كانت تدرجات التصعيد في المواجهة الأمريكية ـ الإيرانية، قبل حدث مقتل الجنرال قاسم سليماني، تسير في تناظر حرج مع الحراكين الشعبيين في العراق ولبنان، ورغم أنه لا يمكن الفصل بين المسألتين، فقد كانت الجماهير العراقية واللبنانية تتعامل مع معركتها مع النظامين بحذر، فرغم أشكال البطش الدمويّ في العراق، وأنواع الاستفزازات العنيفة في لبنان، فإن التركيز كان على المطالب السياسية والاقتصادية، وما كانت ترتفع شعارات ضد نفوذ طهران السياسي، إلا حين يرتفع منسوب تدخل الفصائل المحسوبة عليها، أو حين توجّه القيادات الإيرانية الاتهامات للمتظاهرين.
من نافل القول إن قرارات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بدءا من انسحاب بلاده من الاتفاق النووي بين إيران والقوى الدولية، ومرورا بالتشديد الهائل للعقوبات الاقتصادية والسياسية على طهران، وانتهاء بعملية اغتيال سليماني، لا يدخل في حسبانها قضايا شعوب المنطقة وآمالها بالتحرر، وهي لا تتغاضى فقط عما يحصل في البلدان العربية من فساد وقهر ومظالم، ولكنّها تشارك عملياً في التغطية على كبار المسؤولين عنها، ناهيك عن مشاركتها في دعم تغوّل إسرائيل ضد الفلسطينيين، عبر مساهمتها في تشريع احتلال القدس والجولان وغور الأردن.
الصراع بين واشنطن وطهران في العراق ولبنان، بهذا المعنى، هو من وجهة نظر سيد «البيت الأبيض» محاولة لإخضاع إيران التي تتحدّى القوة العظمى الأولى في العالم، وهو من وجهة نظر المرشد الأعلى علي خامنئي، محاولة لطرد النفوذ الأمريكي وتسيير شؤون البلدين فيما يفيد مصالح الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبالتالي فإن وجود جماهير في الشارع تطالب بحقوقها هو أمر فائض لا يوجد في ميزانية التكاليف العسكرية ولا تبدو مهتمة بضمه إلى حساباتها السياسية.
المظاهرات القائمة في العراق تنشد تغيير نظام محسوب على طهران لكنّ هذا لا يجب أن ينسينا أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي أنشأت هذا النظام، وإذا كانت ترغب في إضعاف النفوذ الإيراني في العراق لكنها لا ترغب في إسقاط النظام الفاسد فهي أيضا مسؤولة عن صناعته، وقد صار مفروغا منه أن واشنطن، بعد فترة بسيطة من تأييدها للثورات العربية المنطلقة عام 2011، عادت إلى تأييد الانقلاب العسكري في مصر، ثم تحالفت، مع مجيء ترامب، مع أجندات أنظمة الثورة المضادة في الإمارات والسعودية وغيرهما، ولم نجد لها موقفا حقيقيا داعما للثورات منذ ذلك الحين.
كان لافتا للنظر، ضمن هذا السياق، أن المتظاهرين في مدينة الناصرية العراقية تصدوا لعناصر فصائل من «الحشد الشعبي» حاولوا احتلال أماكن الاعتصام وفرض مراسم جنازة لقتلى الغارة الجوية الأمريكية ثم أطلقوا الرصاص على المحتجين الذين رفضوا تجيير احتجاجاتهم لصالح المواجهة الأمريكية ـ الإيرانية، وانتهى الأمر بحرق مقر لـ«الحشد الشعبي».
لكن السؤال هنا: هل يتمكن الثوار العراقيون واللبنانيون من «النأي» بأنفسهم عن تلك المبارزة التي تجري بين بلدين يتنازعان المنطقة إذا تصاعدت المعارك بين الطرفين أم أن نيران المواجهة ستطفئ نار الثورات؟
القدس العربي