قبل أن ندخل في التفاصيل، لا بد من ذكر أمرين:
1- الثورة تقلب الموازين رأسا على عقب وتحدث تغييرا في شتى مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. من هنا تم تسمية التغيرات الصناعية الكبرى بالثورات.
2- التغيرات الكبيرة في حياة البشرية ارتبطت بتغيرات أنواع الطاقة المستخدمة، حيث انتقل الإنسان من طاقته العضلية إلى تسخير الحيوانات، ثم استخدم طاقة الرياح والطاقة الشمسية والمائية في بعض المجالات، ثم انتقل إلى الطاقة البخارية مع استخدام الفحم، ثم انتقل للكهرباء، ثم انتقل للنفط والغاز، ثم الطاقة النووية، ثم عاد الآن إلى الطاقة الشمسية والرياح، ولكن لتوليد الكهرباء، بدلا من استخدامها المباشر في الملاحة أو التجفيف. ثم حصلت تغيرات جديدة أسهمت في زيادة الكفاءة في استخدام الطاقة بشكل هائل، ومكّن انتشار الكهرباء في أغلب بقاع العالم من استخدام الشرائح الرقمية في كل شيء.
الثورات الصناعية
تمثلت الثورة الصناعية الأولى، والتي حصلت في القرن الثامن عشر وجزء من القرن التاسع عشر، في تحول أغلب الطاقة من الحيوان والجهد العضلي للإنسان إلى الطاقة البخارية والميكانيكية التي تحرك وتدير الآلات والمعدات، الأمر الذي غيّر شكل المجتمعات الأوروبية للأبد، ونقلها من مجتمع زراعي متخلف تحكمه علاقات اجتماعية معينة بين المالك والمزارع إلى مجتمعات صناعية متحضرة تحكمها علاقات اجتماعية جديدة ونظم سياسية جديدة. وكان من أهم مظاهرها القطارات والسفن البخارية، وهذا ما ساعد على انتشار السكك الحديدة كبنية تحتية أساسية للمواصلات.
تمثلت الثورة الصناعية الثانية، والتي حصلت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، في أمرين، استخدام الكهرباء وخطوط الإنتاج التي أسهمت في القدرة على الإنتاج بكميات كبيرة، والتي ساعدت الدول الصناعية التي مرت بالثورة الأولى على تحسين أوضاعها الاقنصادية بشكل كبير، وتم خلالها اختراعات عديدة غيرت من حياة البشرية مثل الكهرباء والمصباح الكهربائي والسيارات والهاتف، وغيرها. ومن أهم مظاهرها انتشار السيارات والشاحنات، وبالتالي انتشار الطرق المعبدة والجسور، كبنية تحتية أساسية للمواصلات.
الثورة الصناعية الثالثة، والتي حصلت في الأربعين عاما الأخيرة، تمثلت في الثورة الرقمية، مثل استخدام الحواسيب والإنترنت وتقدم تكنولوجيا الاتصالات، والهاتف المحمول والمكننة في خطوط الإنتاج. ومن أهم مظاهرها التواصل عبر الأثير عبر خطوط الهاتف، ثم الأقمار الصناعية، والتي أصبحت طرق الانتقال للتواصل والمعلومات، بدلا من الطرق التقليدية المتمثلة بالسكك الحديدية والطرق المعبدة، فأصبحت خطوط التليفون والإنترنت والأبراج اللاسلكية من متطلبات البنية التحتية. وهذا أدى إلى هزة في قطاع الأعمال، حيث أصبحت الشركات التي تملك المنصات الرقمية هي الأكبر في العالم، بدلا من الشركات في الصناعات الاستخراجية. وكان من أهم نتائجها انخفاض كبير في التكاليف، وتحسين جودة الإنتاج، وزيادة الكفاءة في الإنتاج والاستخدام، الأمر الذي خفض معدلات التضخم مقارنة بالماضي.
اقرأ المزيد
لماذا علقت بريطانيا استخراج النفط الصخري؟
ثورة النفط الصخري: نعمة أم نقمة على دول الخليج؟
أما الثورة الصناعية الرابعة فتمثلت في التحول إلى أنظمة إنتاج مستقلة تدار آليا من قبل حواسيب وروبوتات تتعلم مما يحصل، وتعيد برمجة نفسها. إنها تتمثل في التحول إلى خطوط الإنتاج الرقمية أو خطوط الإنتاج الذكية في كل المجالات، الأمر الذي يعني اختراق التكنولوجيا الرقمية لكل المجالات، في الطب والهندسة والتصنيع والزراعة والتعليم والاتصالات والسياسة وغيرها. وتعتمد بشكل أساسي على البيانات وتحليلها من جهة، والمجسات من ناحية أخرى، الأمر الذي شكل قفزة في صناعة الروبوتات وتقدم تكنولوجيا سلسلة الكتل (بلوك تشين) وتقنية النانو، الأمر الذي مكّن من تطورات جديدة في كل العلوم والمجالات، مثل السيارات ذاتية الحركة، والروبوتات التي تقوم بعمليات جراحية معقدة للإنسان، والطباعة ثلاثية الأبعاد وغيرها. ومن أهم نتائجها المدن الذكية والاعتماد بشكل أكبر على الفضاء الخارجي.
ولعل الفارقين الأساسيين بين الثورة الرابعة وما سبقها أن الرابعة أكثر عالمية من سابقاتها، وتتعدى إلى كافة التخصصات والمجالات.
أثر الثورة الرابعة في صناعة النفط
هدف ما كتب أعلاه هو التمهيد للحديث عن أثر الثورة الصناعية الرابعة في صناعة النفط، وليس الحديث عن الثورة الرابعة وصفاتها وخصائصها ونتائجها. وسبب الحديث عن هذا الموضوع اليوم هو معرض ومؤتمر أبوظبي الدولي للبترول 2019 (أديبك) المعقود في أبوظبي هذا الأسبوع، والذي يركز بشكل كبيرعلى هذا الموضوع، وتبني الإمارات بشكل عام وشركة بترول أبوظبي الوطنية الثورة الصناعية الرابعة.
الواقع إننا ما زلنا في بداية الطريق، وما نعرفه حتى الآن عن آثار الثورة الصناعية الرابعة ما هو إلى بداية الطريق. ويهدف تبني صناعة النفط للثورة الصناعية الرابعة إلى استمرار دورها التقني الرائد، وتحسين كفاءة الأداء، وتعظيم المنفعة من كل جزء من برميل النفط. ويمكن إجمال ما نعرفه من آثار في صناعة النفط، فيما يلي:
1- سيسهم تبني تكنولوجيا الذكاء الصناعي في تحسين الكفاءة وتخفيض التكاليف في كل أجزاء الصناعة من محاولات الاستكشاف المبدئية إلى التكرير وتوزيع المنتجات النفطية للاستخدام النهائي.
2- سيسهم تبني تكنولوجيا سلسلة الكتل التي تستخدم الآن في العملات الرقمية في حل مشاكل كثيرة في كل أجزاء الصناعة وبكفاءة عالية، فهذه التكنولوجيا ستمكن الشركات من تتبع شحناتها في كل مكان، وستنظم المخزون بشكل أفضل، كما أنها ستحول العقود التقليدية بين الموردين والمنتجين والموزعين والمستهلكين إلى عقود ذكية، تتأقلم مع تغير الأوضاع والأحوال.
3- سيسهم تبني تكنولوجيا البيانات الضخمة وتحليلها في أمور كثيرة بعضها لا يمكن تخيله الآن. ولكن ما تم حتى الآن أدى إلى تحسين الكفاءة بشكل كبير. فعلى سبيل المثال، تقوم شركة تحليل بيانات، لا علاقة لها بالنفط إطلاقا، بتحليل بيانات منطقة كاملة تعمل فيها عشرات الشركات، وتكتشف أن إنتاجية الآبار في بعض المناطق كانت أقل مما حولها، الأمر الذي يشير إلى أنه يمكن استخراج المزيد منها. كما يمكن لتحليل البيانات الضخمة من التكنولوجيا استنتاج أفضل وأنسب حسب المنطقة، وهي معلومات لم تكن متوفرة من قبل. أما بالنسبة إلى مناطق جديدة، فإنه يمكن استخدام تكنولوجيا متقدمة لتصوير باطن الأرض ومعرفة أماكن المكامن بدقة أكبر بكثير من ذي قبل، الأمر الذي يخفّض التكاليف بشكل كبير ويزيد من كفاءة رأس المال والعمال. هذا يعني أن شركات النفط التي تتبنى الثورة الصناعية الرابعة ستستطيع أن تجلب المزيد من النفط للعالم، وهي كميات ما كان يمكن استخراجها بدون هذا التقدم العلمي.
4- وستمكن تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة من تحسين عمليات الحفر والإنتاج بشكل كبير، بحيث يمكن مراقبة كل شيء لحظياً وتوقع المشاكل قبل أن تقع. ويمكن تغيير اتجاهات الحفر مع الحصول على البيانات لحظيا من باطن الأرض، أو استخدام الطريقة الأمثل للحفر. في الماضي، كان يتم الحفر ويستمر حتى يتبين الخطأ بعد أيام.
5- كما أنها تمكن من مراقبة عمليات الحفر والإنتاج وتدفق النفط والغاز في الأنابيب عن بعد، الأمر الذي يخفض التكاليف بشكل كبير، بخاصة في المناطق النائية أو في المناطق البحرية البعيدة، وهذا يصبح أكثر أهمية في أوقات الأعاصير والكوارث.
6- ومن فوائد تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة أنها تمكن الشركات من مراقبة عمليات تثقيب الأنابيب لإجراء عمليات التكسير الهيدرولكي بشكل أفضل، لأن كفاءة هذه الثقوب ما زالت منخفضة، الأمر الذي يعني مزيدا من الإنتاج من نفس المعدات وبنفس التكاليف.
7- وستساعد هذه التكنولوجيا في تنظيم عمليات الصيانة حسب المتطلبات وفقا لما تظهره البيانات الآنية والتاريخية، وليس حسب جدول يقترحه المديرون أو المهندسون، مما يخفف التكاليف ويزيد من كفاءة الإنتاج والنقل.
8- ولعل من أهم فوائد هذه التكنولوجيا تتظيم مخزون الآلات والمعدات وقطع الغيار وكل ما تستلزمه الصناعة، وهو أمر ينطبق على كل الصناعات وليس صناعة النفط فقط. فهذه التكنولوجيا تقوم بإدارة المخزون، بحيث يتم توزيع المطلوب وقت الطلب، الأمر الذي يخفض من تكاليف وإدارة المخزون من جهة، ويضمن استمرار جودة هذه القطع من جهة أخرى.
9- ومن فوائدها أيضا توجيه ناقلات النفط والغاز المسال، بحيث تستفيد من التيارات المائية وأحوال الطقس لتخفيض استخدام الوقود من جهة، وتقصير المسافات والحوادث من جهة أخرى.
10- وستكون مصافي النفط من أكبر المستفيدين من هذه التكنولوجيا لأنها تتعامل مع المنتجين وأنابيب النفط من جهة، وتتعامل مع السوق ومتطلباته من جهة أخرى. فمشكلة المصافي الأساسية هي المخزون، وعمليات الصيانة، والتأقلم مع تغيرات السوق، سواء كانت فصلية أو اقتصادية. هذه التكنولوجيا ستمكن المصافي من حل كثير من مشاكلها وتخفض تكاليف التكرير.
11- كل ما سبق سيسهم في تخفيض الأثر البيئي السلبي لصناعة النفط والغاز، ويسهم في إبطاء التغير المناخي.
ما سبق هو غيض من فيض، ولكنه يلفت النظر إلى هذه التطورات الجديدة، وسبب تركيز معرض ومؤتمر أبوظبي الدولي للبترول 2019 (أديبك) المقام حاليا في أبوظبي عليها، وسبب تحدي شركة نفط أبوظبي الوطنية (أدنوك) للشركات النفطية بأن تتبنى وتتأقلم مع هذه الثورة الجديدة لما فيها من منفعة للجميع.