علام يأخذك العجب وأنت تراقب مقاطع الفيديو على شاشات الفضائيات، يعرض رجلين يلاحقان شابا مسالما، عاد للتو من ساحات التظاهرات لرؤية عائلته وليس في جيبه مال ولا في يديه سلاح، فقط يحمل بين أضلاعه خريطة وطن، فيردياه قتيلا على أعتاب باب بيته أو في وسط الزقاق؟ لماذا التجهم وأنت تسمع من زعيم سياسي استنكافا من انتفاضة شعبية نسيجها الاجتماعي سائق التوك توك وبائع قناني الماء والعاطلون عن العمل؟ ولماذا تأخذك ثورة من الغضب من رجل دين، خطبة الجمعة لديه الطعن بأعراض المتظاهرات الشابات اللواتي جئن للطبخ والعلاج والتنظيف في ساحات التظاهرات؟
لا موجب للعجب لما يحدث الآن إن عدت قليلا إلى الوراء، وبحثت في الوسيلة الإعلامية نفسها عن مواقف كل هؤلاء. ستجد زعيما سياسيا من الطبقة السياسية الحالية، استوزر سابقا، ويحمل صفة نائب في البرلمان العراقي الآن، يقف وسط الجنود الإيرانيين مرتديا قيافتهم نفسها مصوّبا سلاحه معهم نحو أخوته في الجيش العراقي في حرب الثمانينيات، قائلا إنه رهن إشارة الإمام الإيراني، إن قال له قاتل قاتل، وإن قال له توقف توقف. زعيم ميليشياوي آخر يسأله صحافي في قناة فضائية عراقية مع من سيقاتل إن غزت إيران العراق، فيجيبه بكل وضوح وهو في العراق وليس في بلد آخر، إنه سيقاتل مع الجيش الإيراني ضد بلده سمعا وطاعة للإمام. في حين يتوسل رجل دين بالرئيس الأمريكي جورج بوش أثناء الغزو، أن يجعل من العراق الولاية الحادية والخمسين ضمن الولايات المتحدة. ناهيك من آخرين من الطبقة السياسية الحاكمة نفسها، خدموا في صفوف المخابرات الأمريكية والبريطانية والإيرانية، ومخابرات دول أخرى غربية وشرقية، فابتدعوا معلومات كاذبة وروايات مصطنعة، كي تكون دافعا لغزو بلادهم. فهل بعد كل هذا التراث اللاأخلاقي يبقى مكان للتعجب؟ أم يمكن لسائل أن يسأل عن الجهة التي تقف خلف القتل والترهيب والتغييب والاختطاف، الذي يتعرض له شباب الانتفاضة؟
بنت الانتفاضة العراقية لنفسها طريقا مُشرّفا في البحث عن وطن، وإعادة إحياء الهوية الوطنية بعيدا عن الأفكار الطائفية والقومية
بل حتى وقت قريب قام زعماء الميليشيات الطائفية بتصدير شباب النجف وكربلاء وذي قار والقادسية وميسان والبصرة والمثنى وبغداد، إلى ساحات القتال في سوريا واليمن ولبنان، بحجة الدفاع عن المذهب، ثم تركوا عوائل وزوجات وأبناء من قتل منهم على قارعة الطرقات، من دون مأوى يستجدون الغذاء والدواء، ويلوذون بمساكن عشوائية من الصفيح وجذوع الأشجار، فيما بات صغارهم يبحثون عن لقمة خبز في مكبات النفايات، أو يقفون في تقاطعات الطرق يبيعون قناني الماء. لقد تعمّدت الطبقة السياسية تدمير مستقبل الشباب في العراق كي يبقى عامل الاستغلال لهم ممكنا، وتبقى هذه الطبقة رهن العوز والفاقة، ما يدفعها للقبول بالمشاركة في الأجندة السياسية الطائفية لهؤلاء الساسة، لذلك كان خروجهم في الانتفاضة تهديدا حقيقيا لهذه الاستراتيجية. كما كانت المشاهد المأساوية للشباب الذي يموتون في الشوارع، والرؤوس المحطمة بقنابل الغاز المسيل للدموع، واستخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين العزّل، والتخوين والطعن بأخلاقهم والحط من قدرهم، بناء على طبيعة أعمالهم وانحدارهم الاجتماعي، كلها دليل على التهديد الحقيقي الذي شكلته الانتفاضة العراقية، وأهمية الحراك الذي يقومون به، والإمكانية المتحققة في أن يكون هذا الفعل عاملا حاسما في صنع عراق جديد.
لقد وصلت الطبقة السياسية الحالية إلى طريق مسدود أمام التحدي الحالي الذي صنعه شباب الانتفاضة العراقية، وبرهنت مجددا على حالة الشلل التي تعانيها، بسبب المحاصصة الطائفية التي تستند إليها كنظرية حُكم. فما بقي أمامها اليوم سوى ممارسة لعبة سياسية قذرة، الهدف منها سحب بساط الشرعية من تحت أقدام المنتفضين، من خلال ترشيح أحد أعضاء حزب الدعوة لتولي رئاسة الحكومة المؤقتة، بعد أن استقال من كل مناصبه الحزبية يوم الجمعة الماضي. في حين كانت الانتفاضة واضحة جدا في الدعوة إلى تغيير في أسس النظام السياسي القائم. كما أعلنت، ومنذ البداية، رفضها العيش في النموذج الذي تعيشه منذ عام 2003 وحتى اليوم. بمعنى أن المنتفضين قد تجاوزوا قضية من هو الذي يقف في قمة هرم السلطة السياسية وسفوحها، بل باتت القضية المطروحة اليوم هي، كيف يتم الحكم، ووفق أي منهج سياسي واقتصادي وفكري واجتماعي يجب أن يدار به العراق.
وإذا كانت الطبقة السياسية الحاكمة تعتقد بأنها قادرة على إدارة الأزمة الحالية بتدوير الوجوه، وإعادة الأشخاص في زي جديد، فعليها أن تعرف أن الانتفاضة الحالية لا يمكن أن تنتهي وفق ألاعيبها السياسية، وأن دماء الشهداء والجرحى لا يمكن أن تتم مقايضتهم بشخصية مستعملة، يقدمها حزب الدعوة على أنها شخصية مستقلة كرئيس وزراء جديد، ويبقى النظام السياسي نفسه يحركه من خلف الستار.
إن عدم وجود قيادات عراقية في المنظومة السياسية الحالية متمسكة باستقلالية القرار السياسي والهوية الوطنية، ولأن الجميع اعتبر الارتباط بالخارج أهم من السلم الأهلي والمصلحة الوطنية، ولأنهم جميعا يفضلون الحواضن الدولية والإقليمية على مصلحة الوطن، لأن فيها دعما ماليا وسياسيا وتغطية قانونية للتهرب من الحساب الشعبي. كل هذه الأسباب تجعل من المستحيل المراهنة مرة أخرى على الوجوه القديمة. كما أن السنوات الست عشرة الماضية باتت تؤكد هذه الحقيقة، فقد صبر الشعب العراقي طوال هذه السنوات أملا في أن تقوم المؤسسات التي سُميت ديمقراطية، بإنتاج جيل سياسي جديد يتولى السلطة بدلا من الشخصيات التي صنعت الكارثة العراقية، لكن تبين بأن كل المؤسسات القائمة هي مجرد هياكل قرارها ليس بيد من يتولون الزمام فيها، بل القرار هو في مكان آخر وبيد أشخاص آخرين ليسوا عراقيين. كما اتضح عدم وجود ديمقراطية، بل كانت مجرد مفهوم ترويجي يستخدمه السياسيون لتغفيل الناس.
يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير «إن كان الإنسان حرا فعليه أن يحكم، وإن كان لديه طغاة فعليه أن يخلعهم» وقد حان وقت الحساب مع الطبقة السياسية القائمة، التي اتخذت من السياسة مهنة، في حين أنها الأولى في الفنون، التي دائما ما استخدمت القتل والاعتقال والتغييب والتهميش، لأنه ليس لديها ما يمكن أن تقدمه للشعب. لذا ليس أمام شباب الانتفاضة الا أن يجعلوا من وقفتهم بوجه الطغاة هزة جيوسياسية تقلع كل مخلفاتهم، تمهيدا لبناء دولة مدنية فيها الحقوق متساوية، وسيادة القانون وعدم التمييز بين الناس على أساس ديني وقومي، دولة غير عسكرية ولا ميليشياوية تخضع فيها كل الهيئات للرقابة المدنية.
لقد بنت الانتفاضة العراقية لنفسها طريقا مُشرّفا في البحث عن وطن، وكانت أولى ركائز هذا الوطن الذي تريده هو إعادة إحياء الهوية الوطنية بعيدا عن الأفكار الطائفية والقومية. فشكّل ذلك مكسبا كبيرا للوطن، لم تجد الاحزاب والميليشيات إلا أيقافه بفوهات البنادق والمسدسات كاتمة الصوت.
القدس العربي