات المصيرية التي تعجز السلطة عن التعاطي معها وتسبب إحراجاً لها.
ثانياً: لم تكن حركتا فتح وحماس على وفاق وانسجام في ظل التنافس النضالي الميداني، وعلى إثبات الحضور والفعالية الجماهيرية، والخلاف لم يقتصر على التنافس، بل يرجع بالأساس إلى تناقض الرؤى والتوجهات، وتصادم برنامجين، برنامج منظمة التحرير التسووي، ومشروع المقاومة المسلحة الذي يستند إلى المرجعية الإسلامية، واتخذت العلاقة منحى آخر بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، ورفض حركة فتح التعاطي مع نتائجها الذي أدى إلى تدهور الأوضاع وتصاعدها إلى الصدام المسلح الذي انتهى بسيطرة حماس على غزة. طبعاً حركة فتح اعتبرت ما حدث في غزة انقلابا، ومنذ العام 2007 والسلطة الفلسطينية تتعامل بمنطق عدائي مع قطاع غزة، وساهمت في فرض الحصار، الذي تقاطعت فيه ربما عن غير قصد مع إسرائيل والغرب والنظام العربي الرسمي. حماس من جانبها، تعاملت مع حركة فتح بالمنطق نفسه ولكن ليس بمستوى ما يحدث في الضفة الغربية. وقد حاولت السلطة نزع الشرعية عن حركة حماس بمحاربتها دون هوادة في الضفة الغربية، وبمحاصرتها سياسياً ونزع أي صفة تمثيلية عن سلطتها في غزة، وفي هذا السياق أصدرت المحكمة الدستورية العليا في الضفة في كانون الأول/ ديسمبر 2017 قراراً بحل المجلس التشريعي، مع تحويل صلاحيات المجلس وبقرار غير معلن إلى المجلس المركزي التابع لمنظمة التحرير، وفرضت السلطة الفلسطينية عقوبات صارمة في آذار/ مارس 2017 تحت شعار “تقويض سلطة الانقلاب” وعودة الشرعية إلى قطاع غزة، ولم تحقق العقوبات رغم قساوتها حتى الآن ما تصبو إليه السلطة. ويأتي مسعى الرئيس في إجراء الانتخابات التشريعية، إن تمت، لنزع الشرعية عنها وإخراجها من الباب الذي دخلت منه، على قاعدة استبعاد فوز حركة حماس، وربما تزويرها خاصة إذا ما أجريت في الضفة الغربية فقط.