لا عزاء للعرب، وأمم الشرق تنطلق في مسيرتها التنموية الحضارية، لتبلغ نجاحاتها حدوداً غير مسبوقة، بينما العرب غافلون، تشغلهم هوامش السياسة عن قضية حضارية نهضوية كبرى، بها لا يحفلون، ومن أجلها لا يخطّطون ولا يعملون!
انطلق قطار التصدير بين تركيا والصين من مدينة إسطنبول التركية، يوم الرابع من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ليبلغ مدينة شيان الصينية، وهي إحدى المراكز الصناعية المهمة في وسط الصين، خصوصاً في صناعة النقل، خلال 12 يوماً. القطار حمل 42 حاوية من الأدوات الكهربائية التركية المصدّرة إلى الصين، فهل ينقص الصين أدواتٌ كهربائية لتستوردها من تركيا؟ أم هي تلك الخطة الكبرى التي رسمتها الصين لحضورها العالمي تحت اسم “مبادرة الطريق والحزام”، وباشرت تنفيذها منذ ثماني سنوات؟ وهي أيضاً الخطة التي التقطتها تركيا من أجل مصالحها الاستراتيجية وحضورها الإقليمي، وتعزيز “مكانتها المركزية” في المنطقة، بحسب تعبير وكالة الأناضول للأنباء، التركية؟!
تستطيع تركيا أن تعظّم فائدتها من الخطة الصينية “طريق الحرير”، لكونها امتلكت قدراتٍ صناعية، واقتصاداً غير تابع، على خلاف الاقتصاديات العربية
أهم ما تضمنته مبادرة “الطريق والحزام”، منذ إعلانها عام 2013، إقامة شبكات من الطرق والسكك الحديدية وأنابيب النفط والغاز وخطوط الطاقة الكهربائية والإنترنت، وغيرها من البنى التحتية، على امتداد خطوط كل من “طريق الحرير البرّية” و”الحزام البحري”، بحيث يربطان الصين بنحو 65 دولة في كل من آسيا وأوروبا وأفريقيا. وتكوّن طريق الحرير البري من ثلاثة خطوط رئيسية: الأول يربط شرق الصين بأوروبا عبر آسيا الوسطى، وهو بالضبط هذا الطريق الذي يعمل فيه قطار التصدير من تركيا إلى الصين وبالعكس، والذي يتصل أيضاً بخط يعبر تركيا نحو أوروبا، إذ سيعبر القطار في رحلته الأولى من إسطنبول إلى شيان، خمس دول: تركيا، جورجيا، أذربيجان، كازاخستان، ثم الصين، قاطعاً مسافة قدرها 8693 كيلومتراً.
الخط الثاني في مبادرة الطريق والحزام يُفترض أن يمتد من الصين إلى وسط آسيا وغربها ومنطقة الخليج العربي، وصولاً إلى البحر المتوسط. أما الثالث فيمر من الصين إلى جنوب شرقي آسيا، ثم جنوبي آسيا، فالمحيط الهندي. وبينما يستطيع بلدٌ، مثل تركيا، أن يعظّم فائدته من هذه الخطة الصينية، لكونها امتلكت قدراتٍ صناعية، واقتصاداً غير تابع، منذ سنوات، فإن بلادنا العربية لن تكون قادرةً على تحقيق مثل هذه الاستفادة، لأنها ما تزال تقبع في خانة الاقتصادات النامية، غير الصناعية، حتى لو توفرت على قدراتٍ مالية واستثمارية ضخمة.
تركيا التقطت الآفاق العظيمة التي تتيحها الخطة الصينية بشكل ممتاز، وذاك طبيعي ما دام الواقع التركي يقوم على خطةٍ نهضويةٍ مركزيةٍ تديرها حكومة مخلصة لبلادها
من الواضح أن الصينيين يريدون زيادة حضورهم وتأثيرهم الدوليين، عبر ربط الأسواق الناشئة مع بلادهم، ومن ثم زيادة الاستثمارات العالمية التي يحصلون عليها، فضلاً عن تعزيز التكامل بين الصين والاقتصاد العالمي، إذ يجري عادة في الخطاب الرسمي الصيني تحديد مضامين خطة الطريق والحزام في خمس نقاط: تناسق السياسات بين الدول المشاركة حول الاستراتيجيات والسياسات الخاصة بالتنمية الاقتصادية، ترابط الطرقات وتحسين البنية الأساسية عابرة الحدود وإقامة شبكة للنقل والمواصلات، تواصل الأعمال والتباحث في سبل تسهيل التجارة والاستثمار وإزالة الحواجز التجارية والاستثمارية ورفع سرعة الدورة الاقتصادية الإقليمية وجودتها، تداول العملات عبر المقاصّة بالعملات المحلية وتبادل العملات وتعزيز التعاون النقدي وإنشاء مؤسسات مالية للتنمية الإقليمية وخفض تكاليف المعاملات، وأخيراً توطيد العلاقات الشعبية بما ينعكس إيجابياً على تعزيز العلاقات الرسمية والتفاهم بين الدول المشاركة في مشروعات “الطريق والحزام”.
والحال أن تركيا التقطت الآفاق العظيمة التي تتيحها الخطة الصينية بشكل ممتاز، وذاك طبيعي ما دام الواقع التركي يقوم على خطةٍ نهضويةٍ مركزيةٍ تديرها حكومة مخلصة لبلادها، أياً كان موقفها منا، نحن العرب، أو من مصالحنا، وأياً كانت علاقات دولنا العربية المتضاربة معها، ما يعني أن التقاط الفرص والإفادة منها لا يمكن أن يتحقق عشوائياً، كما يفعل العرب منفردين هذه الأيام، بل يحتاج قاعدة متينة من التفكير والتنفيذ النهضويين، وهذا من فائض القول الذي يدركه كل ذي عقل وبصيرة من دون شك!
ما زال العرب مدعوين إلى الإفادة من نهضة الصين في بناء تنمية عميقة لدولهم ومجتمعاتهم
لا يمكننا القول، حتى الساعة، على الرغم من وجود بعض التطور في علاقات دول عربية مؤثرة مع الصين في السنوات الأخيرة، إن العلاقات العربية مع الصين انتقلت إلى المربع التنموي النهضوي، وغادرت زاوية السعي وراء النفط والتجارة، والذي ما يزال يجعلها محدودة في إطار سياسي أو تجاري نخبوي، مقارنةً مثلاً بما هو حال العلاقات العربية مع أوروبا والولايات المتحدة. وضمن هذا الإطار، يمكن تصنيف الزيارات الرسمية التي يتبادلها المسؤولون الصينيون مع نظرائهم في الدول العربية التي تقيم مع الصين علاقات اقتصادية وغير اقتصادية نشطة، وتضم قائمتها غالبية الدول العربية، بما فيها الدول الرئيسية الكبيرة والغنية، وكذلك الأمر بالنسبة لتوقيع اتفاقيات التعاون والشراكة بين الطرفين. وفي المنظور نفسه، يمكن النظر إلى العلاقات الصينية العربية التي تتم من خلال جامعة الدول العربية، بما في ذلك إدارة “منتدى التعاون العربي الصيني”، الذي أعلن تأسيسه في مقر الجامعة في القاهرة عام 2004، بهدف تعزيز فرص التقارب والتعاون بين الصين والعالم العربي، لأن الطابع الغالب لهذه العلاقات ما يزال يتركز في الجانب التجاري الذي يتخصّص فيه رجال الأعمال، بعيداً عن العلاقات السياسية الاستراتيجية، والثقافية العميقة.
ومن المؤسف أن دولاً أخرى في المنطقة، وفي مقدمتها تركيا، تثبت للعرب من خلال مشروع القطار الذي يربطها بالصين، ويجعلها نقطة وصل بين الصين وأوروبا، أنه كان في وسع العرب أفضل مما كان، وأن تأخرنا الحضاري ليس قدراً محتوماً وليس مرتبطاً برغبات القوى الدولية الإمبريالية، بل يمكننا أن نستبصر أدوات دولية أخرى، كما فعل جيراننا، وأن نطلق مشروعنا الحضاري من زاوية التنمية الاقتصادية، تماماً كما فعلت تركيا، بل كما فعلت الصين نفسها، تلك التي كانت عاصمتها قبل أقل من خمسين سنة لا تتوفر إلا على فندق خمس نجوم واحد!
ما زال العرب مدعوين إلى الإفادة من نهضة الصين في بناء تنمية عميقة لدولهم ومجتمعاتهم.
سامر خير أحمد
العربي الجديد