لا عنب في سلال السوريين. كلما حصل حدث، عسكري أو سياسي تنتعش الآمال، عسى أن تتحرّك القضية السورية ولو بقدر ضئيل، ولكن هذا الأمل سرعان ما يتلاشى ويسقط أمام الحسابات القاسية، التي باتت تقرّرها الدول صاحبة المصالح على الساحة السورية. كل ما يحصل على أرض سورية، أو من حولها، بات يلبي أو يتقاطع أو يخدم روسيا وإيران والولايات المتحدة وتركيا، أما أهل البلاد فهم ليسوا أكثر من أدواتٍ في حروب وتسويات الآخرين الذين يتنازعون أو يبيعون ويشترون باسم السوريين. ولا أحد من بين الذين يلعبون على الجغرافيا السورية تعنيه مصالح السوريين وآلامهم وعذاباتهم، بل يتاجر الجميع بهم، يبيع ويشتري باسم آلامهم، ويرفع شعاراتٍ رنّانة، من قبيل الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، في حين أن سورية باتت مقسّمة، ويتعمق كل يوم التباعد بين أهلها، من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، وأصبحت مسألة استعادة وحدة سورية تحت راية دولة مستقلة من المستحيلات في الوقت الراهن، وفي ظل النزاعات والحسابات الدولية.
يتحمّل السوريون مسؤولية أساسية حيال الوضع المزري الذي وصلت إليه بلادهم. صحيح أن المتسبب في هذه المأساة هو النظام الذي كان يحكم البلد عشية انطلاق الثورة السلمية في مارس/ آذار 2011، ولكن ذلك لا يُسقط المسؤولية عن المعارضات التي تشكلت بعد ذلك، سياسية وعسكرية. وعلى الرغم من المحاولات الجادّة التي قامت بها هيئات وشخصيات في الأعوام الثلاثة الأولى من الثورة، فإن المعارضين السوريين ساهموا في تحويل بلدهم إلى مزاد علني، وباتوا جزءا من أثاث الدار التي يتم التلاعب بها في مساومات الدول ذات المصالح، وتحوّل السوريون شيئا فشيئا إلى جماعاتٍ تنضوي كل منها تحت لواء دولة.
لا أحد من السوريين يعود وفي سلته عنب، والكل ينتظر مواسم القطاف بلا جدوى، فمن يحصل على القطاف في كل مناسبة هو الدول المتحكّمة بسورية وشعبها، فإن حصل اجتماع دولي، مثل اللجنة الدستورية، فإن الأجندات التي توضع على الطاولة ليست التي تلبي تطلعات غالبية السوريين الذين باتوا لا يصدّقون أحدا، ولا ينتظرون حلا من أحد، بعد أن بلغ التردّي سقفا لا رجعة عنه في المدى المنظور. وما لم يتحرّك الشعب السوري، كما تحرّك اللبنانيون والعراقيون، لن تخرج سورية من الدوامة، ولن يتمكّن السوريون من وقف التلاعب ببلدهم ومصيرهم. لا مستقبل لهم إن لم يثوروا على أمراء الحرب في السلطة والمعارضة الذين صاروا وكلاء القوى الأجنبية على الأرض السورية، يقاتلون بعضهم بعضا من أجل تنفيذ أجنداتها وتأمين مصالحها.
لم يكن أحد يظن أن العراقيين واللبنانيين سوف يتحرّكون ويملأون الشوارع بهتافات الحرية، ويقدمون الضحايا بلا حساب من أجل إسقاط النظامين في بيروت وبغداد، ولكننا اليوم إزاء وضع يمكن التعويل عليه في إسقاط معادلة الحكم الأجنبية بالوكالة، فالناس نزلوا إلى الشارع، ولا يخيفهم الرصاص الحي، وهم يقدّمون الضحايا من أجل استعادة الكرامة الوطنية والحرية والخلاص من وكلاء القوى الأجنبية، وفي مقدمتها إيران التي يحرق المتظاهرون علمها وسط مدن العراق ومنها كربلاء، وهذا أمرٌ له مغزى رمزي كبير، تهتز بسببه أوصال حكام طهران الذين باتوا يتحسّبون من انتقال رياح الانتفاضتين من بيروت وبغداد إلى طهران.
المطلوب من السوريين أن يلتقطوا رسائل بيروت وبغداد، ويقلبوا الطاولة على أمراء الحرب والقوى الأجنبية. لا شيء مستحيل، بعد أن أسقط العراقيون واللبنانيون كل جدران الخوف، وباتوا قاب قوسين أو أكثر من الحرية واستعادة القرار الوطني، وما لم يستعد السوريون ثورتهم السلمية، فإن بلادهم سوف تصبح مزارع للقوى الأجنبية.