أثار تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المتعلق بالكشف عما عرف بـ»فضيحة البريد الإلكتروني» الخاص بوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، الكثير من علامات الاستفهام والتعجب، فقد أطلق هذا الإجراء العديد من نظريات المؤامرة في إعلام ومنصات التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط، وعلى الرغم من أن أغلب المتابعين الغربيين فهموا خطوة الرئيس ترامب، على إنها ليست أكثر من ورقة ضغط يلعبها الرئيس، الذي يعاني من تراجع شعبيته في استطلاعات الرأي، قبيل الانتخابات الأمريكية، التي ستجري في الثالث من شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وأن توقيت إطلاق هذه الورقة في الوقت الحالي، تقف وراءه بشكل شبه مؤكد، محاولة ترامب تقليص الفارق بينه وبين منافسه الديمقراطي جو بايدن، عبر التأثير في استطلاعات الرأي.
الإعلام الغربي تعامل مع الأمر ببرود واضح، بينما انشغل الإعلام العربي بالموضوع من جديد، وقام عدد من المحللين والكتّاب والمتابعين، بفتح ملفات قديمة أشبعت بحثا وتمحيصا، والمفارقة انفتاح بوابة نظرية المؤامرة، اعتمادا على معلومات حقيقة أو مزيفة، يتم ادعاء البعض أنها وردت في الرسائل الإلكترونية الخاصة بهيلاري كلينتون، عندما كانت وزيرة خارجية في إدارة الرئيس اوباما.
الشرارة الجديدة أثيرت من واشنطن يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، عندما غرّد الرئيس ترامب على صفحته في تويتر قائلاً «لقد أذنت برفع السرية تماماً عن جميع الوثائق المتعلقة بأكبر جريمة سياسية في التاريخ الأمريكي، خدعة روسيا، وبالمثل، فضيحة البريد الإلكتروني الخاص بهيلاري كلينتون. لا تنقيح!». وقام بالإلحاح على وزير خارجيته بومبيو بإطلاق كل رسائل البريد الإلكتروني لهيلاري كلينتون على موقع وزارة الخارجية. أما الورقة التي يحاول ترامب لعبها في الانتخابات الحالية فهي قديمة، وقد قال القضاء الرسمي الأمريكي فيها كلمته منذ عام 2015، إذ أثيرت حينذاك كورقة في السباق الانتخابي بين ترامب وكلينتون عام 2016، وكان لها تأثير في تراجع شعبية كلينتون التي كانت تتقدم على ترامب في استطلاعات الرأي. ولمن لا يعرف تفاصيل القصة بدقة، أقول، إنها ببساطة استعمال خاطئ لبريد إلكتروني غير حكومي، قامت به وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، ما يعني تعريض المعلومات الحكومية الأمريكية لخطر الاختراق، إذ كشف المفتش العام لوزارة الخارجية علنًا في مارس/ آذار 2015، عن أن كلينتون استخدمت البريد الإلكتروني الشخصي على أحد خوادم القطاع الخاص غير الحكومية بدلًا من حسابات البريد الإلكتروني المسجّلة على خوادم الحكومة الاتحادية، أثناء إجراء بعض المهام الرسمية خلال توليها منصب وزيرة الخارجية بين 2009 و2013. وأكد بعض الخبراء والمسؤولين وأعضاء الكونغرس، أن استخدامها لبرنامج نظام الرسائل الخاصة، والخادم الخاص، يعتبر انتهاكا لبروتوكول العمل الحكومي في وزارة الخارجية والقوانين الفيدرالية واللوائح التي تنظم متطلبات حفظ السجلات.
نظريات المؤامرة التي تتعكز على معلومة هنا، أو خبر هناك، لا قيمة لها، ولا عزاء لمروجيها لأنها لا تستطيع الصمود بوجه الحقائق
أزمة البريد الإلكتروني لهيلاري كلينتون ابتدأت عندما نشرت صحيفة «|نيويورك تايمز» في مارس/آذار 2015 مقالًا في صفحتها الأولى، عن استخدام كلينتون لبريدها الشخصي في المراسلات الرسمية ، جاء فيه،» إن النظام ربما انتهك المتطلبات الفيدرالية، وكان أمرا مقلقًا لمسؤولي الأرشيف الحكوميين الحاليين والسابقين» وقد اعتذرت هيلاري كلينتون عن خطئها علنا في سبتمبر/أيلول 2015 في لقاء تلفزيوني مع قناة «أي بي سي» الأمريكية، قالت فيه «كان ذلك خطأ، وأعتذر عن ذلك. أتحمل المسؤولية، فأنا أحاول أن أكون على قدر من الشفافية». كما كتبت كلينتون على صفحتها في موقع فيسبوك «كان عليّ أن أستعمل بريدين إلكترونيين، أحدهما للأمور الشخصية، والآخر لعملي في وزارة الخارجية، ولأنني لم أفعل ذلك فقد أخطأت. أعتذر عن ذلك، وأتحمل المسؤولية كاملة». ولم توجه السلطات الأمنية الفيدرالية الأمريكية (FBI) في التحقيق مع هيلاري كلينتون أمام الكونغرس الامريكي تهما خطيرة، بل وصفت الأمر بأنه «استهتار كبير» وعدم التزام ببروتوكلات العمل الحكومي.
اليوم يثير الإعلام الرسمي لبعض الدول مثل، الإمارات، والسعودية، ومصر والمرتبطة بها من وسائل الإعلام العربي، الكثير من نظريات المؤامرة التي تدعي وقوف إدارة الديمقراطيين خلف صعود نجم الإسلاميين، ولعب إدارة أوباما دورا جوهريا في إنشاء تنظيم الدولة الاسلامية الإرهابي «داعش» وانتشاره وسيطرته على أراض واسعة في العراق وسوريا، كما يتم الحديث عن مؤامرات مزعومة، اشترك فيها بعض القادة العراقيين والإيرانيين، مع إدارة حكومة الرئيس أوباما في الكوارث التي حصلت في منطقة الشرق الاوسط بين عامي 2014 و2018 . ويقف خلف تخوف البعض من خسارة ترامب للانتخابات، وفوز الديمقراطيين في الانتخابات المقبلة، سبب رئيس يحرك مخاوفهم ويحثهم على إطلاق نظريات المؤامرة، معتمدين على الورقة التي رمى بها ترامب مؤخرا، وهذا السبب هو احتمالية تراجع بايدن شبه المؤكدة عن الكثير من الخطوات التي اتخذها ترامب في عدة ملفات شرق أوسطية، مثل الانسحاب من اتفاق الملف النووي الإيراني، وملف دفع وتشجيع دول مجلس التعاون في الخليج نحو التطبيع مع إسرائيل، ووعود بايدن التي أطلقها حول إحياء حل الدولتين في ملف النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، بالاضافة إلى احتمالية تغيير السياسة الأمريكية تجاه بعض قضايا المنطقة الأخرى، التي شهدت دعم إدارة ترامب للنظم الشمولية، التي تشهد حالات التضييق على الحريات العامة، وحقوق الإنسان، التي تراجعت في عدد من الدول، بعد انهيار ثورات الربيع، وصعود حكومات شمولية جديدة في المنطقة.
فعلى سبيل المثال نجد أن حملة نظريات المؤامرة تكثفت بشكل واضح في الإعلام المصري الرسمي، للترويج للوثائق من زاوية مزاعم أنها «تحتوي على كثير من فضائح جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر، وتعاونها مع قطر بإشراف ومباركة إدارة أوباما لتدمير العالم العربي» وطبعا أن مثل هذا الكلام لم يرد لا جملة ولا تفصيلا في الرسائل الإلكترونية التي تم الكشف عنها سابقا، أو لاحقا من بريد وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، إذ أن الوثائق تحدثت عن دعم الإدارة الامريكية لـ»الربيع العربي» ودعم الديمقراطية في المنطقة، بدون الحديث عن دعم الإخوان أو غيرهم، ولكن تم الاعتراف في ثنايا بعض الرسائل بأن «الاسلاميين» وبشكل خاص «جماعة الإخوان المسلمين» لديهم القوة الشعبية الكبرى في مصر وبعض دول المنطقة، ويجب على الأنظمة وضع ذلك في اعتبارها، اذا أرادت القيام بخطوات إصلاحية حقيقية. وقد أجابت هيلاري كلينتون بوضوح، وبينت موقفها من حراك «الربيع العربي» في مذكراتها التي صدرت عام 2014 في كتاب بعنوان «خيارات صعبة» فقد خصصت الفصل الخامس عشر من الكتاب المعنون (الربيع العربي: الثورة) لتداعيات أحداث حركة الاحتجاجات الشعبية التي عمت المنطقة، ورؤية الولايات المتحدة، وإدارة أوباما للأمر، اذ بينت موقفها كوزيرة خارجية الولايات المتحدة من الثورة المصرية فقالت في الصفحة 331 من الكتاب: «كانت مناصرة الديمقراطية وحقوق الانسان في صلب قيادتنا للعالم، أكثر من نصف قرن. نعم، تهاودنا من حين إلى آخر بهذه القيم خدمة لمصالحنا الاستراتيجية والأمنية، بما يشمل الدعم البغيض للطغاة المناهضين للشيوعية خلال الحرب الباردة، مع نتائج مختلفة، ولكن يصعب علينا اللجوء إلى هذه التسويات أمام الشعب المصري المطالب بحقوقه المشروعة والفرص التي قلنا دائما إنه، وجميع الشعوب يستحقونها. وفي ما بدا ممكنا في السابق التركيز على مبارك، الذي دعم السلام والتعاون مع إسرائيل، ومطاردة الإرهابيين، بات من المستحيل راهنا إنكار الحقيقة، وهو أنه مستبد ذو قبضة حديدية، رئس نظاما فاسدا ومتحجرا».
في النهاية سيعرف الجميع أن ورقة «إيميلات هيلاري كلينتون» التي وصفها الرئيس ترامب بأنها «أكبر جريمة سياسية في التاريخ الأمريكي» ليست سوى زوبعة في فنجان، وان كل نظريات المؤامرة التي تتعكز على معلومة وردت هنا، أو خبر تم اجتزاؤه هناك، من بين ثنايا أكثر من ستين ألف رسالة إلكترونية، تم الكشف عنها، لا قيمة لها، وسيعرف الجميع أن الأمر محض هراء، وأن لا عزاء لمروجي نظريات المؤامرة التي لا تستطيع الصمود بوجه الحقائق.
صادق الطائي
القدس العربي